آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الفكر السياسي  .  الدين و الدولة

التراث السياسي    |    الحقوق و الحريات    |    الإسلام السياسي

  •     

أزمة المجتمع المدني: عوائق فعاليته(1) الفعلية والرمزية وشروط تذليلها

أبو يعرب المرزوقي


تمهيد:
من منا لا يعجب من عجز الناطقين باسم المجتمع المدني بمعناه الحديث عجزهم عن إخراج الجماهير من لامبالاتها العجيبة بانتهاك أبسط حقوق الإنسان رغم قرنين من النهضة؟ ومن منا لا يعجب نفس العجب أو أكثر من قدرة الناطقين باسم المجتمع المدني التقليدي على حصر تحريك الجماهير في ما يلهيها عن حقوقها الفعلية رغم قرنين من الصحوة ؟ ألا يدعونا ذلك إلى الحيرة أمام الأمرين خاصة إذا ربطناهما بالحل الفعلي الذي لجأت إليه النخبتان الحل الذي أفسد بطبيعته وبما يترتب عليه كل إمكانية لتحقيق الإصلاح بالفعل المدني تحقيقا سليما: فالحرب الأهلية بين التحديثيين المنحازين للمافيات الحاكمة وحماتهم والتأصيليين المنحازين للمافيات المعارضة ونفس الحماة وثمرتها استعانة الأولين بالقوى الأجنبية واستعانة الأخيرين بالجماهير لا يمكن أن تنميا فاعلية المجتمع المدني إلا في وهم أصحاب هذا الحل السائد حاليا(2) . 
ذلك أن مثل هذا الحل يؤول إلى القضاء المبرم على كل إمكانية لجعل التنافس القيمي الذي هو جوهر كل حيوية عمرانية يجري بصورة صحية وسلمية لتكون تعبيرا عن المجتمع المدني تعبيره الأساسي وأداة تحققه المبدع. فالاستعانة بالأجنبي لن يقوي قوى التحديث ولا قوى التأصيل بل هو سيسمها بسمة الخيانة خاصة والقوى الأجنبية لا يقتصر إفسادها للقيم الحديثة أو الأصيلة على استعمالها الخفي أداة لأجندتها بل هي مضطرة بمقتضى الظرف الخاص في علاقتها بنا إلى اللعب بالمكشوف الذي يحول كل النخب التحديثية والتأصيلية إلى عملاء لفرط ما تتميز به الأجندة من أهداف مباشرة تجعل القيم الحديثة والأصيلة تتحول إلى معاول تخريب لقيم الأمة المطابقة للقيم الكونية وليست مساعدة على تطورها الذاتي. وتزييف الوعي باللجوء إلى الماضي في ما يلهي عن المهمات التنويرية للقيم الدينية يؤدي حتما إلى ما نراه من غرق في قشور الهوية والغيبوبة عن شروط تنميتها وتطويرها تحقيقا للتطابق بين قيم حقوق الإنسان العاقل وقيم واجبات الإنسان المؤمن.
وحتى لا يعد كلامي هذا تحليقا في سماء النظريات التي تعتبر من الترف الفكري في مثل هذه الندوات(3) فإني سأحاول فهم علل هذه العطالة أو علل تعويق المجتمع المدني عللهما التي نستشفها من عمل مجتمعنا المدني ودور الناطقين باسمه بنوعيهما الحديث والتقليدي. ونحن نفترض أن هذه العلل لا تخلو من أن تعود إلى:
1- مقومات المجتمع المدني نفسه.
2- أو إلى الظرف المحدد لكيفية عمل الناطقين باسم هذه المقومات ولنطلق عليها اسم النخب القيادية لفعاليات المجتمع المدني.
ويقتضي علاج هاتين المسألتين مقدمتين:
1- إحداهما تاريخية تبرز مراحل تكوين مفهوم المجتمع المدني الأساسية.
2- والثانية مفهومية تحلل مقوماته ومعوقاته. فيكون بحثنا بذلك مؤلفا من أربع مسائل هدفها تحليل أزمة المجتمع المدني العربي والإسلامي دون أن تتطرق إلى وصف الدواء إلا بصورة غير مباشرة وضمنيا خلال الكشف عن الأدواء:

الأولى: تحدد تكوينية المفهوم وبروز مقوماته بالتدريج مع تكون ضروب التعبير عنه والنخب المتكلمة باسمه.
الثانية: تحدد مقومات المفهوم والعوائق الناتجة عنها وعن ضروب التعبير عنها في جدل الجزئي والكلي.
الثالثة: تحدد العوائق الناتجة عن الظرف المحدد لعمل النخب بوعيها والناطقة باسم المقومات بأصنافها.
الرابعة: تضرب أمثلة من كيفية انتخاب النخب وعملها المنحرف الذي يفسر عطالة المجتمع المدني.

