آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الفكر السياسي  .  الحقوق و الحريات

التراث السياسي    |    الدين و الدولة    |    الإسلام السياسي

  •     

الصراع بين حرية التعبير وقيم التسامح

رضوان جودت زيادة


إن تاريخ المجتمعات مليء بأشكال مختلفة من قمع حرية الرأي والتعبير عبر مصادرة الكتب أو منعها من التداول أو حتى حرقها كما حصل مع ابن رشد على سبيل المثال.

ويفاخر التاريخ الأميركي غالباً بأنه التجربة الأكثر دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير كما نص على ذلك التعديل الأول للدستور الأميركي، فالأميركيون وضعوا، لأول مرة في تاريخ العالم، الشعب قبل الدولة، فأي نظام سياسي افترض مسبقاً أن الحكومة تستطيع أن تراقب مضمون التعبير عندما يكون مسيئاً لهذه السلطة، أما إعلان الاستقلال الأميركي فقد عكس اتجاه السلطة، فأصبحت من الشعب بدلاً من أن تكون إلى الشعب، فالشعب هو الذي احتاج لنظامٍ لحرية التعبير يكون محصناً إلى حد كبير من رقابة الحكومة. وعلى رغم ذلك كله، فإن التاريخ الأميركي شهد حظر كتاب «الأودية» لجيمس جويس، وكتاب «مدار السرطان» لهنري ميللر، وكتاب «أوراق من العشب» لوالت هويتمان.

هذا فضلاً عن القوانين التي صدرت في أكثر من دولة أوروبية وأصبحت تستخدم كسلاح من أجل تقييد حرية الرأي والتعبير كما في القانون الذي يجرم الحديث عن المحارق النازية بحق اليهود في فرنسا وألمانيا والنمسا وبلجيكا، وغالباً ما يستخدم التشهير بمعاداة السامية لمنع الكلام حول ذلك حتى ولو اتصف بالتاريخية والعلمية مع قناعتي بالحساسية الفائقة لهذا الموضوع في السياق التاريخي الأوروبي. ومؤخراً أتى تقديم مشروع قانون في البرلمان الفرنسي حول الإبادة الأرمينية ليوسع حلقة تقييد حرية الرأي والتعبير في سبيل منع تصاعد أصوات الكراهية العنصرية.

ومن هنا بدت الحاجة ملحة لتحصين حرية التعبير ليس عبر ضمانات سياسية ربما كانت موقتة، وإنما بواسطة «ضمانات قانونية» على اعتبار أن حرية الرأي والتعبير لم تكن مطلقة أبداً وإنما كانت عبارة عن «توازن بين القوى المتنافسة».
تتحدد هذه الضمانات القانونية بثلاثة معايير للحكم حول حرية الرأي والتعبير:
1- يجب سن قواعد لتحكم تنظيم محتوى أو مضمون الكلام داخل المجال العام للمجتمع.
2- يجب ابتكار قواعد للتحكم بحرية التعبير بعيداً عن المضمون، بمعنى تطوير نظام مفهوم لحرية التعبير يجب أن يسمح للمجتمع بقدر من الحرية لسن القوانين التي لا علاقة لها بمضمون الكلام ولا بشخصية المتحدثين.
3- يجب ابتكار القواعد التي تحكم تنظيم التعبير في مواقع خاصة بعيداً عن المجال العام، أي إتاحة أوقات أو أماكن لا يكون للحكومة فيها دور في تنظيم المجال العام للأفكار، بل تظهر وكأنها مجرد شريك وليست منظماً.

بيد أن هذه القواعد الثلاث التي من شأنها أن تنظم حرية الرأي والتعبير عليها أن تستند إلى مبدأين أو ركيزتين أساسيتين: الأولى هي أن معارضة الفكرة لا تبرر الحد من حرية الرأي والتعبير، والثانية هي أن الحكومة يجب أن لا تأخذ على عاتقها وظيفة الراعي أو المنظم لهذا الحق، وإنما عليها أن تستند دوماً إلى مبدأ الحياد، فالحكومة لا يجوز لها أن «تقلب وتختار» بين الأفكار، ولكنها يجب أن تكون «محايدة في وجهة نظرها»، فجميع الأفكار تخلق متساوية بما فيها تلك الأفكار المدانة عالمياً التي تعتبر ضد هذه المبادئ العمومية السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، إذ لا يوجد شيء اسمه فكرة زائفة مهما بدت ضارة أو مؤذية، فتصحيحها لا يعتمد على قرار الحكومة في صوابها أو خطأها وإنما على تنافس الأفكار الأخرى معها.

