تعود العلاقة بين الدولة السورية والإسلام، ممثلاً في مؤسساته الرسمية أو غير الرسمية أو عبر خطابات المؤمنين بدوره في الحياة العامة الى ما قبل نيل سورية استقلالها السياسي في عام 1946.
فقد أتاحت فترة التنظيمات العثمانية فرصة للكثير من علماء الدين الدمشقيين تأسيس جمعيات خيرية ظاهرها الخطاب الدعوي والخيري لكنها ما انفكت عن ممارسة دور سياسي بشكل من الاشكال.
لقد جاءت الجمعيات كتعبير عن رغبة «العلماء» في استرداد نفوذهم بعد تضاؤل سلطتهم المعنوية على أثر الاجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية آنذاك في ما يعرف بالتنظيمات التي منحت قيمة الى المعرفة غير الدينية. إذ برزت سلطة المصلحين الذين اعتقدوا أنه من الضروري الاستعارة من أوروبا مفاهيمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا بد منها في تأسيس وبناء الدولة الحديثة، واعتبروا وفقاً لذلك أن العلماء يشكلون عائقاً في مشروع الاصلاح الذي اتبعته الدولة العثمانية مع نهاية عام 1860، والذي وجد تعبيره في طريقة تصميم المدارس العامة في الامبراطورية العثمانية عبر تلقين المهارات والمعرفة التي يتميز بها أصحاب الحرف الحديثة، سواء كانوا بيروقراطيين أو محامين أو أطباء أو ضباط جيش، وبازدياد عدد هذه المدارس تزايد عدد العثمانيين المتعلمين والمتمسكين بقيم التنظيمات حيث طرحوا مصالحنم ونظرتهم العامة بطريقة أضرّت بموقع العلماء وسلطتهم.
وجاء التهديد الأكبر لسلطة العلماء وتأثيرهم في المجتمع عبر ادخال المصلحين العثمانيين في عام 1869 قانوناً تعليمياً لاقامة نظام موحد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والاعدادية والعليا، وعلى رغم أنه لم يكن لهذا القانون سوى أثر ضئيل ومباشر في دمشق إلا أنه حرّض العلماء على المقارنة بين هذه المدارس ومدارس الارساليات التبشيرية التي بدأ عددها يتزايد في بلاد الشام.
واحتدم الجدل بقوة في كانون الثاني (يناير) 1879 عندما فتحت مدرسة بروتستانتية بريطانية لتعليم البنات المسلمات. عندها استغل الوالي الشهير مدحت باشا هذه المسألة ليقنع العلماء ووجهاء المسلمين بتشكيل جمعية خاصة هي «جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية» لتبادر الى تأسيس المدارس الابتدائية للأطفال المسلمين، وقد افتتحت الجمعية عدداً من المدارس للذكور والإناث. هكذا اذاً جاءت الجمعيات كرد سياسي غير مباشر على سياسة التعليم التي اتبعتها الدولة العثمانية خلال فترة ما يعرف بالتنظيمات، لقد كانت هذه الجمعيات بمثابة «البديل» بالنسبة الى العلماء، يهدفون من ورائها الى استرجاع تلك المكانة الاساسية التي كان يتمتع بها الاسلام داخل المجتمع والتي كانت تحمل لواءها طبقة العلماء.
بدأت أولى الجمعيات الخيرية بالتأسيس على يد الشيخ طاهر الجزائري الذي توفي عام 1920 والتي كان لها نشاطها البارز على مستوى التعليم وافتتاح المدارس ضمن فلسفة تقوم على اصلاح المجتمع من خلال التربية وعبر تمكين الفرد من الحفاظ على الفضائل والقيم والتمثل بالمثل الاسلامية العليا.
