آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الفكر السياسي  .  الدين و الدولة

التراث السياسي    |    الحقوق و الحريات    |    الإسلام السياسي

  •     

إشكالية الدين والدولة في العالم الإسلامي غير العربي

حميد رضا آيت اللهي


عندما يرغب هؤلاء الذين تربت عقولهم على الفكر الغربى فى دراسة العالم الاسلامى، فحتماً ما يتحولون لمفاهيم الدين والعلمانية. لكن الكلمات لا تحمل دوماً نفس المعنى فى السياقات المختلفة، وهو مايصدق جداً من منظور الحضارات المختلفة؛ ومن ثم, يلزم تحديد تعريف الدين والعلمانية من منظور علاقتهما بالاسلام, وذلك قبل الشروع فى مناقشة مدلولاتهما فى التاريخ الاسلامى.
بالنسبة لأى شخص على دراية بالإسلام. يتضح بجلاء شديد أن معنى هذين المصطلحين فى اللغات المرتبطة بالحضارة الاسلامية ليس هو نفس المعنى الذى يحملانه في اللغات الأوربية المختلفة. فلا يوجد في الإسلام تفرقة بين الديني والعلماني, أو المقدس والدنس، كما هو الحال فى المسيحية. وما يسمى "معضلة الدين والدولة" لها تاريخ طويل في التقافة الغربية لا يمكن فهمه إلا في سياق هذه الثقافة. وأنا من الرأي أنه كي يتسنى لنا فهم الأمر، علينا دراسة خلفيتين وأساسين مهمين في هذا الشأن: هما المسيحية والحداثة (ليس التحديث)؛ واللذين أوجداً حلاً علمانياً للمشكلة. 
يتمثل جوهر المسيحية في أن أفضل طريقة لحماية الدين والدولة في نفس الوقت هو الفصل بينهما، وهو ما ينال قبولاً عاماً في الثقافة الغربية، بيد أن هذا ليس هول الحال بالنسبة للإسلام.
أولاً وقبل كل شيء، علينا أن ندرس الاختلافات الجوهرية بين الإسلام والمسيحية من هذا المنظور؛ وذلك بغية الوصول لفهم أعمق للمشكلة في الدول الإسلامية. إن السلوكيات الاجتماعية في الإسلام، وكذا الدور الهام لكل الأبعاد الاجتماعية والسياسة في حياة البشر التي تنادي بها العقائد الإسلامية تختلف اختلافاً كبيراً عن المسيحية التي هي بالأحرى دين فردي وأخلاقي. 
أنا بحكم كوني أستاذاً جامعياً أدرس الفلسفة والدين، أشير هنا إلى بعض الاختلافات بين العقائد الجوهرية في هذه الأديان التي تتطلب من كل فرد الالتزام ببعض التعاليم:
فالإسلام، مثله مثل اليهودية، فيه الفقه الديني، الأمر الذي لا يتوفر في المسيحية التي تركز على الأخلاقيات. وبسبب هذا التوصيف، تغلغلت الشريعة الدينية في كل جوانب حياة المؤمن المسلم. علاوة على ذلك، كون الإسلام يحتوى على الكثير من القوانين الدينية الاجتماعية، يجعله هذا أكثر مساساً بالأنشطة الاجتماعية في المجتمع. الإسلام لا يُعنى فقط بعلاقة الإنسان بربه على أنها السبيل الوحيد لتغيير روحانياته. ونظراً لهذا الاختلاف، دور الخبرة الدينية في المسيحية أهم منه في الإسلام. إن الكثير من العقائد تركز على أن علاقة الإنسان بربه لن تكتمل مالم يؤدي المؤمن ما عليه من واجبات والتزامات تجاه المجتع، والتي تشمل كل جوانب الحياة مثل الجوانب الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والتنمية الاجتماعية. ومن ثم، إذا ما أراد المسلم أن يكون مؤمناً حقاً، عليه ألا يتجاهل تلك الواجات الاجتماعية التي عليه تأديتها. 