قد تتهم هذه المحاولة بعيب مهني ينسب إلى صاحبها الميل إلى الإغراق في النظر الفلسفي المجرد. لكن المحاولة تعتمد بقصد على النظر الفلسفي لتخليص فكرنا من التلهف على العمل المباشر العمل الخالي من فهم الشروط التي توفقه إلى العلاج القويم فيبقى في ما يسميه أرسطو بتعجب العامي الأول جهلا بطائع الأمور المقابل تمام المقابلة لتعجب العالم المدرك للحقائق(4) . وسيكون هذا النهج قاعدتنا على الأقل في المسألة الأولى لان مفهوم المجتمع المدني ينتسب إلى تاريخ التصورات الأساسية في فكر الإنسان العملي من حيث الموضوع ولأن تعريفه ينتسب إلى تاريخ المناهج المنطقية الأساسية في فكر الإنسان النظري من حيث العلاج. فمسألة تحديد مفهوم المجتمع المدني من مسائل الفلسفة العملية موضوعا ومن مسائل الفلسفة النظرية منهجا بدءا بأفلاطون وأرسطو وختما بهيجل وماركس ومرورا بالفارابي وابن خلدون مرورا تجاوز الأولين بنقدهما وأعد لنقد الثانيين بما تضمنه مما كان لا بد أن يغفلاه من أبعاد الثورة الكونية الإسلامية. ومن ثم فالفارابي وابن خلدون يعدان دليلينا في هذه المحاولة.
المسألة الأولى: تكوينية المفهوم 
مرت محاولات تحديد الظاهرة العمرانية التي أصبحت تسمى منذ كتابات هيجل في الفلسفة العملية بالمجتمع المدني في معناه الحديث بمرحلتين مضاعفتين جوهريتين لا بد من الإشارة السريعة إليهما. فأما المرحلة الأولى فتوازي بفرعيها الفلسفة القديمة والفلسفة الوسيطة وأما المرحلة الثانية فيوازي فرعاها الفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة. والفرع الثاني نقدي للفرع الأول في كلتا المرحلتين وهما يشتركان في كونهما معدين لشروط تجاوز دغمائية الفرعين الإيجابيين. 
فالمحاولة الوسيطة التي هي عربية إسلامية بالأساس نقدت قصور التعريف الأصلي الأول من دون استعمال صريح ل اسم المجتمع المدني التعريف الذي وضعه أفلاطون وأرسطو. ويرجع هذا النقد إلى الفارابي وابن خلدون في محاولتهما التي سعت إلى تخليص نظرية عمل المجتمع من نموذجي تفسير الفلسفة العملية القديمة للظاهرات المدنية تفسيرها المستند إلى بنية النفس(5) و بنية المنزل بنيتيهما الطبيعيتين(6) . 
والمحاولة ما بعد الحديثة التي هي غربية بالأساس نقدت قصور التعريف الأصلي الثاني في الفلسفة العملية الحديثة مع استعمال صريح ل اسم المجتمع المدني التعريف الذي وضعه هيجل وماركس. وهذا النقد تحقق في محاولة نقد غرامشي(7) ومدرسة فرنكفورت(8) محاولتهما التي سعت إلى تخليص نظرية عمل المجتمع المدني من نموذجي التفسير الحديث المستند إلى جدل روح الشعب الهيجلي(9) أو جدل نمط الإنتاج الماركسي(10) .
فتكون مراحل التكون السابقة للحظة الراهنة أربعا اثنتان تأسيسيتان قديمة (أفلاطون وأرسطو) وحديثة (هيجل وماركس) واثنتان نقديتان وسيطة (الفارابي وابن خلدون) وما بعد حديثة (غرامشي وهابرماس). ويمكن أن نعتبر تجاوز أزمة المجتمع المدني العربي الحالية ذات الصلة الوثيقة بالأزمة الكونية الأفق التاريخي الذي سيحدد أصل المراحل الأربع الموحد بينها والمتعالي عليها تعالي المثال على تعيناته. ولما كانت الظرفية العربية الإسلامية الراهنة تتصف ذاتيا بمحددات بينة المعالم يمكن حصرها تصوريا في صمود حضارتنا العربية الإسلامية أمام استبداد ذروة ما يعد روحانية الحضارة الغربية ممثلة بإسرائيل وذروة ما يعد ماديتها ممثلة بالولايات المتحدة بات تعريف هذا الأصل الواحد لمقومات المجتمع المدني نابعا من مقومات هذا الصمود ذاته كما فهمه الفارابي وابن خلدون ترجمة فلسفية لجوهر أفق العلاقة بين التاريخين الطبيعي (مجال العلاقة بالمشيئة الكونية بعبارة الفلسفة الدينية من المنظور الإسلامي) والحضاري (مجال العلاقة بالمشيئة الأمرية بعبارة الفلسفة الدينية من المنظور الإسلامي) للنوع البشري. 
