آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

حقوق الإنسان في الإسلام: هل من حد فاصل بين خطاب إسلامي عربي وآخر إسلامي غير عربي؟

راشد الغنوشي


إذا كانت كل الديانات إنما جاءت حسب التصور الاسلامي لمصلحة الناس إقامة للعدل ودفعا للتظالم وبسطا للتراحم بينهم باعتبارهم جميعا عائلة واحدة متساوين، لا يتمايزون إلا بأعمالهم وخلقهم فإن شرائع حقوق الانسان مهما اختلفت مرجعياتها لا يمكن إلا أن تكون في لقاء حميم مع الديانات وبالخصوص مع الدين الذي يقدم نفسه خلاصتها وختامها: دين الاسلام، فقد أجمع علماؤه أن إقامة العدل المقصد الاسنى لبعثة الرسل.قال تعالى "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط" سورة الحديد.، وذلك عبر تحقيق مصلحة العباد وإسعادهم في العاجل والآجل (1)فحيث توجد المصلحة فثم شرع الله (2)، وكل ما خرج من العدل الى الظلم ومن المصلحة الى المفسدة ومن الرحمة الى ضدها فليس من الاسلام في شيء، إذ الاسلام عدل كله ورحمة كله.فكل ما ثبت أنه عدل ورحمة فهو من الاسلام وإن لم يرد في نص مخصوص إذ المدار على عدم المخالفة(3)،إذ السياسة كما عرفها ابن الصلاح فعل يكون معه الناس أقرب الى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي"(4)، وكل ما يخالف هذا الاصل حتى وإن ظهر أنه من الاسلام فهو عند التحقيق ليس كذلك.إذ اتفق علماء الاسلام كذلك أن كل ما هو معقول هو مشروع وكل مشروع هو معقول حتى وإن ظهر الامر على خلاف ذلك. إن "صحيح المنقول لا يمكن أن يخالف صريح المعقول"وكل ما جاء خلافا لذلك فان كان من الشرع فهو شرع ظني مؤول وليس شرعا قطعيا، وإن كان من المعقول فهو ظني وليس قطعيا(5).ومعنى ذلك أن كل ما هو مصلحة للعباد وخير وعدل ومعقول لا يمكن إلا أن يجد له مكانا مريحا في الاسلام، مثل مبادئ الحكم الديمقراطي وحقوق الانسان،الى سائر النظم والترتيبات الادارية والانتاجية التي ثبت نفعها للناس، وذلك إما في نصوصه الصريحة أو في مقاصده الثابتة. وبصرف النظر عن بعض الجزئيات القليلة المختلفة مع ما ورد في الاعلانات والعهود الدولية لحقوق الانسان والتي يحدث حول بعضها الاختلاف داخل الديمقراطيات الغربية ذاتها، مثل العقوبات على بعض الجنايات كجناية القتل العمد، هل يعاقب عليه بالقصاص أم بالسجن أم بالدية أم بعفو ولي الدم.؟ ومن مثل الضوابط على العلاقات الجنسية ومنها العلاقات الزوجية، عدا جزئيات محدودة فإن الاتجاه العام هو التوافق والانسجام.(6) ونحن نؤكد أن أن هذا هو الاتجاه العام للحركة الاسلامية في العالم، الاتجاه صوب التوافق مع الارث الانساني لا التصادم، الاتجاه صوب الاعتدال ورفض العنف سبيلا للمعارضة أو نهجا في الحكم، إلا أن يكون دفعا للاحتلال، والقبول بالتعددية السياسية وسائر مقومات النظام الديمقراطي، بما في ذلك التداول السلمي على السلطة.
2- ولأن الانسان ناقص بالطبع يحتدم في نفسه وفي محيطه صراع أبدي بين الخير والشر والحق والباطل والأثرة والايثار والعدل والظلم والتواضع والغطرسة فهو في كبد" لقد خلقنا الانسان في كبد"سورة البلد. وإنما جاءت الديانات لتعزيز قوى الخير والحق في الانسان والمجتمع وترجيح مسالك العدل وبيانها، فلا جرم أن تتغلب بواعث الهبوط والشر إما بسبب الجهل أو بسبب غلبة الرغبة الجامحة في الاشباع واللذة أو الرغبة في التسلط على الغير، فيركب عندها الى غايته كل مركب: مركب التضليل وقلب الحقائق وتزييف المفاهيم حتى ينقلب سلم القيم راسا على عقب، ولذلك كان لكل فرعون سحرة ينهضون بهذه المهمة"فخيل اليهم من سحرهم أنها تسعى"سورة طه. وهي المهمة التي ينهض بها اليوم الجهاز الاعلامي والايدولوجي الذي يحيط بالطغاة.فيعمدون الى تطويع كل المبادئ والقيم النبيلة لإضفاء الشرعية على أوضاع الظلم والفساد، يستوي في ذلك سلّم القيم السائد أكان ذا مرجعية دينية أم كان ذا مرجعية انسانية عقلانية هذه تفاصيل لا تهم مؤسسة الطغيان إذ الطغيان بذاته شريعة عليا لا تتردد في توظيف كل شيء تراه صالحا لاستمرار طغيانها وتابيده تؤثر الوسائل الناعمة حتى لا تضظر للطرائق الخشنة، فليس الاسلام محصنا من سعي الطغاة لتوظيفه زتطويعه.