لكن، ما من مجتمع حصل على حرية التعبير كمنحة من السلطة أو الحكومة، إنها حصيلة مسيرة تاريخية من الشد والجذب بين القوى السياسية والاجتماعية داخل المجتمع كما قلنا، كما أنها تنزع قدماً نحو الأمام على قدر قدرتها على تجاوز المحن أو المصاعب التي تعترضها أو تعترض مسيرتها من خلال المجتمع، فبقدر ما تأخذ القوى السياسية والاجتماعية مواقف حاسمة باتجاه احترام حرية الرأي والتعبير بقدر ما تتعزز هذه الحرية وتصبح أكثر رسوخاً واستقراراً كقيمة اجتماعية عليا داخل المجتمع، ولكن عندما ترضخ هذه القوى لنمط من التوازنات على حساب حرية الرأي والتعبير فإن هذه القيمة غالباً ما تخبو رويداً رويداً ليجد المجال العام نفسه مملوكاً بالكامل للقوى السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المهيمنة.

وإذا كان الجدل بشأن التصريحات السياسية ومدى ارتباطها بحرية الرأي والتعبير يبدو واضحاً أو على الأقل قليل الالتباس، ويسهل تحديد الكفة الراجحة المتعلقة بضمان حرية الرأي والتعبير، فإن هذا الحق يصبح مصدر نقاش وتساؤل في ما يتعلق بالقضايا ذات الحساسية الخاصة لمجتمع من المجتمعات التي غالباً ما تمس استقراره، ولذلك يغدو أصعب سؤال في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير هو: هل يظل هذا الحق مكفولاً في حال التعبير الذي يهدف إلى نشر عدم التسامح مع آراء ومعتقدات الآخرين؟ أو ما يسمى «تعبير الكراهية» أو «التعبير الذي يحض على الكراهية»، أي تعبير الهجوم المبني على العرق أو اللون أو الدين أو التفضيل الجنسي. إن الامتحان الأكبر الذي تتعرض له حرية التعبير يتعلق بالقدرة على تحديد النقطة التي ينتهي عندها حق الإنسان في التعبير عن رأيه بحرية ليدخل في فعل التحريض على الكراهية، والفعل هنا ليس مرتبطاً بممارسة جسدية، إذ أنه قد يتجلى في شكل من أشكال التعبير اللفظي.

هنالك نظريتان متعارضتان في تفسير هذا الموقف، الأولى تشير إلى أن قيمة التعبير الحر تعد أكثر أهمية من قيم التسامح والتضامن والمساواة وغيرها التي غالباً ما يضحى بقيمة حرية الرأي والتعبير من أجلها. يقول المؤرخ وودوارد «إذا منعنا التعبير، أو فرضنا عليه الرقابة أو عاقبناه بسبب محتواه، أو بسبب الدوافع المنسوبة إلى هؤلاء الذين يروجون هذا التعبير، فإن التعبير لا يصبح بعد ذلك حراً. إذ سوف يكون تابعاً لقيم أخرى نعتقد أن لا أولوية لها أمام قيمة التعبير الحر».

في المقابل، تستند النظرية الأخرى الى أن أهداف الجماعة في التسامح والمساواة لا يمكن توفرها إلا في نطاق إطار حرية الرأي والتعبير، إلا أن تعابير الكراهية تهدد هذه القيم مما يهدد بفقد حرية الرأي والتعبير ذاتها التي لا يمكن أن توجد إلا في إطار من التسامح والود يسيطر على المجتمع، وعلى هذا فتكون لقيم المساواة والتسامح أهمية أكبر للمجتمع الإنساني من حرية التعبير.

من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نتخذ موقفاً مؤيداً لأي من النظريتين، لأن الحراك الاجتماعي للمجتمع المفتوح هو ما يحدد له أياً من النظريات يمكن اتباعها، إذ بقدر ما يجب الدفاع عن حرية التعبير بوصفها ركناً أساسياً يتيح تطور المجتمع لا بد من حماية المجتمع أيضاً من تعابير الكراهية التي قد تعصف بتسامحه وربما حتى باستقراره، والصراع بين الطرفين يمكن التوفيق بينه وحله بإيجابية بالتزام قوي بمبادئ حرية التعبير وبنفس الوقت الحد من نشاط الكراهية بكل أشكاله عبر تعميق قيم التسامح واحترام الكرامة الإنسانية بدلاً من إجراءات العقاب والإكراه والجبر.


تاريخ النشر : 20-05-2007

6135 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com