فالنقد العربي الإسلامي (الفارابي وابن خلدون) قد حرر مفهوم ما يناظر المجتمع المدني قبل إطلاق التسمية عليه حرره من المنزلة التي تعينت له بسبب الطبعانية غير الصريحة المنجرة عن النموذج النفسي (نظام السلط في الدولة يقاس على قوى النفس) والنموذج المنزلي (نظام الاقتصاد في الدولة يقاس على نظام المنزل) النموذجين اللذين استعملهما أفلاطون وأرسطو في تحليلهما الظاهرة المدنية عامة. ذلك أنه بمقتضى هذا النموذج الطبعاني استثنى أفلاطون وأرسطو كل فاعلية للمجتمع المدني من حيث هو ظاهرة تاريخية بمجرد أن جعلا نظام المدينة السياسي ونظامها الاقتصادي خاضعين لنموذجين طبيعيين يتكرران ثابتين إلى غير غاية كما هو شأن تكرار عملية التوالد العضوي في عالم الكون والفساد: فبنية النفس تجعل المدينة من المنظور السياسي مؤلفة من ثلاث طبقات هي طبقة ممثلي القوة العقلية وطبقة ممثلي القوة الغضبية وطبقة ممثلي القوة الشوقية وبنية المنزل تجعلها من المنظور الاقتصادي مؤلفة من السادة وأفراد الأسرة والعبيد. 
ومن ثم فلا معنى لحركية مدنية ينسب إليها التطور التاريخي الحضاري الذي يستتبع قوانين التاريخ الطبيعي بل العكس هو الصحيح عندهما. وذلك بسبب الفصل التام بين المجالين السياسي والإقتصادي(11) أولا ولاعتبار المنازل ذات تحديد طبيعي لا يقبل التغيير بمقتضى حركية مدنية تاريخية. وحتى يبقى ذلك كذلك كان من الضروري أن تحقق الفلسفة التأسيس المبدئي لصحة انطباق هذين النموذجين ليتحقق الثبات في التاريخ الحضاري الذي صار بفضلهما خاضعا للتاريخ الطبيعي: بنية النفس والمنزل الطبيعيان هما بنية السياسي والاقتصادي الثقافيان في المدينة.
لكن النقد بدأ "مابعدطبيعيا" عند الفارابي بإضافة البعد الكوني لمفهوم المدينة. فلم تعد المدينة القومية أو الملية كافية لفهم التاريخ الإنساني بل لا بد من إضافة درجة أسمى في نظرية السياسة المدنية لتصبح شاملة للإنسانية كلها. وانتهي هذا النقد "مابعدتاريخيا" عند ابن خلدون الذي أدخل الحركية التاريخية في السياسي والاقتصادي بقلب العلاقة النموذجية بين التاريخين الطبيعي والحضاري. فقد حلل جدل أشكال العمران وأنماط العيش والإنتاج بصورة جعلت بنية المدينة السياسية نموذجا لبنية النفس وبنية الاقتصاد المدني نموذج بنية المنزل وبات جدل أشكال العمران وأنماط الإنتاج هو المحدد لبنية النفس والمنزل بنيتهما التي أصبت ذات صيرورة تاريخية. وبذلك أصبح ما كان معيارا معيرا: النفس تعير بشكل الحكم في العمران والمنزل يعير بشكل الرزق في العمران. 
ورغم أن الفارابي وابن خلدون لم يكونا واعيين تمام الوعي بأبعاد ثورتهما ولا بمصدرها القرآني فإن تحليل ما أضافاه يعطينا المعاني التالية التي ستساعدنا على تحديد الأصل الواحد الذي نطلبه لفهم المراحل الأربع والذي يمكن اعتباره المرحلة الأخيرة التي يكتمل فيها مفهوم المجتمع المدني. فبفضل إضافتهما اكتشف العقل الإنساني بعدين للفعل المدني كانا بغيابهما الناتج عن حصر التحليل في الدولة الجزئية وعن إرجاع نماذج محركات التاريخ الثقافي لبنى مستمدة من التاريخ الطبيعي حائلين دون الفكر الفلسفي وفهم الحركية التاريخية بمنظور مستقل عن التاريخ الطبيعي في الفلسفة النظرية القديمة. 
فالسياسي أو المدني الحقيقي لا يمكن أن يفهم إلا إذا اخذ على حقيقته من حيث هو ظاهرة كونية وليست قومية ولا حتى ثقافية أي إن وحداتها ليست القرى أو الأسر كما يتصور أفلاطون أو أرسطو بل المدن أو الدول التي هي ظاهرات تاريخية وليست ظاهرات طبيعية. لذلك فهو لا يمكن أن يفسر بنماذج مستمدة من الطبيعة (بنية النفس وبنية المنزل) بل هو بالذات الإبداع المتواصل لنماذجه ولنماذج النفس والمنزل اللذين يتشكلان بحسب نوع العمران (الفرق بين الأخلاق في العمران البدوي وفي العمران الحضري مثلا ) ونمط الإنتاج والعيش بمصطلح ابن خلدون (وهذا النمط هو الذي يميز بين أنواع العمران).
وإذا كانت المدينة كذلك في تصورها فإنها في تحقق تصورها ظاهرة تاريخية وليست ظاهرة طبيعية. وتاريخيتها ثمرة جدل عام يؤلف بين جدليتين حدين قابلتين للفصل نظريا أولاهما هي جدلية القوى الاجتماعية في العمران البشري من اجل السلطة والثانية هي جدليتهما من أجل الرزق وكلتاهما مصحوبة بالتعبير عن الوعي بها غايات وأدوات. فيكون العمران بذلك حركية دائبة ذات مستويين فعلي ورمزي حركية موضوعها السلطة والمال لذاتهما ماديا ولما يرمزان إليه معنويا كما يتبين من دور كل منهما في كل منهما: فدور السلطة في تحصيل المال وحماتيه يسميه ابن خلدون جاها ودور المال في السلطة تحصيلا وحماية يمكن أن نسميه بالقياس إلى مفهوم الجاه في الاتجاه المقابل بقوة أحد عوامل الحل والعقد لأن المال من شروط القدرة. 