3- لقد تعرض الاسلام ولا يزال مثل غيره من الايدولوجيات بما في ذلك مبادئ حقوق الانسان والديمقراطية والمجتمع المدني، لتأثيرات الجهل أو التحامل أو الرغبة المصممة في التطويع والتوظيف من قبل حكومات طاغية وجهات مغرضة ليتحول مجرد أداة بل ربما"أبرز المعوقات الثقافية لنشر واحترام الثقافة والشرعية الحقوقية في العالم العربي والغطاء الديني الذي تضفيه بعض الحكومات والجماعات الدينية وبعض المؤسسات الدينية الرسمية وقياداتها على الانتهاكات المستمرة للحريات الاساسية في العالم العربي أو على تحفظات الحكومات على الاتفاقيات والاعلانات الدولبية لحقوق الانسان" كما ورد في الورقة التأطيرية لهذه الندوة.
4- إنه بالرغم من حالة التجزئة السياسية التي فرضها ميزان القوة الدولي على الامة الاسلامية فلا هي توحدت على العقيدة كما كانت لأطول فترات تاريخها ولا توحدت حتى شعوبا على اساس المصالح، وبالخصوص العرب الذين فرض عليهم مستوى أتعس من التجزئة، وبالرغم أنه قد بذلت جهود جبارة لاصطناع أسس ثقافية تعطي مشروعية لهذه التجزئة إلا أن مشاعر الوحدة الاسلامية لا تزال قوية بين المسلمين تبدو بالخصوص عند الكوارث فيتحول المسلمون قلبا واحدا يبكي المنكوب، وما ذلك إلا بسبب ما ظل الاسلام ينهض به من توحيد يتجاوزالعقيدة الى الشعور بالهوية الواحدة الجامعة لكل معتنقيه والى الثقافة والفكر ورؤية الذات ماضيا ومستقبلا في إطار تلك الهوية الموحدة، على نحو لا يبدو معه يسيرا إقامة معالم واضحة لفكر اسلامي قومي يناظر الدول القومية القائمة أو حتى اللغات الناطقة، بله إقامة فواصل واضحة بين فكر اسلامي عربي وآخر اسلامي غير عربي، وهي المسلّمة الأساسية التي قامت عليها هذه الندوة، إذ افترضت دون برهان "أن المفكرين المجددين في العالم العربي يعانون من محدودية التأثير وربما الانعزالية" وذلك مقابل "ما حققه المسلمون في آسيا وإفريقيا واروبا من تجديد نسبي لخطاباتهم الدينية انعكس بدرجات متفاوتة على نشر واحترام ثقافة حقوق الانسان بين مسلمي العالم غير العربي..وأيا كان التقدير لتجديد الخطابات الدنية في العالم الاسلامي غير العربي فان المقارنة بالعالم غير العربي لن تكون لصالح هذا الاخير، حتى لو سلما بصحة الفرضية، والمشكل حسب الورقة "أن العالم العربي يعاني من نقص كبير في مدى معرفته بما حققه المسلمون في آسيا وافريقيا واروبا من تجديد نسبي لخطاباتهم الدينية"وأعجب ما في الامر حسب الورقة التأطيرية ان العالم العربي لا يزال "يتعامل مع خطاباته الاسلامية بوصفها مركزا للفكر الاسلامي"فما مصداقية هذه الفرضيات التي قدمتها الورقة وكأنها مسلمات رغم ما تحمله من تناقضات مع الواقع وتناقضات داخلها؟
5-1- تناقضها مع الواقع
أ- ليس من اليسير أن نظفر عند مسح منتوج الفكر الاسلامي على امتداد عالم الاسلام، بفواصل قومية تميز شعبا من شعوب المسلمين بله دولة من دولهم، بمذهب اسلامي يتماهى مع ذلك الشعب أو تلك الدولة بقدر ما نجد أنفسنا ازاء مدارس فقهية وعقدية وحركات اسلامية هي امتداد للماضي أو مستحدثة، ليس منها مدرسة تتماهى مع دولة حتى أصغرها مثل المذهب الاباضي، فرغم أنه المذهب الرسمي لدولة عمان إلا أن أكثر من ثلث السكان على مذاهب سنية ولربما كان عدد إباضيي الجزائر أكبر من مثلهم في عمان مع وجود أتباع المذهب في بلاد كثيرة. والامر ذاته يصدق على بقية المذاهب الاسلامية السنية والشيعية موزعة في الامة على امتداد القارات الخمس اليوم. ومعظم مسلمي اروبا هم امتداد لأصولهم العرقية والمذهبية في البلاد الاسلامية لا يتمايزون عنها حتى الآن بشيئ يذكر. 
