|
|
الفكر السياسي . الإسلام السياسي |
|
|
|
"الجهاد" في الأصل اللغوي: بذل الجهد، ويتضمن معنى المُدافَعَة. وبهذا المعنى اللغوي يكون الصبر على الشدة جهادًا، ومدافعة النفس والشيطان والفساق وغيرها جهادًا، وليس شرطًا أن يكون في "سبيل الله"؛ فالقرآن استعمله بهذا المعنى اللغوي العام حين قال: (وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) [لقمان 15] وبهذا المعنى اللغوي العام جاءت الآيات المكية – ولم يكن فُرض القتال وقتها- (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) [العنكبوت 6] (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا) [العنكبوت69]. وبعد فرض القتال نقل الشرع لفظ "الجهاد" من المعنى اللغوي العام إلى المعنى الشرعي وهو - بحسب ما يستفاد من النصوص المدنية - : "بذل الوسع بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك(1)" . القتال بهذا المعنى الشرعي يفترض وجود "عدو"، وتوضح آيات وأحاديثُ كثيرة أن "الجهاد" هو "لإعلاء كلمة الله" و "في سبيل الله" ، وهو محل إجماع بين علماء المسلمين. وهذا المفهوم يستدعي في التصور الإسلامي القتال، والإعداد، وأحكام الجهاد كما هي مقررة في السياسة الشرعية، وعلاقات السلم والحرب، والاستشهاد وأحكام الشهيد، والغنائم وقسمتها، والاسترقاق إلى غير ذلك من الأمور المقررة في الفقه الإسلامي. ومع نشأة "الدولة" - خصوصًا - ارتهن ذلك التصور في كثير من مفرداته للتاريخ، فانتقلت ممارسات الجهاد من أحكام "الإمامة" إلى ممارسات جماعات معزولة هنا وهناك، فلحظنا كثرة استعمال تعبير "الجهاد" في العصر الحديث بدءًا من الجهاد المقدس في فلسطين، و"الجهاد ضد الإلحاد الروسي"، وانتهاءً بجهاد بن لادن ضد أمريكا وفتاوى الجهاد في العراق، مرورًا بتسمية حركات وتنظيمات (مختلفة) بهذا الاسم؛ ما يسمح بتفسيرات متنوعة لكلمة "الجهاد" ، فضلاً عن التوظيفات السياسية للمصطلح إلى جانب تلك التوظيفات المختلفة "للجهاد" بحسب رؤى وتصورات تلك الجماعات المعزولة استُحدثت تعبيرات عديدة كالجهاد السياسي، والجهاد المدني، والجهاد الإلكتروني، والجهاد الاقتصادي، والجهاد الإعلامي، ... وما يهمنا هنا أن نقف عنده على وجه الخصوص هو ما سمي بـ "الجهاد المدني"، وهو التعبير الذي ظهر لدى تيار محدد في مشروعات الفكر الإسلامي المعاصر، والذي وسمه أحد الباحثين بـ "مشروع العمل الإسلامي المدني". من "اللاعنف" .. إلى تعبير "الجهاد المدني" محور هذا التوجه هو العمل السلمي الذي كان يتم التعبير عنه بـ "اللاعنف" قبل ظهور تعبيرات أخرى، ففي عقد الثمانينيات الماضي كانت هناك مناقشات عربية حول "المقاومة اللاعنفية" للطغيان والاحتلال – ولا تزال مستمرة في سياق التوجهات الرافضة للعمليات الاستشهادية وعسكرة الانتفاضة – غير أن التعبير عنها أُطلق عليه وقتها "المقاومة المدنية" وساهم مؤتمر عمان (15-18 نوفمبر 1986م) الذي انعقد لهذا الشأن في إشاعة هذه الفكرة (المقاومة المدنية)(2) . في المقابل كان دعاة اللاعنف الإسلاميون يعملون – وبعضهم منذ الستينيات تقريبًا - على تأصيل مفهوم "اللاعنف" والعمل السلمي، ومع ذلك لم يكن تعبير "الجهاد المدني" أو حتى "المقاومة المدنية" شائعة في خطابهم. لكن الصادق