مثلاُ لا يمكننا الحديث عن الاقتصاد المسيحي أو البنك المسيحي، في حين أنه من الطبيعي جداً أن نتحدث عن الاقتصاد الإسلامي أو البنك الإسلامي، الأمر الذي يعني وجوب دراسة بعض الأبعاد الإنسانية الحياتية في المجتمعات الإسلامية، في حين قد لا يتعين النظر فيها في المسيحية.
وحيث أن القانون الاجتماعي من المواصفات الأساسية في الإسلام، يجب أن تدرس أنشطة الدولة وإطار عملها ن منظور الشريعة الإسلامية. والإسلام أيضاً فيه إطار اقتصادي ومنهج قيمي قد لا يتقبل كل الأطر الاقتصادية القائمة على استقلالية الإنسان بمنأى عن النظام الذي وضعه الله. هذا ويتضمن الإسلام أيضاً بعض التعاليم الأساسية المتعلقة بالسياسة والتي تقوم على أسسها الخاصة. ويقيناً، يرفض الدين بعض الأفكار السياسية مثل العنصرية، والإمبريالية، والإكراه على قبول حكومة سياسية...إلخ، ويقبل بعض الأفكار الأخرى. 
ويعزى أحد الاختلافات الأخرى الهامة بين الإسلام والأديان الأخرى إلى التفات الإسلام للمسائل الدنيوية الخاصة بالإنسان، إلى جانب التخطيط للحياة المستقبلية؛ وحياتنا مليئة بالكثير من الأنشطة التي نعتقد أنها غير دينية، إلا أنه في الإسلام، كل نشاط يقوم به الإنسان يعتبر نشاطاً دينياً. فعلى سبيل الثال، ينظر الإسلام إلى العلاقة الجنسية بين الزوجين على أنها عبادة مثل العبادات الأخرى. ورغم أن هذه العلاقة يجب أن تقام وفقاً لنظام إلهي يجعلها في بعض الحالات علاقة محرمة، وفي البعض الآخر مسموح بها؛ فإلى جانب المكروهية في بعض الحالات، لا يفكر الإسلام في العلاقة الجنسية على أنها بعيدة عن الواجب الروحاني للإنسان. مفاد هذا أن معنى العبادة يختلف في الإسلام والأنشطة التي يزاولها المرء في الشئون الدنيوية هي في حد ذاتها أنشطة روحانية. لعلنا لا نفصل هنا بين سعي الإنسان في دنياه عن الترتيب للحياة بعد الموت. وهذه الفكرة هي التي تجعل العلمانية بعيدة عن المجتمع الإسلامي أكثر من غيرها. 
وبناءً على الاختلاف الهام المذكور آنفاً بين الإسلام والمسيحية، يمكن تقبل فصل الدين والسياسة بشكل طبيعي أكثر في مجمتع إسلامي غالبيته من المسلمين المؤمنين بحق، لن يكون هذا المجتمع مجتمعاً مستقراً لأن هذا ليس طبيعياً فيه، كما سيتغير هذا المجتمع بعد بعض العقود أو بعد جيل أو أكثر. وخير أمثلة على ذلك هو تجربتي تركيا في عهد أتاتورك، وإيران في عهد ريزا شاه. 
أما التحول إلى العلمانية في الغرب، فله خلفية أخرى؛ ألا وهي الحداثة. ونظراً لأني عضو أكاديمي في قسم الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، فأنا أبحث الموضوع من منظور فلسفي. 
