ترافق البحث الإسلامي الحديث في حقوق الإنسان مع السؤال النهضوي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث أثيرت أسئلة كثيرة حول بعض حقوق الإنسان وبالخصوص حقوق المرأة وأهل الذمة والحريات، ومنذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإلى اليوم أخذت المقاربات الإسلامية لحقوق الإنسان تتوالى وتتكاثر، متخذة أشكالاً متعددة كالمواثيق والإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان، والدراسات المقارنة بين الشريعة والميثاق العالمي سواء لعموم الموضوع أو لأجزاء خاصة منه، ويغلب على تلك المقاربات والمقارنات نزعة تلفيقية أو توفيقية متفاوتة، فمنها من يبحث عن تأصيل تلك الحقوق في الإسلام لتثبيت الأسبقية الإسلامية فيها، ومنها من يبحث عن الفوارق ليدين أحدهما حسب الخلفية الأيديولوجية الموجِّهة، ومن تلك الدراسات ما يأخذ نزعة تأويلية للتوافق مع الإعلان أو تبرير الاختلاف عنه، لكن الأسئلة الجوهرية حول حقوق الإنسان في الإسلام قد غابت عن تلك المقاربات، وأهم هذه الأسئلة التي أرى أنه ينبغي أن يتحول البحث إليها هما سؤالان، الأول يتعلق بالمرجعية والثاني يتعلق بالفاعلية.
سؤال المرجعية:
ما يحرض سؤال المرجعية هو النزعة التلفيقة في المقاربات والتي تستبطن مرجعية أخرى، فالإعلان العالمي كان المقياس غير المعلن للموضوع، والمنطلق لمعرفة حقوق الإنسان في الإسلام، حتى تصنيف تلك الحقوق كان بالاقتباس من الميثاق العالمي مع تأصيل نصي لمضمون بنوده وتعديل لها بحسب المقتضى، وكأن الحضارة الإسلامية وبعد قرون من العالمية الإسلامية والنموذجية بين تواريخ الأمم قد اكتشفت من جديد هذه الحقوق وأصبحت من خلالها تعرض رؤيتها لتلك الحقوق، فالسؤال الذي لم يطرح كيف صيغت تلك الحقوق في الرؤية الإسلامية عبر التاريخ؟ لقد كانت هناك نصوص وقيم تحكم العلاقات بين الناس وبين المسلمين والعالم في مختلف ميادين الحياة، وقد تجسدت تلك القيم فيما يشبه القوانين المدونة يستند إليها الحكام والقضاة والمفتون في فض النزاعات أو ترخيص المهن أو حماية البيئة وغيرها، والمتخصص عندما يطالع كتب الفقه والقضاء والفتوى في زواياها الفرعية وقضاياها الزمانية سيجد من الأحكام والأقضية والتنظيرات ما يكشف عن منظومة من القيم والحقوق يفتقدها المسلمون اليوم تنظيراً وتطبيقاً، وللباحث الذي يمتلك الصبر في قراءة الكتب القديمة أن يتأكد من ذلك بمطالعة الأبواب المتعلقة بأحكام الصنائع والعمران والصحة والارتفاق والجوار والتقاضي والجهاد وغيرها، يضاف إلى ذلك أبواب الأخلاق والآداب المتعلقة بكرامة الإنسان والعلاقات الاجتماعية، ومن يعجز عن القراءة يمكنه أن يتجول في معالم الحضارة الإسلامية القائمة كبقايا المدن الإسلامية القائمة كالبيمارستانات ويتساءل عن تفسير أجزائها ووظائفها، وكذلك المنازل والأزقة ومعالم المدينة الإسلامية وماذا يعني كل معلم فيها، وكل سؤال قد يثار سنجد لدى الباحثين المتخصصين في موضوعه أجوبة ترتبط بقيم إسلامية وأحكام فقهية كانت تحكم تلك المعالم، وقد تنبه بعض الباحثين في التراث لاسيما الغربيين منهم لهذه القيم بينما غابت عن كثير من الإسلاميين المعاصرين الذين راحوا يبحثون عن حقوق الإنسان في الإسلام عبر مفتاح غير إسلامي، فظلوا في فلك الكلام والتلفيق، ولم بفلحوا في التأصيل ولا في الإقناع بمكانة حقوق الإنسان في الإسلام.