ب- ولا يختلف أمر المذاهب الموروثة عن حال مدارس التجديد الحديثة في عالم الاسلام ليس هناك مركز وأطراف وإنما هناك فضاء ثقافي عقدي لا يكاد يعترف بما فرض من حواجز سياسية إذ يتعلق الامر بالتعامل مع الاسلام شأن المسلمين عندما يطوفون حول البيت الحرام تختفي أو تكاد الحواجز بينهم فلا يبقى من نداء غير نداء التوحيد لبيك اللاهم لبيك..وتتشابه المظاهر الى أبعد الحدود حتىلكأنهم كيان واحد.بشيئ من التجوز نستطيع أن ندعي أن الفكر الاسلامي معولم الى حد كبير. إنه سوق حرة لا تتوسطها كنيسية تفرض على المسلم وساطة محددة في التوجه الى ربه فكل مسؤول عن خياره. هم يعلمون أن ختم النبوة أنهى كل وصاية على البشر وجعل من كل مسلم خليفة لله ورسوله مسؤولا عن دينه أمام الله عز وجل، فعليه أن "يجتهد" وسعه في معرفة الطريق الى ربه، سيجد نفسه وسط مذاهب كثيرة وسيستمع الى أصوات كثيرة تجتذبه اليها، وعليه وحده تقع مسؤولية الاختيار"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"سورة الزمر. يستمع لكل قول ويستفتي قلبه ليتبع ما يهديه اليه اجتهاده، تلك مسؤوليته. المكتبة الاسلامية لا تعرض الاسلام دولا وشعوبا وإنما مدارس. ولذلك قد تجد مفكرا اسلاميا مقروء خارج الدولة التي نشأ فيها أكثر مما هو مقروء في دولته. الامام مالك بلغة اليوم سعودي ولكنه متبوع في افريقيا. ومالك ابن نبي الجزائري أحسب أنه قرئ في تونس تأثرنا بتراثه أكثر مما تأثر به الجزائريون وربما نكون تأثرنا بالمفكر الايراني علي شريعتي أكثر مما تأثر به الايرانيون بالخصوص بعد الثورة التي همشته لصالح فكر المراجع الرسمية. كما أن كتب المفكر السوداني حسن الترابي وراشد الغنوشي التي ترجمت الى التركية أثرت في الحركة الاسلامية التركية أكثر مما أثرت في بلاد عربية.
ج- للوقوف على سر انتشار هذا الفكر هنا وضموره هناك لا مناص من الوقوف على حاجات واقع محدد ومطالبه والتحديات التي يطرحها على الاسلاميين في تلك البئة. فالاسلاميون الذين نشأوا في وسط تسود فيه تحديات من نوع فكري علماني اجتماعي سيبحثون عن بضاعة فكرية اسلامية عقلانية تستجيب لذلك التحدي بينما مسلمون آخرون في قلب جزيرة العرب في نجد مثلا ليس مطروحا عليهم مثل ذلك التحدي ستكون قضاياهم من نوع آخر، مثل التدقيق والتنخيل في جزئيات العقائد وقضايا البدع. الحركة الاسلامية في تونس مثلا منذ ولادتها في بداية السبعينيات محاطة ببئة فكرية معلمنة لم تطرح على نفسها قضايا الشريعة لأن الاسلام ذاته من حيث كونه عقيدة وشعائر وهوية كان في الميزان والشك في إطار دولة شديدة العلمنة والتسلط، فلم يكن عجبا أن يجيئ طرح مثل هذه الحركة للاسلام فكريا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، إثباتا لجدارته في ساحة الجدل مع المذاهب المادية المطروحة واستيعابا للمطالب المطروحة في الساحة السياسية نضالا ضد الاستبداد لصالح بديل ديمقراطي ودعما للحركة النقابية العمالية ضد الجشع الراسمالي وتأصيلا لدور المراة في معركة النهوض الشاملة. وكلها تحديات مطروحة في السوق التونسية لم يكن بد للحركة الاسلامية من أجل دخول السوق وإثبات جدارتها فيها دون تقديم رؤاها وبدائلها منطلقة من الاسلام مستجيبة للتحديات وإلا نبذها السوق، فكان عليها أن تطور فكرها الذي ورثت جوانب منه عن فكر مشرقي ليست مطروحة عليه نفس تلك التحديات فدلفت الى السوق الاسلامي تبحث فيه عن مواد مخصوصة تستجيب للتحدياتها المطروحة عليها، وانصرفت عن مواد أخرى لا تتصل باهتماماتها. وجدت مثلا في فكر الترابي عن دور المرأة وتاصيل الديمقراطية وفي فكر شريعتي الايدولوجي وفي طرح الخميني للاسلام أنه ثورة المستضعفين وفي فكر ابن نبي الاجتماعي في تحليل ظاهرة الحضارة وفي فكر باقر الصدر الاقتصادي وجدت في كل ذلك مواد صالحة وأسلحة مجدية لخوض هذه المعارك الدائرة في بئتها. وفي ضوئها أقبلت على القيام مراجعة فكرها وتطويره للاقتدار على استيعاب تحديات الواقع في منظورات وقوالب اسلامية، مثّلت تجربة مبكرة في تبني القضايا الاساسية في الفكر الانساني مثل الدبمقراطية نظاما للحكم ونهجا في التغيير، وكذا حقوق الانسان ومنها حقوق النساء وحقوق الاقليات والنضال العالمي ضد قوى الهيمنة، وهو ما أهّلنا للقاء مع مطالب العمال ومطالب الحركة الديمقراطية وقضايا تحرر المراة والتحمس من وقت مبكر لحركة النضال ضد التمييز العنصري.هذا المنتوج الفكري جاء ثمرة لتفاعل مع واقع معين يطرح تحديات معينة. بينما الذين لم يكونوا يعيشون ذلك الواقع عندما فاجأتهم هذه الاطروحات في بداية الثمانينيات تجهموا في وجهها واستوحشوها بل ضللنا بعضهم ولئن تناقصوا بمرور الزمن فلم تعدم الساحة بقاياهم(7) في حين تفاعل معها أقوام آخرون يجابهون تحديات مماثلة في المغرب الاقصى مثلا وفي تركيا وفي أندونسيا فاقبلوا على ترجمتها، بينما الذين كتبت بلغتهم استوحشوها ولم يأخذوا في الاقبال عليها إلا في فترات لا حقة بعد سلسلة من المحن فرضت عليهم أن يقبلوا التفاعل والعيش في واقع تعددي لا يستمد شرعيته من الاسلام شرعية الفتح بل من شرعية التحرير من الاستعمار وهذا قد شارك فيه مسلمون وغير مسلمين بما يفرض الاعتراف بشرعية دولة تقوم على المواطنة أي امتلاك الوطن بالتساوي أي الشرعية الديمقراطية(8) التي تجد لها سندا قويا في أول وثيقة دستورية أسست لدولة المدينة هي الصحيفة(9)