إن الحداثة التي تعد حقيقة تاريخية ممتدة منذ ثلاثة أو أربعة عقود في سياق غربي تختلف عن التحديث. فالحداثة الغربية تقوم على النزعة الإنسانية والذاتية، والإزدواجية، مع نزعة علمية خفية في الفترة الحديثة. والإنسانية التي لا تعبر بالضرورة عن سلوك جمالي جعلت استقلال الإنسان من كل النظم الإلهية في صميم خطابها. فعادة ما كانت تتحدث هذه المدرسة عن الله، ولكن كمعنى وعي لمفهوم الإنسان الذاتي. وفي الفترة الحديثة، بدأ يكون هناك نوع مختلف من الإيمان بالله، لكنه كان هذا إيماناً يقوم على الإنسان نفسه ويستقي معناه من وجهة نظر ذاتية انسانياً، وليس كحقيقة خارجية مستقلة عن البشر. أما العلمانية فتنطوي على أفكار ونظم ذات أصل إنساني بحت، غير مستقاة من أي مصدر مُستَلهم. 
اصبحت العلمانية في وجود الإنسان الاجتماعي والتاريخي تكتسب واقعية في عٍظم الين نفسه. أو في عالمنا الحالي الذي أصبح فيه الله بالنسبة لأغلب أبناء العصر الحديث يبدو غائباً عن أي مكان. وفي هذا العالم أيضاً خسف الله وراء ظلال النسيان، حتى أنها وصلت إلى أن تشغل قلب الأحداث بالكامل وأصبحت تطلب بكل الحقوق لنفسها.
تطلبت الفلسفة المعاصر هذا النوع من الفكر نتيجة بعض الظروف الزمانية والمكانية التي تحكم التاريخ العربي والسياقات التي دارت فيها مغامراته على مدار ثلاثة قرون هي عمر هذا التاريخ. إذا كنا نرغب في عمل مسح للعلمانية في السياق الغربي، علينا أن نأخذ في اعتبارنا مقاربتها الإنسانية بما ترتكز عليه من أسس فلسفية. 
ويمكن توضيح أن هذا النوع من المقاربات الإنسانية كان نتاج الثقافة الغربية في عملياتها التاريخية التي تختلف عن الثقافات الأخرى بما لها من خصوصياتها ومواصفاتها الخاصة. إلا أنه كما ذكرنا بإيجاز، يصعب أن نتحدث عن هذا النوع من الحداثة في الدول الإسلامية، في حين أننا قد نتحدث عن التحديث في ثقافة هذه الدول وما فيها من أسس بنيت عليها، كما يصعب أن تتسع رقعة النزعة الإنسانية الغربية التي استلزمت العلمانة في المجال الإسلامي. وعليه، يجب إعادة النظر في معضلة الدين والدولة في سياق إسلامي. ويجب أن نعثر على المشكلة الأساسية في الفكر الإسلامي، وسبل حل هذه المشكلة. 
ضرورة طرح نماذج غير علمانية للعلاقة بين الدين والدولة
يسود بعض التشكك في النموذج العلماني الغربي للدولة في مجتمع إسلامي، وذلك من منظورين. أوهما أن هناك شكوك خطيرة حول مدى نجاح الدول الإنسانية العلمانية الغربية تاريخياً ونظرياً. وثانيهما أن هناك بعض الشكوك حول مدى تماشي نماذج الدول هذه مع الثقافة الإسلامية. 
والرأي الأول موجه لنقد المجتمعات العلمانية الحديثة، والثاني نجد فيه الأبعاد الهامة في التعاليم الإسلامية والتي تطرح نماذج أخرى لا تقوم على الفصل بين الدين والدولة. 
نقد الحداثة وماتستند إليه من أسس إنسانية ما يترتب عليها من عواقب علمانية
توجد بعض أوجه النقد الموجهة للحداثة الغربية تجعل نماذجها العلمانية موضع تساؤل. 
1- حاولت الحداثة الغربية القائمة على حركة التنوير أن تبرز كل قدرتها في كل مناحي الحياة الإنسانية على مدار ثلاثة قرون. إلا أن مفكري ما بعد الحداثة الذين قاموا بتحليل أسس الحداثة يتشككون في مدى نجاح هذه المحاولات. وكانت هناك بعض الفرضيات على جانبيها التوحيدي والجمالي. كما شهدت كل الإنجازات العظيمة للحداثة في السياسة والثقافة والفن ...وما إلى ذلك أوجه قصور لا يستهان بها. على سبيل المثال، في الأساس وجه بعض هؤلاء المفكرين نقداً للمقاربة السياسية للحداثة الغربية مثل الديمقراطية والتحررية. 