لكن كون السياسي والاقتصادي يؤديان دورا رمزيا بالإضافة إلى دورهما الفعلي يجعلهما في الحقيقة أداتي أمر أسمى منهما هو الأمر الذي يضفي عليهما معنى يرتفعان بفضله فوق الحيواني من قوى الإنسان إشرئبابا إلى الإنساني منها. ويقتضي طلب ذلك أن نغوص إلى أعماق في العمران أبعد غورا لنفهم جدلية العلاقة بين النقلة من التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الحضاري أو الجوهر الواحد المشترك بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين وضرورة الجذر المشترك لنفهم الظاهرة العمرانية كما حاول استنباطها ابن خلدون مما يعتبره تطابقا بين فلسفته في التاريخ وفلسفة القرآن التاريخية: فوراء جدل السياسة وجدل الاقتصاد نجد جدل التعبير عن التحقق الذاتي للكائن البشري في الأديان والفلسفات والتعبير عن جدل التلذذ بذلك التحقق في الآداب والفنون(12) . 
ويمكن أن نعتبر التعبير عن التحقق الوجودي جدل القيم الوجودية والتعبير عن الوعي به جدل القيم الذوقية. وكلاهما أصل الدور الرمزي الذي يؤديه السياسي والاقتصادي اللذين لا يقتصران على دورهما المادي وإلا لظل الإنسان حبيس التاريخ الطبيعي فلم ينتقل إلى التاريخ الحضاري. فيكون مدار الحركية العمرانية وحدة هذه الجدليات الأربع المتفاعله. وتلك هي جدلية الأبعاد القيمية الأربعة التي ألغاها تحييد اليونان لبعد المدينة الكوني (وهو ما أضافه الفارابي) ولتحليلهم التاريخ الثقافي بتصورات التاريخ الطبيعي (وهو ما حررنا منه ابن خلدون). فتكون جدلية العمران جدلية جامعة بين:

1- جدل القيمة العملية موضوع السياسي.
2- وجدل القيمة الرزقية موضوع الاقتصادي.
3- وجدل القيمة الوجودية التي يرمز إليها دور السياسي الرمزي.
4- وجدل القيمة الذوقية التي يرمز إليها دور الاقتصادي الرمزي.
5- وفوق كل هذه الجدليات نجد الجدل فريد النوع الذي هو تابع لها جميعا وجوديا ومتبوع منها معرفيا قصدت جدل القيمة المعرفية أو النظرية التي يحاول صاحبها أن ينأى بنفسه عن التبعية للجدليات السابقة آملا أن يكون مرآتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

أما أصل الإضافتين الفارابية والخلدونية فمن اليسير إرجاع مصدره إلى عقيدة الكونية الإسلامية التي اعتبرت الرسالة تأسيسا للأخوة البشرية فتوجهت إلى الإنسان من حيث هو إنسان بآية هي عين حد مفهوم الإنسان: البيان والبرهان بمعناها الذي حدده القرآن. كما جعلت الرسالة الدين مشروعا تاريخيا أداته الفعل السياسي بكل شروطه ليحقق القيم في التاريخ الفعلي بأدوات الفعل التاريخي المادية والرمزية وليس مجرد دعوة عزلاء لأن الأرض صارت عمارتها وإرثها من علامات صلاح وارثيها. وأهم شروط العهد بذلك إلى المجتمع المدني نفسه التحرير الصريح الملازم لهذه النظرة التي أسيء فهمها لسوء الحظ فبقي الأمر على حاله في المجتمعات الإسلامية مواصلة لما ورثته من المؤسسات البيزنطية والفارسية سياسيا واليهودية والمسيحية دينيا. 
لكن الرسالة المحمدية في منظورها الصريح كما حدده نصاها المرجعيان حررت فعلي الدعوة الدينية والتحقيق السياسي للمشروع من السلطتين المتعاليتين على العمران أعني أنها خلصتهما من السلطة الروحية المتعالية على الأمة دينيا(13) والسلطة الزمانية المتعالية عليها سياسيا(14) : الدعوة الدينية تحديدا للغايات باتت أمر الجماعة لان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين والفعل السياسي تحديدا للأدوات بات أمر الجماعة كذلك لان تحقيق المعروف ومنع المنكر ليس دعوة فحسب بل هو فعل تاريخي بأدواته السياسية بما في ذلك القوة. 