د- قد يغري بالتمييز بين عالم اسلامي عربي وآخر غير عربي كما ذهبت الى ذلك مفكر ومؤرخ فرنسي حديث في كتابه "موعد مع الاسلام " اعتبر فيه أن "اصلاح الاسلام" حتى يستوعب قيم الحداثة ويتصالح مع الديمقراطية سيبدأ من خارج العالم العربي الذي هو ميؤوس منه بسبب هيمنة الاصولية السنية عليه وليدة فشل القومية في توحيد العرب ما أدى الى نزعة فاشية عدوانية أفرزت ابن لادن.وأن العلاج سيأتي من خارج العالم العربي من تركيا وإيران"(10 ) قد يغري بهذا التمييز ما يلاحظ من نجاح ديمقراطي نسبي في العالم الاسلامي غير العربي مقابل فشل ديمقراطي عربي واضح. وهذه حقيقة كشفت دراسات مؤشرات تنموية كثيرة أحلت العالم العربي في مؤخرة ركب الامم (11)، حتى ليصح القول بأن معظم المسلمين وهم غير عرب يتمتعون بمستوى من مستويات الحياة الديمقراطية خلافا لمعظم العرب الذين يرزحون تحت حكم أنظمة أقرب الى الفاشية. هل الامر عائد الى بنية مخصوصة في العقل العربي كما يزعم البعض أم هو ثمرة لفشل المشروع القومي ما اورث العرب أزمة وطهور نزعات فاشية؟
ذ- تفسير الفشل القائم بالاعاقة الذاتية الانطولوجية التكوينية، هو تفسير عنصري دحضته العلوم دحضا فالبشر كلهم يتوفورون على قابليات للتحضر إذا توفرت لهم الظروف المناسبة، فعلينا البحث في ظروفهم الموضوعية لتفسير ما يصيبون من نجاح أو فشل وليس عن جيناتهم البيولوجية أو الثقافية. وانطلاقة العرب الاولى يوم استنارت قلوبهم برسالة الاسلام وكانوا أبعد الناس عن التحضر شاهدة على ذلك وكذا شعوب كثيرة قديمة وحديثة. وكذا الانطلاقة المعاصرة لشعوب آسوية تعبد الابقار أو الاحجار. والورقة التأطيرية ذاتها لم تقدم تفسيرا لهذا العجز العربي الديمقراطي إلا بكونهم رافضين لفكر" المجددين" دون أن تحدد مفهومها للتجديد المرفوض ولا ذكرا لرموزه ولا سببا للرفض.
أما تفسير الفشل التحديثي أو الديمقراطي بفشل المشروع القومي في توحيد أمة العرب وفي ارساء نظام ديمقراطي حديث ما أورثها نزوعات فاشية عدوانية جعلها ميؤوسا منها فهو من باب تفسبر الشيئ بذاته هم فاشلون في التحديث والديمقراطية لأنهم فاشلون فيهما.
أما التفسير الاقرب الى العلمية فهو الذي يلقي الضوء على موقع العرب في الاستراتيجية الدولية الامبريالية من حيث منزلتهم في الاسلام القيادية، ومن حيث وقوعهم في عقدة التواصل بين القارات ومن حيث توفّر أرضهم على الطاقة التي تحرك العالم ما اقتضى تصميما دوليا على إعاقة كل محاولة لوحدتهم القومية أو لنهوضهم الاقليمي والحضاري، وما اقتضته من غرز الكيان الصهيوني في القلب منهم عاملا آخرلضمان التعويق. ونظرة واحدة لمحاولات نهوضهم منذ تجربة محمد علي في النصف الاول من القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه تكشف بوضوح عن قرار دولي بإعاقة كل مشروع نهضوي أيا كان الفريق الذي يقودهم علمانيا أو اسلاميا أو اشترتكيا.هذه تفاصيل لا تهم الاستراتيجي الغربي، فضلا عما يجده الكيان الصهيوني من دعم ثابت وما تجده الانظمة الدكتاتورية الفاسدة من دعم لاستمرار تسلطها على شعوبها مقابل ما وجدته مشاريع التحول الديمقراطي في العالم من دعم غربي. والموقف الرافض لأنظف عملية ديمقراطية جرت في المنطقة أعني الانتخابات الفلسطينية الاخيرة، شاهد حديث. لا يعني ذلك أن المنطقة ميؤوس منها. ولو كانت المنطقة ميؤوسا منطقها لتركوها وشانها.لا تزال المنطقة مفعمة بتطلعات النهوض ومتوفرة على طاقات للمقاومة لتغيير موازين القوى لا تضاهى بدل الخضوع لتلك الموازين كما حصل مع أمم أخرى انكسرت في حرب فاستسلمت لمبضع الجارح الغربي، كما فعل الالمان واليابانيون بينما هذه الامة طحنتها هزائم عديدة ولكنها لم تستسلم قط وشرفها أنها تقاوم ومن سار على الدرب وصل. وموازين القوة متحولة والايام دول" وتلك الايام نداولها بين الناس"آل عمران.واضح أن عالم الاسلام غير العربي الوطأة الدولية عليه عامة نسبيا أقل، للاسباب التي قدمت، رغم أن الجميع يجدون من التعويق الدولي أكثر مما يجدون من المعاملة المعقولة فضلا عن المشجعة بل هم معرضون للاستهداف كلما حاولوا تجاوز الخطوط الحمراء في الاستراتيجيا الغربية، كما حصل مع ايران زمن مصدق عندما تعرضت امدات الطاقة بالاسعار المطلوبة للخطر أو زمن الثورة وبالخصوص هذه الايام، وايران تحاول تجاوز الخطوط الحمراء في اكتساب التقنية ومقومات القوة.