كل الحقائق المرتكزة على الغرب هاجمها الغربيون أنفسهم، فنجدهم ركزوا على تعدد الحقيقة، الأمر المتجلي فعلياً في ثقافات مختلفة؛ ومن ثم رفضوا توسيع رقعة نماذج السياسات الغربية. ورغم أنهم يسعون لتحقيق نوع من النسبية لا يمكن أن يقبل دولة دينية، نجدهم يصرون على أن نماذج الفكر الغربية أيضاً موضع تساؤل. أريد أن أبين أن حداثة الغرب كأفضل نموذج للسياسة هي محل تساؤل؛ مما لا يجعل التعويل عليها يأتي بأفضل نموذج سياسة لنا بحيث نقدم مجتمعاً إسلامياً يقوم على هذه القيم الغربية. 
2- حاول الفكر الإنساني العلماني الذي يدافع عن الدين والسياسة طرح بعض البدائل للدولة الدينية، مثل الاشتراكية، والديمقراطية، والديمقراطية الليبرالية...إلخ. إلا أن هذه النوعيات من النظم السياسية واجهت الكثير من المشاكل التي أبرزها الفلاسفة السياسيون. الماركسية مثلاُ كانت أيضاً نوعاً من نماذج الحداثة التي استطاعت أن تجذب عدداً كبيراً من الأشخاص في العالم على مدار فترة طويلة من الزمن خلال القرن العشرين، وذلك باعتبارها أفضل شكل للدولة. إلا أن انهيارها من الخطاب السياسي أوضح قصور هذه الحلول العلمانية. يقوم الباحثون المعاصرون بفحص الديمقراطية الليبرالية، وخلصوا إلى أن العواقب التي قد تترتب مستقبلاً على هذه الديمقراطيات الليبرالية أكثر إشكالية من الماركسية؛ فخلال السنوات الأخيرة، جعلت العسكرية الأمريكية من الديمقراطية الليبرالية عدواً للجنس البشري. كما أن وجود إسرائيل والجرائم البشعة التي ترتكبها حكومتها، فضلاً عن حصول العسكرية الإمبريالية والنووية على دعم الديمقراطية الليبرالية من الدول الغربية. 
3- في الواقع، تسببت المنجزات الإنسانية في الفكر السياسي الغربي الحديث في حدوث أكبر الكوارث في التاريخ الإنساني. وأعني هنا الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعلى الرغم من رفض أرباب الحداثة الغربية لهذه النوعيات من النظم السياسية مثل الفاشية، والعنصرية، والنازية، لا يستطيع هؤلاء تجاهل الأساس الإنساني العلماني في هذه النظم. قد يتسبب الحل العلماني للدولة في وقوع مآس قد تكون نتيجة لعلمانيتها. ومن غير المنطقي أن نعول دون وعي على هذه السبل العلاجية. 
4- في حين كان القرن العشرين هو قرن التطور في العلم والتكنولوجيا؛ بما يمكن البشرية من استخدام قدرتهما في خدمة الإنسان، يعتبر القرن الحادي والعشرون قرناً شهد الكثير من التشكك والارتياب في هذا النوع من الأنشطة الإنسانية بسبب كل الكوارث التي جلبتها على البشرية بما تنطوي عليه من تطور تكنولوجي. ومن ثم، أُطلق على القرن الحادي والعشرين اسم "قرن البيئة". وهذا المنهج الجديد يضع الأخلاقيات البيولوجية في قلب الدوائر العلمية والتكنولوجية. ونظراً لعدم كفاية الأخلاقيات البيولوجية العلمانية، تنامى الاحتياج للأديان بدرجة كبيرة لإزالة التلوث البيئي الناتج عن تيه البشر. ولقد قام د.ناصر بتحليل الموضوع ودور الدين في مساعدة الإنسانية لإيجاد أفضل الحلول. وذلك في كتابه "الدين ونظام الطبيعة". ولقد شدد في كتابه أنه يمكن العثور على هذه القدرة في هذا الخصوص في الأديان الإبراهيمية، ولاسيما في الإسلام. إن مشكلة التلوث ومخاطره الناتجة عن التكنولوجيا والعلوم العلمانية القائمة على استقلالية الإنسان في التدخل في الطبيعة، وكذا حتمية الخروج بحل لهذه المشاكل، كانت في مركز الدوائر التكنولوجية والعلمية. ومن ثم، أوضحت ضرورة الخروج بحل لضعف الحلول الإنسانية التي أتت بهذه المشاكل الكبرى. واوضحت أيضاً مدى الاحتياج لعلوم مقدسة، ربما حان الوقت للأديان لأن تقدم نفسها كمنقذ للبشرية. 