فعادت بذلك للعمران على الأقل من حيث التصور وحدته الحية بمعايير التاريخ الثقافي المصور لتاريخ الإنسان الطبيعي تصويرا مشروطا بعدم إفساد الفطرة التي فطر الناس عليها(15) . ذلك أن الجدل بين المثال والواقع وبين ما بعد التاريخ أو القيم الدينية والتاريخ أو تحقيقها السياسي أصبح جوهر القيام العمراني: وذلك هو مدلول الشريعة التي قل أن تخالف الوجود بمصطلح ابن خلدون. منذئذ يمكن القول إن مفهوم المجتمع المدني بالمعنى الحديث قد أصبح مفهوما واعيا بنفسه حتى وإن لم يطلق عليه الاسم الصريح: فالجماعة هي التي تفعل السياسي والاقتصادي والذوقي والوجودي فعلا يكون فرض عين وهو فعل يقابل فعل من بيدهم السلطان في هذه المجالات داخليا وخارجيا من حيث هو فرض كفاية قد يستبد فيفسد شروط عينية الفرض في داخل أمة بعينها أو في المعمورة ككل(16) .
وقد اضطر هيجل في رابع أبواب فلسفته التاريخية إلى الاعتراف بسبق الإسلام إلى ذلك وسعى إلى تبرير تأخر المسيحية التي لم تفهم ذلك إلا بفضل حركة الإصلاح بموقف فكري يغلب عليه تزييف المعاني ليحط من شأن الثورة الإسلامية ويعلي من شأن الإصلاح البروتستنتي:" "تلك هي الروحانية والمصالحة الروحانية التي بزغت (في الحقبة الرابعة من تاريخ العالم). وهذه المصالحة الروحانية هي مبدأ الشكل الرابع (من أشكال تاريخ العالم الهيجلي). فقد بلغ الروح إلى الوعي بأنه هو الحق. وما بقى الوعي كذلك فكذلك سيكون الفكر. ومن الضروري أن يكون هذا الشكل الرابع هو بدوره شكلا مضاعفا: فهو الروح من حيث هو وعي بعالم باطني عالم الروح الذي أصبح واعيا بكونه من حيث هو جوهر أنه الوعي ب(الوجود) الأسمى وعيا عقليا. لكن إرادة الروح تكون بالمقابل روحا مجردا وثابتا في التجريد الروحي. وما ظل الوعي على هذا النحو من الثبات في التجريد سيبقى الواقع مثله. فيكون الواقع مترابطا مع عالم دنيوي لم ينضو في الروحي ولم يصبح نظاما عقليا يحايث في الوعي. ذلك هو جوهر العالم المحمدي (=عالم الإسلام) الذي هو أسمى ترق لمبدأ (روح)الشرق. فلا شك أنه دين تلا المسيحية ظهورا في التاريخ وأنه أعلى إدراك للواحد (في الشرق). لكن المسيحية لكي تصبح صورة متعينة في الدنيا كان لا بد لعملها أن يستمر قرونا. ولم يتحقق ذلك إلا مع شارل الأكبر (الخامس). وكون الإسلام بالمقابل قد أصبح مملكة دنيوية (قبل المسيحية) فالعلة هي أن المبدأ المجرد يتحقق بصورة أسرع (من المبدأ المعين الذي هو مبدأ الغرب المسيحي بالمقابل مع المبدأ المجرد الاسلامي). إنه نظام متعين في العالم الأرضي متقدم في الوجود التاريخي على نظام العالم المسيحي"(17) . 
لكن تعريف هيجل المجتمع المدني بصراع المصالح المترتب على المنازل أو الطبقات كاد يلغي هذه الأبعاد التي تبين العلاقة الوطيدة بين الديني والسياسي رغم أن معنى المجتمع المدني يكتمل عنده بما أضفى دلالة إيجابية على الصراع أعني بالتكامل بينه وبين سلطة التحكيم المتعالية على المصالح سلطة الدولة التي تمثل تعين العقل في التاريخ. فيكون السياسي ممثلا للعقلي وما عداه من طبيعية غير عقلية أو دنية. وبذلك فقد أعادنا هيجل إلى النظرة الفلسفية القديمة: الدولة متعالية على المجتمع المدني في المدينة تعالي العقل في النفس على قوى النفس الأخرى. ولما كان ماركس يشكك في وجود مثل هذه السلطة المحايدة ويعتبر الدولة مضفية على نفسها هذا المظهر بوظيفة إيديولوجية تزيف الوعي فإنه لم يبق إلا بالبعد الأول من التعريف الهيجلي حصرا للصراع في المصالح الاقتصادية معتبرا صراع القيم غير الاقتصادية من الخداع الإيديولوجي الطبقي من أجل أظهار الدولة بمظهر السلطة المحايدة التي يمكن أن تكون حكما في حين أنها ليست إلا تعبيرا عن مصالح الطبقة التي بيدها النفوذ الفعلي وهو اقتصادي بالأساس حتى وإن لم ينف أن التعبير الديني فيه شيء من الاحتجاج ضد الظلم احتجاجا ينقلب إلى أفيون بمقتضى المقابلة بين الأرض والسماء وتأجيل الجزاء. 