ازداد في ما بعد عدد الجمعيات في شكل كبير خصوصاً خلال فترة الانتداب الفرنسي على سورية 1920 – 1946، إذ تأسست «الجمعية الغراء» برئاسة محمد هاشم الخطيب الحسيني التي كانت بمثابة احتجاج ضد سياسة الانتداب الفرنسية في مجال التربية والتعليم، وكافحت الجمعية من أجل تدريس الدين الاسلامي وقامت بتأسيس مدارس دينية خاصة، يتم التدريس فيها من جانب العلماء. وقد مارست الجمعية في ما بعد نشاطاً سياسياً لافتاً بخاصة بعد نهاية الانتداب الفرنسي وخلال فترة الانتخابات المتتالية حيث كان لها نفوذ واضح داخل الوعي الجمعي الدمشقي وتأثير مهيمن في سلوك المجتمع وتقاليده حتى وصفتها الخارجية البريطانية في أحد تقاريرها لعام 1942 بـ «الحزب السوري» من خلال «تنظيم التظاهرات ضد الحكومة للاحتجاج على التراخيص التي تمنحها للأماكن التي تمارس داخلها الممارسات اللاأخلاقية بشتى أنواعها كسفور النساء وحضور النساء لدور السينما والملاهي وعلمنة مناهج التدريس».
تكاثرت في ما بعد الجمعيات الدينية والتي كانت تقود تأسيسها شخصيات بارزة في المجتمع الدمشقي معظمهم ينتمي الى طبقة «العلماء»، فقد تأسست جمعية «الهداية الاسلامية» عام 1931 وكان كامل القصار أشهر شخصياتها، ثم جمعية «التمدن الاسلامي» التي تأسست عام 1932، وكانت تضم ممثلي «طبقة البرجوازية الصغرى» من فقهاء، وخطباء جوامع، وأطباء ومحامين، وكان على رأسها عدد من الشخصيات البارزة ذات الانتماء العائلي التقليدي الدمشقي العريق كأحمد مظهر العظمة، ومحمد بهجة البيطار وغيرهم، وقد لعبت دوراً بارزاً في ما بعد في رفد «الكتلة الوطنية»، التي كان لها دور محوري في نيل سورية استقلالها السياسي عام 1946، بعدد من الرموز المؤثرة وفي الوقت نفسه أمدت حركة «الإخوان المسلمين» السورية التي تأسست في ما بعد بعدد من الأشخاص المؤثرين كعمر بهاء الدين الأميري في حلب ومحمد المبارك في دمشق وغيرهم، وقد أصدرت مجلة شهيرة كان لها تأثيرها الواسع في مصر في شكل خاص والمشرق العربي في شكل عام اسمها «التمدن الإسلامي»، فقد كان كتابها ينتمون إلى طيف واسع من الكتاب والأدباء اصحاب المكانة المتميزة في المجتمع السوري في تلك الفترة.
فضلاً عن ذلك كله فقد أسست الجمعية عدداً من مدارسها الثانوية في دمشق وغيرها كما كان للجمعية دور بارز في مساعدة الفلسطينيين أيام انتفاضة عام 1936، حيث أسست ما يُسمى «لجنة اعانة المنكوبين في القدس».
والى جانب هذه الجمعيات البارزة نجد عدداً كبيراً من الجمعيات الصغرى مثل جمعية التعاون الإسلامي، وجمعية التوجيه الإسلامي، وجمعية أعمال البر الإسلامي، وجمعية البر والأخلاق وغيرها. وقد كان لهذه الجمعيات دور بالغ التأثير في الدفاع عن قيم المجتمع والوقوف أمام موجة «التغريب» الزاحفة – كما تسميها -، وإذا كان دور هذه الجمعيات في هذه الفترة قد اقتصر أو تركز في شكل كبير منه على الجانب الخيري والتربوي والتعليمي فإنه قد انتقل خلال فترة الانتداب الفرنسي على سورية لممارسة دور سياسي محدود في البداية لكنه اتسع وأصبح مؤثراً، وكان أولى طلائعه تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في سورية، التي تعتبر كبرى حركات الإسلام السياسي التي أثّرت في التاريخ السوري المعاصر على فترات متباعدة.