ضرورة وجود التعاليم الدينية والإسلامية في أغلب جوانب الحياة الإنسانية
1- أدى تنامي التوجهات نحو الأديان، ولاسيما خلال العقود الأخيرة، إلى جعل الخطاب الديني في بؤرة حياة الإنسان، في حين أن الأديان في منتصف القرن العشرين كانت على الهامش. وهذا لا يقتصر على النشاط الديني الذي يزاوله الفرد، بل ينحو إلى أن يخترق كل مناحي حياة الإنسان؛ مما يتطلب استحضار الدين سياسياً واجتماعياً. 
2- هناك الكثير من العقائد الإسلامية التي تعتبر اجتماعية ذات نوع من التوجهات السياسية. إذا ما رغب المرء في أن يكون مسلماً بحق، لا يمكنه تجاهل الواجبات الاجتماعية والسياسية. فاختزال الإسلام للروحانيات، وهو ما يتوافق بدرجة أكبر مع المسيحية والبوذية، يعني تجاهل الجزء الأعظم من التعاليم الإسلامية الواردة في القرآن والآحاديث. إن مفهوم السامية الذي يتشارك فيه الإسلام واليهودية، يرى أن القانون هو تجسيد للإرادة الإلهية، باعتبارها واقعاً سامياً سرمدياً وراسخاً، ونموذجاً يستخدم للحكم على مثالب ومناقب المجتمع الإنساني وسلوك الأفراد، باعتباره دليلاً يحصل الإنسان من خلاله على الخلاص، وبرفضه، يحصد الدمار والسعير. 
3- التحدي الآخر الذي يواجه المسلمين فيما يتعلق بالمنهج الإنساني في الغرب هو ذلك التحدي المتمثل في أفضل طريقة للحياة. ففي حين تعتمد أفضل طريقة في الحياة على رفاهة الإنسان وحريته، لا يتوافق هذا المفهوم مع النظام القيمي في الإسلام. فأهمية النمو الروحاني للإنسان، وتعريفه على أنه ذلك الإنسان الذي يجب أن يفكر في نفسه على أنه حيوان روحاني، الأمر الذي يتحقق في عبادته لله، هذا يجعل منظور العالم في الإسلام مختلف إلى حد كبير عنه في الشأن الغربي. إن تركيز التعاليم الإسلامية على الجوهر السماوي للإنسان، وواجب الأنبياء في تنقية هذا الجوهر لتزكية النفس، وكذا تشديده على الشئون الدنيوية أورد نظاماً قيمياً مختلفاً عن النظام الغربي الذي يعتمد على أن تعريف أفضل طرق الحياه يقتصر على أفضل شكل للحياة المتبدية في هذه المظاهر المادية للرفاهة والحرية. مثلاً الشذوذ الجنسي في منظومة قيم الإسلام يماثل الإرهاب في المنظومة الغربية. وبالتالي فإن الحكم على فعل واحد وفقاً لنظامي قيم يختلف اختلافاً كبيراً نظراً لاختلاف تعريف البشرية لهذا الفعل. 