لا يمكن بحال أن يعيش المسلم معزولاً عن العالم وغير متأثر بحراكه وأسئلته المتحدية وعلى رأسها موضوع عالمي كحقوق الإنسان، لكن الوعي باللحظة العالمية لا يعني الدوران بفلكها مع نفي لهذا الانجذاب أو ادعاء الاختلاف معه، والاستجابة العلمية والمشاركة العملية في هذه القضايا يقتضي الوعي باختلاف المرجعية دون القول بتنافيها ضرورة، والوعي بالاختلاف يقتضي البحث في المرجعية المعلنة والمدعاة من مداخلها وبأسئلتها ومن خلال قراءة تاريخ تجلياتها عبر التاريخ، عند ذلك يمكن أن يكون هناك لقاء أو اختلاف مع المرجعية العالمية والمعاصرة، لكن هذا اللقاء أو الاختلاف ينبغي أن يكون غائباً في ذهن الباحث وأن يُكتشف كنتيجة لئلا يتحول إلى هاجس يوجه البحث، فهل يستأنف باحثو حقوق الإنسان في الإسلام بحثها من خلال حضارة يمتد تاريخها أربعة عشر قرناً ومدونات متخصصة تغطي مختلف مجالات الحياة، لكن الخوض في هذه المدونات لن يكون مجدياً ما لم يتزود الباحث بعدة منهجية معاصرة وبحيادية علمية بعيدة عن الخلفيات.
سؤال الفاعلية:
السؤال الثاني والهام الذي لم يتطرق له باحثو موضوع حقوق الإنسان في الإسلام، هو سؤال الفاعلية، وأعني بذلك أن التغني بحقوق الإنسان في الإسلام والكتابة حولها لم يرافقها سؤال جوهري هو: لماذا غابت معظم هذه الحقوق في عالمنا الإسلامي المعاصر؟ وانتهك الكثير منها في تاريخنا الإسلامي؟، ويتبع ذلك سؤال آخر كيف نفعِّل هذه الحقوق على أرض الواقع ونجسدها في حياتنا، فما دامت إشكالية الهوية قد غابت عندما أسميناها حقوقاً إسلامية فلماذا تنتهك هذه الحقوق مع أن انتهاك بعضها يعتبر من كبائر المعاصي في الإسلام؟، لماذا يغيب النضال الإسلامي لتجسيد هذه الحقوق؟ على الأقل أن يرتقي إلى نضال دعاة حقوق الإنسان العالمية، لقد غابت الإجابات عن هذه الأسئلة، ولا غرابة في ذلك لأن المنهج السائد عملياً في دراسات حقوق الإنسان في الإسلام لا يحمل هاجس هذه الأسئلة، فالذي ينقص المسلمين اليوم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة – حسب عبارة مالك بن نبي- فالدارسون لحقوق الإنسان في الإسلام لا يفكرون ليعملوا بل ليقولوا كلاماً مجرداً، فالمحرك هاجس الدفاع الذي يعكس عقد نقص تجاه العالم المعاصر.
إن الإجابة عن سؤال الفاعلية مرتبطة بالإجابة عن سؤال المرجعية، ذلك أن بحث حقوق الإنسان في الإسلام من خلال مرجعيته الخاصة ومن خلال نسقه النصي والتاريخي سيقود إلى آليات استمرارية تفعيل تلك الحقوق وتجسيدها على أرض الواقع، وسيكشف هذا البحث عن القيمة الجوهرية التي كانت تحتلها بعض الحقوق حتى أصبحت خطاً أحمر يصعب انتهاكه، وكيف سقطت تلك القيمة الجوهرية في مراحل أخرى وكيف يمكن استعادتها في عصرنا الراهن.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.