المهدي بعد خوضه ما أسماه "الجهاد المسلح" وخسارته عام 1976م أعلن ما أسماه "الجهاد المدني" ضد نظام البشير بعد أن أمّ الناس في أول عيد حضره بعد الإفراج عنه سنة 1991م، وأصدر حزبه (حزب الأمة) عدة أدبيات يبين فيها مفهوم الجهاد المدني باعتباره "يتضمن كافة أنواع المقاومة والمعارضة غير المسلحة" بهدف "عزل النظام وتوحيد القوى السياسية والنقابية في معارضته". وظل يؤكد من خلال منابر الأعياد معنى "الجهاد المدني" والسعي لحل "قومي سلمي ديمقراطي" كما يسميه (3). بموازاة هذين التحركين فيما يبدو، بدأ تعبير "الجهاد المدني" يأخذ طريقه إلى خطاب دعاة اللاعنف فنجد خالد القشطيني يضع كتابًا سنة 1998م يسميه "دليل المواطن للجهاد المدني" ثم نجد خالص جلبي ينسب لنفسه (4) أنه "بلور مفهوم الجهاد المدني" ونلحظ أن كتاباته السابقة لم تحمل هذا العنوان، نحو: الحج ودرس اللاعنف، تأسيس لاعنف عربي داخلي، سيكولوجية العنف واستراتيجية العمل السلمي، فلسفة القوة والمقاومة ... بل إن التعبير شاع لدى آخرين، فبعضهم يستشهد بحديث "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(5) ليقول: "هذا الحديث كان من الممكن أن تبنى عليه نظريات الجهاد المدني بأن يدافع العالم والمثقف كل سلطان جائر" . وجاء في بيان "إسلاميون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان" الموجه إلى الحكومة المصرية: "إن الموقعين يدعون إلى: أن يستعيد أبناء الشعب المصري تراثهم المجيد في الجهاد المدني بكافة مستوياته ووسائله ..."(6) . وكان من المحاولات البارزة في هذا السياق ما كُتب عن "الجهاد المدني .. الطريق إلى فعل مختلف"(7) ، في أثناء الحرب على العراق، وتبعها دعوة أحد أبرز مراجع الشيعة في العراق العراقيين إلى ممارسة "نوع من الجهاد المدني" ضد الاحتلال الأمريكي من خلال توجيه سؤال واحد للجنود الأمريكيين: "متى تخرجون من بلادنا؟(8)"! . غير أن الجديد هنا هو السياق الذي تُقدم فيه هذه الدعوة، ففكرة "الجهاد المدني .. الطريق إلى فعل مختلف" تقوم على أن "الفرد المدني العادي الذي لا يحمل بندقية أو قنبلة يمكن أن يكون شريكاً أساسياً هو وأسرته ومن هم مثله في فريضة الجهاد ضد محاولات الهيمنة الأمريكية". ويبدو أن دعاة اللاعنف الإسلاميين وهم يلحون على أسلمة فكرة "اللاعنف" وجدوا أن تعبير "الجهاد المدني" فيه استعارة لشرعية "الجهاد" واستثمار لقداسته، كما أنه يتجنب السلبيات والتحيزات التي تحيط بتعبير "اللاعنف" الذي يوحي بالسلبية والضعف (9) . غير أننا نلحظ أيضًا أنه قد يكون هناك صلة ما بين الجهاد المدني والمجتمع المدني، خصوصًا أن بعض الأسماء التي استعملت "المقاومة المدنية" و "الجهاد المدني" تعتبر نفسها من دعاة "المجتمع المدني"، أضف إلى ذلك أن في هذا التعبير محاولة لتنقية مفهوم "الجهاد" مما علق به من سلبيات في مواجهة الآخر الغربي الذي يريد البعض الالتحام والتواؤم معه، فيظهر هذا التعبير في تقويم ما بعد 11 سبتمبر وكأنه يهدف إلى سد الفجوة بين الموروث الديني وأوضاع الحداثة، ويأتي ضمن مضاعفة جهود خطاب جديد مختلف جذريًّا ليؤكد وجوده في مواجهة تلك الصورة النمطية لتصوير الإرهاب الإسلامي الذي أخذ صورة "الجهاد"، ليقارع تنميطها ويقدم