ر- أما النجاح الديمقراطي النسبي في عالم الاسلام غير العربي فتفسيره ليس عائدا الى توفر قدر من فكر التجديد هناك لم يستوعبه العرب جهلا أو استعلاء منبعثا من نوع مركزية عربية سائدة، فذلك تفسير عجول وفطير، لم تدلل الورقة التأطيرية على صحته بشيء. فقد سبق منا القول إن الاسلام سوق دولية لا تعرف فيها البضائع بالمنشأ وإنما بالجدارة والنفع وقد يحسب للاتراك أنهم من أنشط شعوب المسلمين في مجال الترجمة ولذلك تنتشر بينهم كتابات المكتبة الاسلامية المعروفة بمختلف مدارسها سواء التراثية أو الحديثة: البنا، المودودي قطب،، سعيد حوا، مالك ابن نبي الترابي، الغزالي القرضاوي، الغنوشي، كما ترجموا كثيرا من الكتابات الايرانية. والملاحط هنا أن المدرسة التركية لم تتميز بانتاج فكري محدد بقدر ما هي تميزت بالنزعة البرغماتية العملية فهي تأخذ من الافكار ما يناسب أوضاعها، وهي على علم دقيق بالسقف الذي تتحرك تحته، وقد تدرك في ظروف محددة كالتي قادت الى تدخل الجيش وعزل البرفسور اربكان من السلطة وحل حزبه قد تدرك أن السقف الذي وضعه أعلى مما يطيق الواقع فتنزل به درجة أو درجات وتعيد صياغتها التنظيمية، ولكن أعجب ما في الامر أنها لا تنشغل مثل العرب بالجدل النظري، حول الشريعة وما هو ملزم وما هو غير ملزم. إنها عندما تنزل بسقف مطالبها لا تنزل بسقف الاسلام حتى يتواءم مع ما يطيق الواقع وإنما فقط تنزل درجة أو أكثر بمستوى مطالبها العملية أي ما هو مقدور على تطبيقه من الاسلام، أي أنها لا تقدم تنازلات نظرية كما فعلت العلمانيات الغربية وكما يتوهم بعض العلمانيين العرب فيتصورون أن للاسلاميين الاتراك اسلاما خاصا علمانيا يختلف عن اسلام العرب الاصولي وهو محض توهم فلم يسجل على الاتراك أنهم أسسوا نظريا لاسلام علماني أسقطوا منه الشريعة كلا أو جزء وإنما هم يعملون في ظل توجيهات الاسلام الواقعية :أن المسلم مكلف أن يطبق من الاسلام ما يستطيع. وفقا للتوجيه النبوي"ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"(رواه مسلم) فهم متفاعلون ببئتهم مدركون سقوفها ويتحركون وفقها. وذلك ما يفسر اقتصادهم في التنظير، فكان تجديدهم في الحقيقة تجديدا عمليا. المدرسة التركية مدرسة عملية لم تطرح على نفسها المهمة التي نسبها لهم الفرنسي آدلير"اصلاح الاسلام" تركوا تلك المهمة لمثله ولتلاميذه العرب. أما هم فقد شغلوا أنفسهم باصلاح واقعهم في ضوء ما يطيق من التطبيق الاسلامي.لأنهم مع كل المسلمين يومنون بحقيقة أن ا الاسلام صالح لكل زمان ومكان وما هو بحاجة لاصلاح. والايرانيون أنفسهم لم يمنعهم تشيعهم من الافادة من فكر الاصلاح السني فأهم الكتابات الاسلامية العربية مترجمة الى الفارسية كما أن كتابات أساسية إسلامية فارسية ترجمت الى العربية مثل كتابات علي شريعتي والخميني ومداري وغيرها.وكذا كتابات الندوي من الهند والمودودي واقبال من الباكستان.
5-2- ونصل هنا الى ملاحظة التناقض الداخلي في الورقة التأطيرية وهي بذاتها أثارته دون أن تترجمه بما يؤثر على المسلّمة الاساسية التي انبت عليها ألا وهي تقدّم الفكر الاسلامي غير العربي على مثيله العربي وزهد الاسلاميين العرب في الترجمة لفكر اخوانهم اعتدادا واستعلاء بمركزيتهم. يبدو التناقض واضحا فيما اورده من تاثر واحد على الاقل، من أشهر، ان لم يكن الاشهر على الاطلاق من بين المفكرين الاسلاميين العرب سيد قطب، تأثره بفكر ابي الاعلى المودودي أشهر مفكري الاسلام في شبه القارة الهندية والذي اعتبره ماكسيم ردودنسون منظّم الاسلام أي الذي صاغ الاسلام نظما. الملاحظ هنا أن معظم كتابات المودودي ترجمت وطبعت مرات في العالم العربي. ولم تمنع مركزية العرب – حسب دعوى الورقة التاطيرية- أن يتأثروا بالمودودي لدرجة التبعية "ليجني العالم العربي نتيجة ذلك أفكارا تكفيرية للانظمة والمجتمعات ودوامات متتالية من العنف حتى أصبحت غطاء لعنف الكثير من الجماعات الاسلامية في سبيل استعادة الدولة الاسلامية."ذلك"أن افكار المودودي على طرفي نقيض مع المنظومة الحقوقية ووجدت في العالم العربي تربة خصبة..وتخطت آثارها الدموية الى الآخر الحضاري.."