وبذلك فإن حركية المجتمع المدني ذات الأبعاد المتعددة قد وقع إلغاؤها من جديد ولم يبق من فواعل التاريخ الخادم لمصالح العقل (بالمعنى الكنطي) أو لغائية التاريخ بمعناه في الجدلية المادية (بالمعنى الماركسي) إلا حركية صراع سياسي لا يترجم إلا عن صراع المصالح الاقتصادية التي تعيد الإنسان إلى قانون التاريخ الطبيعي (منطق الضرورة والصراع من اجل الحياة والبقاء للأقوى) وتخرجه من التاريخ الحضاري (منطق الحرية والنافس في الخيرات والبقاء للأفضل). لذلك فالتصدي الوحيد من منظور الجدلية التاريخية هو الثورة ودكتاتورية العمال. وبذلك غرق الفكر الماركسي في أزمته القاتله(18) . فبمجرد أن أعاد الفكر المعاصر اكتشاف الأهمية التي يكتسيها جدل القيم بكل أصنافها الخمسة (الذوقي والرزقي والنظري والعملي والوجودي) في العمران البشري وعدم اقتصاره على أي منها مهما كانت أهميته خرج الفكر الماركسي التقليدي من الركح الفلسفي وبدأ تجاوز التصور الهيجلي والماركسي للمجتمع المدني تجاوزا نقديا في مدارس الفكر الماركسي نفسه بدءا بما يوليه غرامشي من أهمية للجدل الإيديولوجي والديني وختما بالنظرية النقدية في مدرسة فرنكفورت فأصبح للدين والفن والقانون وكل الجدل القيمي الذي بلغ الذروة في مفهوم حقوق الإنسان بأبعادها الخمسة(19) أصبح لها منزلة الصدارة في فاعلية المجتمع المدني. .
ونحن نحاول البناء على هذا التطور فنطلب الأصل الواحد وراءها لنصوغ تصورا يمكن من تحديد مقومات المجتمع المدني من حيث هو أهم فواعل العمران البشري والاجتماع الإنساني تصورا يساعد على فهم ما أطلقنا عليه اسم عطالة فاعليته أو عوائقها كما تعينت في أزمة اللحظة العربية الإسلامية الحالية. ذلك أننا نصنف هذه العوائق لتشخيص الأزمة بالإضافة إلى المقومات وضروب التعبير عنها. 
وهدفنا من المحاولة تحديد طبيعة فعل المجتمع المدني أو الدور الذي يؤديه في حركية العمران البشري والاجتماع الإنساني بمستوييه الخاص بأمة بعينها والعام للبشرية. لذلك فإن تحليلنا يفترض الاعتماد على ما أضافته الصياغة النظرية العربية الإسلامية لنظرية عمل المجتمع المدني أعني الصياغة الفارابية الخلدونية التي لا تقتصر على تجاوز صياغة أفلاطون وأرسطو فحسب بل هي كما سنرى تتضمن بذرات تمكن عند قراءتها في ضوء الأزمة العربية الإسلامية الحالية من تجاوز صياغة المرحلة النقدية ما بعد الحديثة. فالأول أضاف إلى نظرية الاجتماع والعمران معنى الكونية البشرية بفضل نظرية الجماعة العظمى(20) من منطلق الرسالة الإسلامية التي تتوجه إلى البشرية كلها وإن بغير وعي وتصريح. والثاني درس آليات عمل الأمر الذي يناظر المجتمع المدني الوطني والدولي عندما حلل العمران بمفهومين استعارهما من "الهيولومورفية الأرسطية" بعد تخليصها من الدلالة الميتافزيقية الجوهروية واعطائهما دلالة الأداة التشريعية للظاهرة العمرانية: صورة العمران ومادته. وكلتاهما ذات فاعلية مضاعفة:فاعلية فعلية وفاعلية رمزية.
فأما صورة العمران فهي المقوم السياسي الذي يتألف من السلطة السياسية (ويغلب عليها الفعل الفعلي ومثاله القوة العامة مضمون الباب الرابع من المقدمة) والسلطة التربوية (ويغلب عليها الفعل الرمزي ومثاله المعارف جزء أساسي من مضمون الباب السادس) وأما المادة فهي المقوم المدني الذي يتألف من الفاعلية الاقتصادية (ويغلب عليه الفعل الفعلي ومثاله قوة المال مضمون الباب الخامس من المقدمة) والفاعلية الثقافية (ويغلب عليها الفعل الرمزي ومثاله الآداب جزء أساسي من الباب السادس من المقدمة). أما وحدة المقومين بفروعهما فهي الجماعة من حيث هي أسمى القيم أو الأمة بالمعنى المقدس أي الملة المنفتحة على كل الإنسانية انفتاحا تحدده عقائد الأمة الدينية والفلسفية(21) . ويرمز إليها مفهوم الخليفة بمعنيي الكلمة معناها الخلقي الوجودي ( الإنسان من حيث هو مستخلف) ومعناها السياسي الديني (رئيس الأمة نيابة عن الخليفة بالمعنى الأول أو الإنسان المستخلف) 