وقلما نجد أن التقرير بشأن نجاح نظام سياسي ما ومدى إثماره يعتمد على نظام من القيم، وتعريف الإنسان، ومثله العليا التي سنحكم بشأنها. وعليه، قد لا نصدر حكماً مطلقاً على التنمية بأنها هي نمط الحياة الغربي، فربما تكون بعض مظاهر هذه التنمية تراجعاً أكثر منها تحسناً. 
إنه سيادة وسائل الإعلام الغربية التي تحكمها نظم إنسانية علمانية غربية هي التي تسعى لفرض نظامها القيمي الموضوع ليعود بالنفع على الشركات الغربية. هذا إلا جانب وجود بعض الأسباب الأخرى التي تدعو لوجود الأديان في الدولة. 
ضرورة وجود نماذج للعلاقة بين الدين والدولة
تأسيساً على المفاهيم التالية، لابد أن نفكر في بعض النماذج التي توضح العلاقة بين الدين، وخصوصاً الإسلام، والدولة:
1- أهمية التعاليم الدينية والسياسية في الإسلام، والتي من دونها لا يكتمل إيمان المسلم.
2- عدم كفاية الموقف العلماني الغربي بالنسبة للدولة على المستوى العملي، وفي النظام القيمي، وفي الأسس النظرية، وما يترتب عنه من عواقب مدمرة. ولابد من التشديد على دور الشريعة وما يتبعها من مؤسسات كمظلة حمائية للمجتمع من الطغيان السياسي والبطش العسكري التعسفي، حيث تقتصر نظرة غالبية الدراسات الحديثة لهذه المسألة على المؤسسات السياسية الخارجية، دون النظر بعين الاعتبار للعلاقات بين الأشخاص، والنسيج الأسري، والحروب الفردية، التي تحتويها الشريعة الإسلامية بكل شمول بين ثناياها. 
3- عدم اتساق المعاملة الغربية المتمثلة في طرح أسلوب للفصل بين الدين والدولة للدول الإسلامية يقوم في الأساس على المسيحية، ويطرحونه وفقاً لثقافتهم الخاصة. وتجدر بنا هنا إضافة أن اتباع الأفكار الغربية اتباعاً أعمى في الأمور المتعلقة بالقانون، وكذا في العديد من الجوانب الأخرى، لن يفضي إلى حل أي من المشاكل الجوهرية في المجتمع الإسلامي. إنه نوع من (التقليد) أو الاتباع الأعمي الذي يعد أخطر من نوع (التقليد) المألوف الذي طالما أدانه الحكماء المسلمون علانية على مدار عصور من الزمان. 
مواصفات النموذج الناجح
في النهاية، انا أبحث في تجديد المنهج الإسلامي استناداً إلى الشرح السابق، والذي يفتح الإسلام لنوع خاص من التطور والتنمية أكثر فعالية وشمولية. ومن هذا المنظور، لابد أن توجد بعض النماذج المستقلة للعلاقة بين الإسلام والدولة. ولا بد أن تتوفر في هذا النموذج بعض السمات:
1- أن يشكل ضرورة للمجتمعات الإسلامية التي تتمتع بنظم سياسية خاصة بها.
2- لابد أن تتوافق أسس هذا النظام مع القرآن والحديث بشكل عام. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، الدين في الإسلام يعني أولاً وقبل كل شيء المشيئة الإلهية وكشف الحقيقة، كل الحقيقة، سواء العامة الخاصة بالمجتمتع ككل، أو تلك الخاصة بفئة بعينها، كما أوضحها القرآن الكريم وكما فسرها النبي في أحاديثه وأقواله وسننه. وفي حالة الشيعة، يؤخذ بأقوال الأئمة إلى جانب أقوال الرسول. هذا ويعني الدين أيضاً الأخذ بكل التعاليم والأعراف السماوية الأصل التي نادى باتباعها أنبياء آخرون جاءوا برسالاتهم قبل الإسلام. ويتضمن الإسلام كل هذه التعاليم والأعراف بما فيه من عالمية وقوة كبيرة في الجمع والتأليف بين مختلف الأجزاء في وحدة عضوية متينة. 