ولأن الوقت هنا لا يتسع لمناقشة هذه الاحكام العجلى بل والظالمة للمودودي وتحويله الى فرانكشاير أو دراغولا. تكفي شهادة على خطل هذا التأويل للمودودي وتجويله كبش فداء أن الرجل لا يزال الموجه الرئيسي إن لم يكن الوحيد للحركة الاسلامية في شبه القارة الهندية: الهند والباكستان وبنغلاداش وسيرالانكا والنيبال حيث توجد فروع للجماعة الاسلامية مع امتداداتها في المهاجر الغربية. وتعتبر كتابات المودودي المادة التربوية الاساسية إن لم تكن الوحيدة لكل هذا الامتداد الحركي الذي لم يعرف عنه قط لجوء الى طرائق العنف رغم الاضطهاد النسبي الذي تعرضوا له على امتداد خمس وستين سنة من عمر الجماعة الاسلامية، وليس ذلك مجرد سلوك عملي بل كتابات الرجل واضحة بلا غبش في رفض العنف سبيلا للتغيير(12). كما دافع في "الدستور الاسلامي" عن مجتمع ديمقراطي تعددي يتمتع فيه حتى غير المسلم بحق الاعتقاد والدعوة اليه حتى وإن أفضى ذلك الى كفر بعض المسلمين فتبعة ذلك لا تعود اليه وإنما عليهم.(13)أما فكرة الجاهلية والقومية فقد ترجمت في العالم العربي في سياق آخر غير السياق الذي طرحت فيه في الهند طرحت هناك لخدمة أقلية مسلمة تشعر بخطر على هويتها وسط أكثرية غير مسلمة بما يجعلها حريصة على التميز رغم أن المودودي كان ضد انفصال باكساتن عن الهند، إذ كانت فكرة الانفصال فكرة الرابطة الاسلامية وهي منظمة علمانية. فلما نقلت هذه الفكرة الى العالم العربي لاقت سياقا آخر سياق الصراع المحموم الذي اندلع في مصرفي بداية الخمسينيات وكان في جوهره صراعا على السلطة استخدمت فيه كل الاسلحة التي كانت في يد الطرفين أحدها استخدم قوة الدولة لاستئصال خصمه والآخر استخدم قوة العقيدة والفكرة للدفاع عن وجوده المهدد. رغم أن مؤسسة الاخوان الرسمية تصدت في غياهب السجون وفي أحلك ليالي المحنة لفتنة تكفير السلطة وهي العمود الفقري لتسيوغ الخروج المسلح. (14) إن ما حصل ويحصل من تطرف وعنف وترهيب مما لا يستحق أقل من الادانة بصرف النظر عن نوع معتقد الفاعل واتجاهه دينيا كان أم علمانيا، ما يمكن أن يفهم ولا ما تأسس عليه من أفكار ومذاهب خارج الظروف الموضوعية التي حصل فيها. وإلا فلماذا انتجت أفكار المودودي كل هذه الشرور المنسوبة اليها- لو صحت -ولم تنتج شيئا من ذلك في منبتها الأصلي؟.إن رسائل المودودي ما فتئت تبدئ وتعيد تأكيدا على "أن النظرية التي ينهض عليها نظام الاسلام الاجتماعي إنما هي أن افراد البشر كافة على ظهر الارض كلهم سلالة واحدة بعينها..وأن حقوق غير المسلمين جزء لا زم من الدستور الاسلامي ولا تنفك عنه أبدا..إن الدولة الاسلامية وإن قامت في ناحية من النواحي لا تحدد الحقوق الانسانية بالحدود الجغرافية.بل يضع الاسلام حقوقا سياسية عدة يامر بمراعاتها والمحافظة عليها ويوجبها لكل انسان على وجه الارض سواء أكان هذا الانسان ممن يسكن داخل الدولة الاسلامية أم خارجها عدوا كان ام صديقا والذي يهم هو حرمة الدم البشري فمن الحق أن الجائع يطعم ومن حق العاري أن يكسى ومن حق الجريح أن يداوى حتىوإن كان من عدو للدولة متبرصا..فهذه الحقوق والحقوق الاخرى إنما قد أنعم الله بها على الانسان من حيث هو انسان ولها منزلة الحقوق الاساسية في الدولة الاسلامية(15).
ليس السيد المودودي مبرئا فكره من الخطأ ولقد ناقشنا في كتبنا(16)عددا من آرائه في بنية الدولة الاسلامية تتعلق بانتقاص حقوق النساء وحقوق غير المسلمين ولكن ليس بحال موضع المؤاخذة في فكره السياسي ما يتصل بموقفه من العنف فهو أوضح مفكري الاسلام المعاصرين في حسمه القاطع الجازم في رفض طرائق العنف سبيلا للتغيير، وليت الحركة الاسلامية العربية قد تأثرت بفكر المودودي في هذا الجانب فتوفرت على نفس القدر من الوضوح والحسم في رفض هذا السبيل المهلك إذن لصانت شبابها ومجتمعاتها من شر مستطير لا يزال يفتك بمجتمعاتنا ويقدم كما ذكرت الورقة التأطيرية بحق مبررا لمزيد من كبت الحريات وانتهاك أبسط حقوق الانسان"،وهو ما ترك ثغرة خطيرة طالما دخل منها على مجتمعاتنا شر كبير بينما ظلت الحركة الاسلامية في شبه القارة الهندية بكل أجزائها معافاة من هذا البلاء على وجه التحديد ولكن ما ينبغي أن نجرد اختلاف الموقفين العربي والأعجمي في مسالة العنف عن الظروف الموضوعية التي تبلور فيها الموقفان.فهل عرفت شبه القارة الهندية ما عرفته البلاد العربية من قمع وحشي دفع بعض المعارضات-مخطئة- في فورة الياس والغضب- حتى الى استدعاء الاحتلال الخارجي للتخلص من احتلال داخلي؟ كلا لم يتجاوز العنف هناك حتى في ظل الانظمة العسكرية حدود الاحتمال البشري.