نموذجًا مختلفًا للجهاد. "الجهاد المدني" .. في مواجهة الداخل والخارج(10) إذن نحن هنا – ومن خلال الاستعمالات السابقة للمفهوم – إزاء مجالين بارزين: يتوجه الأول إلى استعمال "الجهاد المدني" في مواجهة النظام السياسي الداخلي، على نحو ما فعل حزب الأمة السوداني، ووثيقة "إسلاميون من أجل الديمقراطية" التي تجعل منه "تراثًا مصريًّا"!. وفي هذا السياق برز أيضًا لدى بعض قيادات الإخوان المسلمين ممن كان ينتمي إلى جيل حزب الوسط فكرة "الجهاد المدني" كمفهوم عصري للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يعني "العمل عبر التوعية والحوار والحق باختلاف الأفكار والمواقف وتعددها وعبر مؤسسات المجتمع المدني"، وهي فكرة تسعى للعمل خارج الإطار التنظيمي (كسر الإطار) وتقوم "على أن العمل السياسي بالمعنى التنظيمي العصبوي ليس ضروريًّا ويمكن الاستغناء عنه كليًّا لصالح العمل بأساليب الهيمنة الهيجيمونية للمجتمع المدني التي تعيد الاعتبار لمدرسة الدعوة في العمل الإسلامي" . والحديث عن ممارسة "الجهاد المدني" في المجال الداخلي يمكن أن يفهم على أنه نتاج متغيرات الموقف من الدولة، فقد راهنت النخبة بعد الاستقلال – على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية – على دور "الدولة" في إحداث التحولات الكبرى وتحقيق "النهضة"، لكن النتائج الكارثية التي حملتها التجارب القائمة والأخرى المجهضة - سواء لجهة الحريات والسلم الداخلي، أم لجهة مواجهة العدو والتحدي الأجنبي– أفرزت دعوات "المجتمع المدني" التي ظهرت في أوائل الثمانينيات أيضًا (أشرنا إلى أن فكرة "المقاومة المدنية" ظهرت في هذا الوقت)، ويأتي "الجهاد المدني" في محاولة اختطاف المصطلح الشرعي إلى سياق جديد يحمل توجهات ليبرالية بالاتكاء على استحقاقات تجربة المواجهة العنيفة مع الدولة، مع الوعي بالخطورة التي تختزنها "الدولة" بأجهزتها الأمنية والعسكرية، وهنا نجد أن "الجهاد المدني" يعبر عن صيغة مقابلة "للخروج" يراد لها أن تكون شكلاً مختلفًا "يتفق والواقع الراهن الذي لم يسبق له مثيل في تاريخها"؛ ومن ثم يكون "تحرير الأبنية والمؤسسات والهياكل هو ساحة الجهاد الأولى ومجال الخروج بهدف استعادة سلطان الأمة وحاكمية الشريعة"، وتكون "ساحة التنمية هي أقرب وأول ساحات العمل الجهادي" (11) ما يجعل منه نتاج مرحلة أزمة. المجال الثاني لاستعمال المفهوم هو أنه يطرح في مواجهة العدو الخارجي، إسرائيل وأمريكا تحديدًا، وقد أشرت إلى أن هذا المجال احتضن مفهوم "المقاومة المدنية"، وفي هذا السياق يأتي رفض العمليات الاستشهادية في فلسطين وإدانتها، وتنهض دعوات اللاعنف في مقاومة المحتل، ويغلب على هذه التوجهات أنها غير إسلامية، وتلح معظم الكتابات عن "اللاعنف" (الجهاد المدني) على استحضار أسماء مثل غاندي، ومارتن لوثر كينغ الابن، وعبد الظفر خان وغيرهم. أما دعاة اللاعنف الإسلاميون فيسعون بإلحاح لأسلمة الفكرة، ويمارسون قراءة تنحاز للنصوص التي تدعو إلى السلم والمواجهة غير المسلحة، ولا يبدو موقفهم واضحًا من الجهاد المسلح ضد الخارج (12)، بل إن بعضهم في الحين الذي يؤصل فيه للاعنف منذ الستينيات يحيل في موضوع الجهاد إلى أهل الاختصاص(13) . وتشكل الدعوة إلى "الجهاد المدني" في