3- لابد أن يعترف هذا النظام الإسلامي بالاحتياجات الدنيوية للمسلمين، كما يعترف باحتياجاتهم الروحانية واحتياجاتهم لتجاوز التفكير الاعتيادي ليخبروا الحياة عن طريق الحدس والبديهة. 
4- يتكون النظام السياسي من شقين: يحتوي الشق الأول على بعض القواعد الأساسية في العقيدة الإسلامية. أما الشق الثاني، فيضم الأنشطة العقلية التي يزاولها الإنسان للخلوص إلى نظام سياسي يتسق وهذه المبادئ الإسلامية. وبالطبع تختلف هذه العقلانية عن ذلك النوع من العقلانية الإنسانية المسماة "بالعقلانية الأداتية/ الذرائعية". وفيما يخص العلاقة المتوترة بين التقليد والحدثية، نجد أن أحد أقسى المشاكل التي يواجهها المسلم المعاصر هي العلاقة بين الشريعة من ناحية، ولاسيما تلك الخاصة بمجال القانون الذي ينظم حياة الأفراد، والنظريات الحديثة والممارسات القانونية من ناحية أخرى.
5- تتوافر العديد من الخبرات الإنسانية التي يمكن أن تزود الباحثين الإسلاميين ببعض الحلول التي تسهم في تقديم نظام سياسي يلقى القبول والأفضلية. لكن عليهم أن يتجنبوا القيم الجوهرية الكامنة في أشكال المعالجة التي سيطرحونها والتي لا تتماشى مع قيمهم هم، وعليهم محاولة وضع النظام الخاص بهم بناءً على ما يؤمنون به من تعاليم وما يسيرون عليه من قيم. 
6- لذلك ربما يستقوا من إنجازات المقاربات السياسية الغربية الخبرة المثمرة التي تمكنهم من تشكيل نظامهم الخاص. 
7- قد لا ينتج أفضل النظم عن التعاليم العامة في القرآن والحديث دونما سواهما. إذ يجب بذل محاولات جادة وطويلة لفهم واقع الظروف المكانية الزمانية، وفهم احتياجات إنسان العصر، ومحاولة تلمس العقلانية ومحاولة إيجاد نظام سياسي أفضل يتسق والتعاليم الأساسية في القرآن، كما يطلق عليه في الثقافة الإسلامية (الاجتهاد). بيد أننا نظراً لعدم كوننا فقهاء بالمعنى التقليدي، أو مناصرين بالمعنى الحديث، بل نحن طلبة ندرس الإسلام والحضارة الإسلامية من جوانبها الفكرية والروحانية. نشعر أنه من واجبنا أن نقتصر على تحليل المبادئ العامة وتوضيحها، تلك المبادئ التي تشكل أساس القضية التي يتناولها موضوع هذا المقال. 
8- لابد أن تستمر هذه المحاولات، وتستمر أيضاً عمليات تطوير النظام وتحسينه. 
9- كان هناك عدد من الباحثين المبتكرين الذين حاولوا تقديم نظام سياسي إسلامي لم يكلل بالنجاح. إن النظام الإسلامي بحق تحده بعض القيود التي لا يمكن مواءمتها مع كل أنواع الابتكارات. 
10- ومن ثم، يمكن أن ينجح تجديد الخطاب الديني متى تحقق، نيل درجة من القبول فيما بين المفكرين المسلمين، بوصفة خطاباً إسلامياً، ليس أجنبياً مستتراً في عباءة الإسلام. وبالتالي نجد بعض المحدثين مثل الزهاوي، وطاهر الحداد، وغيرهم الكثيرين الذين يناشدون من أجل تحقيق المساواة بين الرجال والنساء في السياق الأوروبي في ظل قانون علماني. وهناك بعض المدافعين عن الرأي المضاد، مثل سيد أمير العلي، الذي يشعر بالخزي من مفهوم الإسلام لوضعية المرأة لأنه لا يتوافق مع المنظور الأوروبي الحديث. رأينا أثناء القرن المنصرم بعض الابتكار والتجديد بين المفكرين المسلمين الذين قبلوا سيادة الفكر الغربي وحاولوا تقديم تفسير للفكر الإسلامي في إطار هذا الفكر الغربي السائد. 