أما إذا ترجمنا هذا التعريف بمفردات نظرية القيم التي تمثل دم العمران وسر حياته فإن تعريف ابن خلدون يقبل الصياغة التالية. فمادة العمران (الاقتصاد والثقافة) وصورته (الدولة والتربية) تشملان كل أفعال الإنسان ورهانات وجوده فردا وجماعة: 1- الفعل العملي أو السياسي 2- الفعل النظري أو المعرفي 3- الفعل الرزقي أو الاقتصادي 4- الفعل الذوقي أو الجمالي 5- الفعل الوجودي أو المنظور الذي يحقق التناغم بين هذه العناصر وكأنها نظام منغلق مطابق لعلمنا به (المنظور الفلسفي) أوكأنها نظام متعال على علمنا (المنظور الديني). ولمحددات فعل النظر وجها بروز: فله وجه الأفق الكاشف وهو الوجه الذي يحاول أن يكون غاية ذاته في خدمة القيم الأخرى وله وجه ما وراء الأفق الكاشف أعني الأفق الحاجب ودوره دور الأداة في خدمة القيم الأخرى. والوجه الأول هو الفعل الظاهر والعلني من المعرفة العلمية والثاني هو الفعل الباطن والخفي من التزوير الإيديولوجي. لكن الظاهر والعلني معركة رموز تتكلم باسم القيم المعنوية السامية والباطن والخفي معركة مصالح مادية تتنكر فتظهر بمظهر معركة الرموز لكنها تتكلم في الحقيقة باسم القيم المادية التي تحولها إلى غاية بدلا من اعتبارها أداة كما هي في الحقيقة. فكيف نفهم مسرح الدمى الذي يجري في ما نسميه بالمجتمع المدني؟
ولما كان التنافس بين الفعل الفعلي و الفعل الرمزي أمرا معلوما وكان الفعلي من الفعل لا يكتمل إلا بالجمع بين الفعلي من صورة العمران والفعلي من مادته بات من الضروري أن يستحوذ السياسي على الاقتصادي أو الاقتصادي على السياسي فيستتبعان التربوي والثقافي أي الرمزي منهما ويكون الاستبداد السياسي بالمدني استبدادا يقضي على الحقوق المادية والمعنوية: لذلك غلبت على فاعلية المجتمع المدني الصيغة الرمزية لان جوهره التعبير بالفعل الرمزي وذروته حرية التعبير التي هي جوهر التعبير عن الحرية. فيكون عمل المجتمع المدني سلبيا هو الصمود الخلقي لمنع الاستحواذ والاستتباع ومن ثم فالمعركة المدنية معركة حقوق مادية (لمنع الاستحواذ) ومعركة حقوق معنوية (لمنع الاسستباع). ويكون عمل المجتمع المدني إيجابيا مبنيا على الصمود لتحقيق الحقوق المادية والمعنوية بحماية المصالح الاقتصادية والمصالح المعنوية وذلك هو المعنى الحقيقي لحقوق الإنسان سواء أدركناها بالعلم العقلي أو بالعلم النقلي المتطابقين في المنظور الخلدوني لأن الشرع قل أن يخالف الوجود كما يقول بشرط أن يكون فهم الأول في علم الثاني: وذلك هو مشروع علم العمران البشري والاجتماع الإنساني لنقد التاريخ المحرف للعلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ إما من منطلق تقديم ضرورة التاريخ الطبيعي النافية للحرية الخلقية أو من منطلق حرية التاريخ الحضاري النافية للضرورة الطبيعية.

المسألة الثانية: تحديد مقومات المجتمع المدني
واستنتاج العوائق النابعة منها

لن نستعمل طريقتي التعريف التقليديتين الطريقة المفهومية بالجنس والفرق النوعي والطريقة الصادقية بالإحصاء المستوفي لعناصر المجموعة التي يصدق عليها المفهوم. ذلك أن كلتا الطريقتين ممتنعة في مثالنا الحالي لأن المجتمع المدني ليس هوية طبيعية ثابتة بل هو مؤسسة تاريخية متطورة كما بينا في المسألة الأولى. فهويته تتحدد حقيقتها بما يبرز من مقوماتها بالتناسب مع اللحظة التاريخية التي يقع فيها التعريف من الخارج وبحسب مرحلة نضوج المقومات النشوئي من الداخل. فإذا اعتبرنا حصيلة المرحلتين بفرعيهما عند واضعي التصور وعند ناقديه أمكن لنا من منطلق البذرات التي أشرنا إليها أن نصوغ المقومات بصورة تتضمن كل العناصر المفيدة في تحديد فاعلية المجتمع المدني والعوائق التي يمكن أن تترتب على تعطيل عملها بسبب انحراف آلية انتخاب النخب المعبرة عنها لأن فعله بالأساس فعل رمزي. ويتطلب ذلك أن نستعمل جهاز تحليلي نظري ملائم لعلاج هذه المؤسسة العمرانية نستنبطه من مراحل التطور التي أشرنا إليها مع إيلاء الأهمية الأكبر للمرحلة العربية الإسلامية وخاصة للإضافتين الفارابية والخلدونية في صلتهما بالبذرات التي أشرنا إليها. 