مواجهة الهيمنة الأمريكية إضافة جديدة لاستعمالات المفهوم، غير أن تزامن هذه الدعوة مع الجدل المثار حول جدوى الجهاد المسلح، وجدوى العمليات الاستشهادية في فلسطين(14) وفتاوى الجهاد في الحرب على العراق، دفعت بالبعض إلى التشكيك في كون هذه الدعوة هي إلى (أحد) ألوان الجهاد، ما يعني فهمها على أنها دعوة لبديل عن الجهاد المسلح، تتم قراءته على أنه "طرح مغرض فيما يخص العلاقة مع الخارج تتحدد أهدافه برسم علاقة موادعة استتباعية قائمة على الطاعة وليس التدافع المشروع أحيانًا والعنف المشروع في حالة الاعتداء بالقوة أحيانًا أخرى"، في وقت "ترتسم فيه علاقة الأمة بقواها المختلفة مع الغرب برمته بهذا الاستقطاب العنفي الذي يبرز كأشد ما يكون على مستوى القضايا المركزية كما في فلسطين والعراق وغيرهما"؛ ويرى صاحب هذا التوجه (15) أن من يُشيع "هذا المصطلح بعض قطاعات الإسلاميين ممن يعتبرون أنفسهم تضرروا من الاتجاه الجهادي، وأن مكاسبهم وجهودهم في العالم الإسلامي وفي العلاقة مع النظم السياسية أو جهودهم في الغرب قد بُدّدت". هذه القراءة تصدق إلى حد كبير على من يُدينون "العمليات الاستشهادية" وينادون بالمقاومة السلمية كحل أوحد، وهي تستحضر "العلاقة مع الغرب" محورًا لها، وكأنها تستبطن موقف المفاصلة الحدية معه، في حين يبدو لديها "الغرب" – كمفهوم- كلاً بسيطًا، سواء بمعناه الجغرافي، أم الثقافي، أو السياسي! وهذا الحكم الكلي، يغفل أن بعض الذين يدعون إلى ما يسمونه "الجهاد المدني" يذكرون أنه أحد ألوان الجهاد، فالشيخ القرضاوي - مثلا – وإن أطلق "جهاد العصر" على ألوان من العمل الدعوي والإنفاق والمقاطعة وغيرها، فإنه في مواقف أخرى كان صريحًا في الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، وفتح الحدود، ويقول الشيخ فيصل مولوي: "إذا تعذر على المسلم المشاركة في هذا الفرض العيني (الجهاد/القتال) لأي سبب فهو لا يعفى من المشاركة بكل أعمال الجهاد المدني أو مناصرة إخوانه بكل ما يستطيع(16)" . "الجهاد المدني" .. أسلمة مفهوم "اللاعنف" لكن ماذا عن المفهوم وهل هو مرادف "للاعنف"؟ قلت: إن دعاة اللاعنف لجؤوا لتعبير "الجهاد المدني" طلبًا للمشروعية، ولمقتضيات الأسلمة، ما يعني أن المسألة لا تعدو كونها ترادفًا لفظيًّا بين التعبيرين، لكن مقال "الجهاد المدني .. الطريق إلى فعل مختلف" يجعل "اللاعنف" أحد مكونات "رؤيته" للجهاد المدني، والذي يحدد معناه في: التظاهر، مراقبة الإعلام، التواصل بين الفاعلين محليًّا ودوليًا، المقاطعة، أشكال اللاعنف: (المقاومة غير العنيفة، العصيان المدني، الثورات البيضاء)، العمل الاجتماعي: من الإغاثة إلى التنمية. غير أننا بتأمل كتابات "اللاعنف" أو "النضال اللاعنفي" – وتحديدًا الموجهة للفلسطينيين- نجد أن صور المفهوم تتلخص في: أشكال الاحتجاج (لبس سواد، تجمع ورفع لافتات لتوجيه رسالة ...)