6- تبقى كلمة لا مناص من ذكرها حول موضوعة التجديد التي لا حظت الورقة أن أهلها في العالم العربي "يعانون من محدودية التاثيروربما الانعزالية أو الاقصاء رغم جهودهم الهائلة بسبب نجاح من يعادون التجديد في تشويه الدعوة الى التجديد" وأهلها. وتنعى الورقة على العرب أنهم ينقصهم الاطلاع على التجديد الحاصل في العالم الاسلامي غير العربي" يبدو أن التجديد المقصود هنا ليس هو التجديد في اصطلاح علماء الاسلام والذي محصوه تمحيصا بسبب وروده في حديث شهير بشر الامة بأن الله تعهد أن لا يصيبها القدم والهرم بل تظل تتجدد وتشبّب فكلما اعترتها الشيخوخة وتباطأت حركتها ودب فيها الفساد أرسل الله من يتولى تجديدها وضخّ دماء جديدة في شرايينها(17).علماء الاسلام مجمعون على أن التجديد المقصود ليس بحال تغييرا للدين بالحذف أو الاضافة أو التأويل السائق له الى السير مع كل فكرة أو ممارسة تفشوان في حياة الناس مهما كان تصادمها مع أصول الاسلام وثوابته بما يجعله تاربعا لا متبوعا، محكوما لا حاكما، كلا فهذا الدين كلمة الله الاخيرة فما يرضى إلا موقع السيادة والقيومية على الحياة. التجديد المطلوب اسلاميا هو نفض غبار التاريخ ونفايات الواقع عن حثائق الاسلام وإماطة ضروب الغلو والتشويه التي تكون قد ألصقت به."تجديد الدين: أن نحافظ على جوهره ومعالمه وخصائصه ومقوماته ونعود به الى ما كان عليه يوم ظهوره وبزوغ فجره على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين"(18)، ثم تفعيل الوسائل المناسبة لاستعادة التفاعل بينه وبين ما استجد في حياة الناس من معارف وتجارب وتحديات حتى يظل أبدا المحرك الاساسي للتاريخ والموجه لكل نشاط فردي وجماعي للمومنين به والسلطة العليا والميزان الاعلى لما هو خير وشر وحق وباطل.والمجددون المسلمون في عصرنا ليسوا بحال معوزلين بل هم أبرز قوى التأثير في الساحة على كل الصعد الفكرية والسياسية والمجتمعية. كتبهم أكثر الكتب قراءة وبرامجهم في التلفاز أشهر البرامج وجماعاتهم السياسية يلتف حولها السواد الاعظم من الجماهير، ونفوذهم المجتمعي في النقابات وكل حقوق النفع العام لا يضاهيه حتى نفوذ الماسكين بكل وسائل الترغيب والترهيب والتاثير. فهل من شخصيات اليوم أكثر تاثيرا في الساحة من الشيخ حسن البنا ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وسيد قطب وحسن الترابي وأحمد ياسين وعبدالسلام ياسين وسلمان العودة وعائض القرني وحسين فضل الله ونصر الله والخليلي..وأمثالهم، هؤلاء هم إذا دعوا الامة لبت وإذا استنفروها نفرت فهم بحق القادة، فبأي معنى يمكن وصفهم بالعزلة وقلة التأثير اللاهم إلا أن يكون غيرهم هو المقصود بالتجديد ممن استهدفوا ليس تجديد الاسلام وإنما تغييره أو كما صرح الفرنسي آنف الذكر " اصلاح الاسلام " بافتراض علة الفساد كامنة فيه، كما يدعي غلاة المحافظين الجدد وعتاة الاستشراق الصهيوني مثل برنارد لويس ودعاة الحرب الحضارية، فما يبقى أزاء ما يصفونه بالممانعة الاسلامية أو الاستثناء العربي من الخضوع لمبضع الجراح الحداثي الذي زعموا خضوع كل الامم والديانات له إلا الاسلام، ما يبقى من سبيل غير اصلاح الاسلام ذاته باخضاعه للجراحات الضرورية على غرار ما فعل بنظرائه من الديانات الاخرى حتى انتهى أمر مجتمعاتها الى الغرق في لجج من النسبية الاخلاقية والقيمية لا ساحل لها وفوضى مجتمعية وخلقية أطلقت يد السياسييين في الكذب على الشعوب واطلقت العنان لمنطق القوة أن يصول ويجول في خدمة السماسرة الدوليين المتوحشين يمتصون دماء الشعوب ويدمرون الطبيعة، كما أطلقت العنان لعرام الشهوات تمزق أنسجة المجتمع تمزيقا بلا ضابط ولا قيد حتى كادت الاسرة نواة المجتمع أن تصبح أثرا من الماضي وانتهى الامر الى أن كل ما ترغب فيه وتقدر عليه مباح لك بما في ذلك الزواج المثلي حتى بين قسيس وزميله، والى هذا تتجه أعرق الديمقراطيات، وما المانع ضمن متاهة النسبية الاخلاقية؟ ولم لا وقد أخضعت نصوص الدين للمناهج التاويلية المتحرفة فارتفعت الحدود بين الحلال والحرام والحق والباطل على مذهب ابن عربي"أصبح قلبي قابلا كل صورة" ؟فإذا كان التجديد المطلوب للاسلام هو إصلاحه بهذا المعنى وكان من رموزه السياسية آتاتورك وبورقيبة وشاه ايران ومن رموز تفسيره عركون ونصر ابو زيد وعبد المجيد الشرفي وسلمان رشدي، فهؤلاء هم فعلا معزولون عن الجماهير تلاحقهم الشبهات بعد أن ألجأهم المجددون الحقيقيون ممن ذكرنا الى جحر الضب، إذا كان التجديد كذلك فهو الى خيبة محققة وفشل مضمون بشهادة الواقع وأبلغ من ذلك شهادة رب العزة الذي تعهد بحفظ دينه"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"سورة الحجر. وهذا من قبيل دفع الامور الى نهاياتها وإلا فإن التجديد المطلوب ما يمكن لعاقل أن يسحبه الى مثل هذه المتاهة.