إن تزايد انتشار الجمعيات الدينية ساعدها على تكثيف الصلات في ما بينها وتشبيك علاقاتها لزيادة تأثيرها على المستوى التعليمي والسياسي الذي كان حكراً على أبناء عائلات الملاك الأرستقراطية ذوي التعليم الغربي، إذ بالعودة إلى مهن البرلمانيين في سورية في الفترة ما بين 1919 إلى 1954 فإن عدد علماء الدين في البرلمان كان يتراوح بين واحد واثنين، أي أن العدد كان يتناقض بينما يتزايد عدد أعضاء البرلمان.
وهو ما شجع تأسيس «جمعية العلماء» عام 1937 التي كانت بمثابة جمعية نقابية للعلماء وقد كان هدفها واضحاً في «خدمة الإسلام» عبر ازدياد تأثير العلماء في المجال العام الاجتماعي والسياسي والتعليمي والتربوي، وكان مؤسس الجمعية كامل القصاب أحد رجالات حركة القومية العربية المؤثرين، وفي عام 1938 افتتحت جمعية العلماء نادياً هو الذي خطط في ما بعد لإنشاء مدرسة عليا لعلوم الشريعة، وفعلاً تأسست كلية الشريعة عام 1942.
لكن «جمعية العلماء» – وربما بسبب قيادة القصاب ذاته – لم تستطع أن تلعب دوراً مرجعياً للعلماء، ولذلك تأسست جمعية «رابطة العلماء» عام 1946، التي انتمى اليها الإخوان المسلمون وجمعية التمدن الإسلامي والجمعية الغراء وجمعية الهداية الإسلامية. وفي انتخابات عام 1947رشح كامل القصاب نفسه على لائحة أخرى غير تلك التي للائحة «رابطة العلماء».
إن تأثير هذه الجمعيات السياسي اختبر في شكل جلي خلال انتخابات عام 1943، فقد ساندت زعيم الحركة الوطنية ورئيس الجمهورية في ما بعد شكري القوتلي، وقد ضمت قائمته الانتخابية وجهاً بارزاً من وجوه قيادة «جمعية الغراء» الشيخ عبدالحميد الطباع، الزعيم الديني المحبوب والتاجر من حي الشاغور، مما أدى إلى انتصار لائحة القوتلي بسهولة.
إلا أن هذا التحالف لم يدم طويلاً، فلم يمض سوى عام واحد حتى حصل التصادم، وكان ذلك بمثابة نهاية للتعاون بين الطبقة الحاكمة والجمعيات الإسلامية، فانطلاقاً من مسيرة تظاهرية للاحتجاج ضد احتفال راقص كان مزمعاً إقامته، خرجت في دمشق مع نهاية أيار (مايو) 1944 تظاهرات صاخبة استمرت أياماً عدة توقفت خلالها حركة المدينة وأودت بحياة أربعة أشخاص. لقد استاءت الجمعيات الإسلامية من مسألة اشتراك نساء مسلمات في الحفل الذي نُظم بإشراف جمعية «نقطة الحليب» النسائية التي تشرف عليها نساء من الطبقة الراقية في دمشق واعتبر تحدياً للقيم الإسلامية، لقد اعتبر هذا التاريخ بمثابة التاريخ التدشيني لدور الجمعيات الإسلامية السياسي وبخاصة «الجمعية الغراء» واستعراض قوتها وتأثيرها داخل المجتمع السوري، إذ لم يكن دخول هذه الجمعيات إلى عالم السياسة المباشر من بابها الصريح بقدر ما أظهرت للمجتمع هدفها المتمثل في الدفاع عن الإسلام وحماية قيم المجتمع الدينية، ولذلك كان تأثيرها أشد بالنسبة الى مجتمع في حالة دفاع عن النفس ما دامت فكرة «القيم الغربية» تتماهى بالنسبة اليه مع «الاحتلال» الموجود على أرضه والمتمثل في القوات الفرنسية.
ولذلك وجدت هذه الجمعيات تأثيراً أكبر خلال المجتمع وساعدها ذلك في طرح نفسها بصفتها «حامي القيم المجتمعة المهددة». إن انصهار هذه الجمعيات الإسلامية في بوتقة واحدة هو ما شكّل في ما بعد «الإخوان المسلمين» كأكبر حركة سياسية إسلامية في سورية التي يعود ميلادُها إلى عام 1945.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.