فالمعلوم أن المجتمع المدني الذي ينتج عن ترجمة مفهومات ابن خلدون بالمصطلح الحديث هو مجال الفاعلية العمرانية التي تمثل سياسيا مادة وجود الجماعة الإنسانية في تعينيها الخارجي (في المعمورة بحسب درجات التفاعل الذي وصلت إليه وهو الآن في ذروته) والداخلي (في الدولة الواحدة) أو التي تمثلها مدنيا في تعينيها الأقصى (دورة العمران البشري كله) والأدنى (دورة العمران البشري لجماعة بعينها) مدنيا. و تتقوم هذه الفاعلية من علاقة ثابتة بين المتغيرات التالية التي هي العناصر المقومة للعمران عامة ولشروط فاعلية المجتمع المدني خاصة: 
1- فرهانات الفاعلية العمرانية في التنافس بين البشر هي أصناف القيم أي قيم الذوق (كل الإبداعات الفنية) وقيم الرزق (كل الإبداعات الاقتصادية) وقيم النظر (كل الإبداعات المعرفية) وقيم العمل (كل الإبداعات السياسية) وقيم الوجود (كل الأديان والفلسفات )..
2- وساحات الفاعلية العمرانية هي ساحات التنافس في العمران البشري. إنها الأحياز التي يجرى في إطارها التنافس أي الزمان (وهو حيز التاريخ والذاكرة) والمكان (وهو حيز الجغرافيا والثروة المادية) وسلم الرتب الاجتماعية (وهو حيز المنازل والأدوار في السلم الاجتماعي ) والدورة الاجتماعية (وهي حيز تفاعل ما يملأ تلك الأحياز وتحولها بعضها إلى البعض في حركية التاريخ البشري).
3- وأدوات الفاعلية العمرانية في التنافس هي أدوات التعبير عن التنافس في العمران البشري. إنها الفعل المادي الذي هو اقتصادي وسياسي (المال والسلطة السياسية) والفعل الرمزي الذي هو فني ووجودي (وهو الكرامة والسلطة الروحية). 
4- وغايات الفاعلية العمرانية في التنافس بين البشر هي التحقق الوجودي للأفراد والجماعات تحققا رمزيا في الفن والعقائد الوجودية وتحققا فعليا في السياسة والاقتصاد. وبهذا المعنى فإن التحقق الفعلي ليس إلا أداة للتحقق الرمزي: أي إن الحضارات لاتقاس بانجازاتها المادية إلا إذا كانت هذه الانجازات في خدمة الانجازات المعنوية.
5- وطبيعة الفاعلية العمرانية هي جوهر التنافس القيمي بأبعاده الخمسة التي لا يخلو منها عمران بشري لكونها مادته (قياما) التي يستمد منها مدده (حيوية) ومدته (زمانا) وامتداده (مكانا). وهي كما حددها القرآن الكريم التدافع من اجل نقل الإنسان من منطق التاريخ الطبيعي الذي تحكمه الضرورة والقوة المادية مثل جميع الكائنات الحية الأخرى إلى منطق التاريخ الحضاري الذي تحكمه الحرية والقوة المعنوية اللتين تميزان الوجود الإنساني. فتكون الرهانات أواصر الأخوة بدلا من أن تكون دواعي الحرب الدائمة بينهم في التنافس عليها: الذوق والرزق والنظر والعمل والوجود يمكن أن تكون النسيج الذي يصل بين البشر إذا نقلناها من موضوع تنافس ضروري لتجويدها وإنتاجها إلى موضوع تعاون ضروري للاستمتاع بها ولإضفاء المعنى عليها.
لذلك كان لهذا التدافع بالاصطلاح القرآني ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: مرده إلى جدل العلاقة بين الكل والجزء في هذه المستويات جميعا أعني من حيث الماصدق. فالتنافس بين المجتمعين المدنيين المحلي والعالمي يجري بمقتضى حيزيه الطبيعيين (المكان والزمان) خاصة فتتوزعه الجغرافيا (بين أعيان المجتمعات المدنية التي تحددت في الجغرافيا البشرية للمعمورة خلال تنافسها على أصناف الرهانات) والتاريخ (بين رؤى المجتمعات المدنية للقيم في المعمورة خلال نفس التنافس). وهذا هو مجال صراع المصالح المادية بين الكيانات العمرانية أو التزاحم على تحقيق غايات الوجود الإنساني من حيث حاجاته المادية فتكون الثروة والسلطة في المكان والزمان مجال الصراع وجوهر حيوية الجغرافيا والتاريخ السياسيين للبشرية.
الوجه الثاني: مرده إلى جدل العلاقة بين الكلي والجزئي في هذه المستويات جميعا أعني من حيث المفهوم. ويتعين التنافس ضمن كلا المجتمعين المدنيين المحلي والعالمي بمقتضى حيزيه غير الطبيعيين لكونهما حصيلة تاريخية لمسار العمران نفسه (السلم والدورة). وفي هذا المستوى تتوزع الجماعات بحسب منازل الرهانات تقديما وتأخيرا رغم وجود كل الرهانات في كل المجتمعات. وهذا هو مجال صراع المصالح المعنوية بين الكيانات العمرانية أو التزاحم على تحقيق غايات الوجود الإنساني من حيث حاجاته الروحية فتكون اللذة والكرامة في السلم والدورة مجال الصراع وجوهر الجغرافيا والتاريخ القيميين للبشرية.

6383 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com