ويبقى للورقة التأطيرية بعد كل ذلك فضل الدفع لارتياد كل هذه المسائل المشكلة وتجلية كثير من المفاهيم الملتبسة بما ييسر لهذا الجيل من أمتنا الذي توزعته السبل أن يتجشم عناء تنقيط الحروف والتحدث بلغة واحدة مفهومة.
وفي ما عدا الفائدة الحوارية المحققة تظل الاطروحة الاساسية لا سند لها من الفكر ولا من الواقع فأمة الاسلام لا يزال يشدها اسلام واحد بمدارسه المختلفة العقدية والفقهية والتربيوية والسياسية المعاصرة، تشكل مجتمعة هويته الواحدة التي تنداح داخلها الافكار التجديدية والتقليدية دون اعتبار للجغرافيا يذكر. وللحقيقة فإن العرب وهم في المسلمين قلة ورغم شدة وطأة الاستراتيجية الدولية عليهم لا يزالون في نظر عموم شعوب الامة وبمقياس موضوعي يمثلون البوتقة الأساسية للتجديد واستيعاب قيم الحداثة مثل الديمقراطية وحقوق الانسان وحقوق النساء والاقليات، كما مركزالتاثيرات الكبرى الايجابية وحتى السلبية للاسف، وذلك لأسباب تاريخية وبنيوية في الاسلام وفي تاريخه وحضارته التي هي بمعنى ما حضارة عربية. فالقرآن عربي، وهو ما جعل للعرب في الاسلام مكان خاص.قال تعالى "وإنه لذكر لك ولقومك"، حتى أنه لم يقبل منهم غير الاسلام بينما قبل من غيرهم، وهو ما ربط بينهم وبين دعوته ربطا مصيريا. ولكن عرب اليوم كما تسلب منهم ثرواتهم المادية يراد لهم أن يجردوا من قوتهم المعنوية وفي طليعته الدور القيادي في أمة الاسلام، بينما القرآن يشهد لهم بالاصطفاء الرسالي وليس العرقي"الله أعلم حيث يجعل رسالاته". لقد تكاثرت السهام على العرب وأشدها إيلاما اهتزاز ثقتهم في أنفسهم ودورهم الرسالي والقيادي في الامة والعالم.
قال تعالى" قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني"يوسف.

------------------------------------
المراجع

(*) من أوراق مؤتمر: "حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني:كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي؟" الإسكندرية في 18-20 أبريل 2006

(1)يقول الامام الشاطبي"أنّا إذا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد" كتاب الموافقات ج2ص6دار المعرفة بيروت (2)الشيخ مصطفى شلبي : الفقه الاسلامي بين المثالية والواقعية
(3)ابن القيم الجوزية : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص4
(4)نفس المصدر
(5)ابن تيمية. توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول:الشبكة الإسلامية 
(6)الحريات العامة في الدولة الإسلامية: راشد الغنوشي.مركز دراسات الوحدة العربية
(7)صلاح الصاوي مفكر إسلامي مصري قريب من فكر السلف اعتبر في كتبه التعددية في الإسلام حركة الاتجاه الإسلامي، النهضة حاليا حركة علمانية لأنها طالبت بالاعتراف بتعددية لا تستثني الأحزاب العلمانية.
(8)د- محمد سليم العوا. في الدولة الإسلامية
(9) انظر مجموعة الوثائق السياسية للدكتور محمد حميد الله ص39
(10) انظر عرضا للكتاب المذكور للكسندر آدلر عند سيد ولد أبه.جريدة الشرق الاوسط30-03-2006 
(11) التقرير الثاني للتنمية العربية الصادر عن الأمم المتحدة 
12) المودودي: نصيحة الى الشباب المسلم
(13) المودودي: الدستور الإسلامي
(14) انظر دعاة لا قضاة للشيخ الهضيبي الأب
(15) المودودي: نظام الحياة في الإسلام ص42و43و47
(15) منها الحريات العامة في الدولة الإسلامية و "حقوق غير المسلم في الدولة الإسلامية
(16) حديث أبي داود"يبعص الله لهده الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر ينه)
(17) يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي ص48 
 



تاريخ النشر : 25-05-2006

6300 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com