لعلنا نذكر التفسير العلمي للإسلام منذ حوالي خمسة عقود، والتفسير الماركسي قبل ثلاثة عقود، ولم يعد لأي منهما أثر في المجالات الإسلامية. قد يقال بشكل عام أنه في العالم الإسلامي قاطبة، انتشرت العديد من الأفكار المتعلقة بالحكومة والإدارة ليست من أصول غير إسلامية فحسب، بل، علاوة على ذلك، تعد نتاج الثورات العديدة التي شهدتها أوروبا على مدار القرنين الفائتين، واستخدمت جميعها تكريس الطابع العلماني بدرجة أكبر في المجتمع. ومن بين هذه الأيدولوجيات، على سبيل الذكر لا الحصر، تأتي القومية غربية الطابع التي أصبحت مصدر قوة كبيرة في إضفاء الصبغة العلمانية على المجتمع الإسلامي في معظم مناطق العالم الإسلامي. 
11- يتمتع نظام الدولة الديمقراطي والليبرالي ببعض المزايا التي تأتي بخبرات جيدة للنماذج المثمرة من النظام السياسي. ويمكن أن يجني المفكر المسلم فوائد جمة من هذا النظام، إلا أن الديمقراطية الليبرالية الغربية القائمة على منظور إنساني علماني غربي ستواجه الكثير من المشاكل كي تتوافق مع النماذج الإسلامية للدولة. 
12- في مجال الحكومة، لم توجد وحدة في العمل. فكل بلد مسلم يتمتع بشكل سياسي خاص به. 
13- على المفكرين المسلمين الراغبين في فرض نظامهم السياسي المستقل عن النظم السائدة الوقوف دوماً في جانب المعارضة لمحاولات فرض الإمبريالية المعاصرة نظام قيمي آخر جلبته وسائل الإعلام. هذا هو السبيل الوحيد للحرية. 
14- لابد من أن يدعم المنطق أفضل أشكال تجديد الخطاب الديني. ولابد أن يمكن الدفاع عنه بالعقل والمنطق. وتُطرح بعض هذه الخطابات أيدولوجياً على أنها النموذج الذاتي للتوجه السياسي. ويعتبر الحوار المستمر بين من يتحملون المسئولية عن فكرهم، هو أفضل سبل تطور هذه النماذج. فكل نقاش للشريعة الإسلامية يتضمن مناقشة المعتقدات الدينية الرئيسية وسلوكيات المسلم. 
15- هناك الكثير من أوجه الشبه بين النظام السياسي الإسلامي وغيره من النظم الأخرى؛ مما قد يشكل قاعدة جيدة لنوع من التفاعل الدولي. ولتجاوز أوجه الخلاف، يجب إقامة حوار متكافئ بغية الوصول إلى حل عملي لبعض أشكال التفاعل، منها مثلاُ أشكال الاختلافات بين كل المجتمعات. 
16- إن إقامة حوار بين الباحثين لمن تتوفر لديهم المعرفة الكافية بالتعاليم الإسلامية، واحتياجات المسلمين العصرية هي أفضل طريقة لإيجاد النظام السياسي الأفضل في المجتمع الإسلامي. ويؤدي اللجوء إلى القوة الجبرية لوضع نظام سياسي إلى إبطال هذا النظام. 
ــــــــــ
(*) من أوراق مؤتمر: "حقوق الإنسان وتجديد الخطاب الديني:كيف يستفيد العالم العربي من تجارب العالم الإسلامي غير العربي؟" الإسكندرية في 18-20 أبريل 2006. 
تاريخ النشر : 17-05-2006

6154 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com