، المسيرة، الإضراب، توفير الاحتياجات الإنسانية، الأعمال اليومية لمواصلة الحياة، الإنصات إلى معاناة الناس، اللجوء إلى القضاء الإسرائيلي، أعمال العصيان المدني، إعادة بناء المنازل المهدومة، مراقبة سلوك الجنود الإسرائيليين عند الحواجز، توفير الدعم، المقاطعة وبناء الذات، غرس الأشجار(17) ... . لكن كتابات نظرية "اللاعنف" ومرادفها "الجهاد المدني" في مجالها العام تهدف إلى أوسع من ذلك، وهو ما يعبر عنه كريم دوغلاس كرو بقوله: "في هذا التعبير [أي "الجهاد المدني"] تكمن معانٍ وتضمينات النضال من أجل العدالة والحرية، وهي مختزنة داخل تعبير يساء استعماله كثيرًا وهو الجهاد، أي النضال من أجل العدل الاجتماعي ومن خلال صراع ليس عنفيًّا بالضرورة ولا يؤدي حتمًا إلى الدمار وإراقة الدماء" (18) . ما يعني أننا في الحقيقة أمام ترادف ظاهر، غاية ما في الأمر أننا أمام عملية أسلمة، تتوسل بأدوات مختلفة بحسب الأرضية التي يقف عليها من يمارس الأسلمة. فإذا كان دعاة اللاعنف الإسلاميون يبذلون جهودًا في إبراز تمظهرات الفكرة في التاريخ الإسلامي الراشد، وينحازون للجهاد النبوي المكي (جهاد الدعوة قبل فرض القتال)، ويمارسون قراءة أيديولوجية للنصوص تقابل قراءة الجهاديين الذين يجعلون من الجهاد حربًا ضد العالم بأسره لأجل كفره: فإن من يدعو إلى "الجهاد المدني" يسعى لأسلمته من خلال الاتكاء على مكونات ليبرالية في الأساس تُستمد من مفهوم "المجتمع المدني"، عبر مطّ حدود بعض المفاهيم الإسلامية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل الخيري. فنحن أمام محاولات جديدة تتلمس طريقًا "للفعل" بتوازٍ مع الحملات الساعية من أجل الديمقراطية والحرية ونحوها ذات الصيغ العلمانية، وهنا يضحي من مرتكزات هذا الخطاب الناشئ إعادة اكتشاف وتأويل وإنتاج المصطلحات الإسلامية المركزية في سياق الفعل. بيئة هذه المحاولات: الأوضاع السياسية المزرية والحالة الاقتصادية المتردية والأنظمة السياسية العاجزة الممعنة في عجزها عن مواجهة واجباتها داخليًّا وخارجيًّا، مع تغولها تجاه المواطن، حيث تغدو الصيغ التاريخية "للجهاد" و "الخروج" غير قابلة لأن تشكل حلولاً، فضلاً عن أن تكون ممكنة التطبيق الآن(19) . "الجهاد المدني" .. التركيب الفسيفسائي! لكن هاجس الأسلمة وتَلَمس طريقٍ للفعل أوقع في سلبيات متعددة، فالسيولة اللفظية: الجهاد الإعلامي، والجهاد الإلكتروني، والجهاد الثقافي، والجهاد السياسي ... في الحين الذي تريد توسيع دائرة الفعل ساهمت في تشظي المفهوم وتذويبه، حين راحت تمنح رتبة "الجهاد" لكل من يبذل جهدًا صغر أم كبر، وفي أي مجال كان، ليشمل "الجهاد" كل فرد في "المجتمع المدني"، ويصبح: ميدانًا للباحثين عن مضمون لهويتهم أو دور لهم في العملية السياسية، أو حلاً نفسيًّا يفرغ الاحتقان الذي يعتمل في صدورهم، أو تسليةً لنفوس الذين يتوقون للجهاد وتقصر دونه هممهم، أو من حاولوه وقعدت بهم الموانع ... أو يتم إعادة تأويل حديث "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" بما يتناسب مع معطيات الواقع الجديد وإمكاناته. ولعل أبلغ مظاهر تشظي المفهوم هو ما وُصف بأنه "جهاد ليبرالي يعمل على التصدي للتطرف والتشدد الإسلاميين" تعبيرًا عما تقدم به بعض أعضاء الحزب الليبرالي في هولندا من مقترحات لتشديد الرقابة على المدارس الإسلامية وإلزامها باحترام القيم الفكرية والاجتماعية للمجتمع الهولندي، ويلح قادة في الحزب الليبرالي على "أن حزبهم سيمضي قدمًا وبكل قوة في دعم جهاده الليبرالي باعتباره الوسيلة الوحيدة – برأيهم - لمحاربة التوجهات الإثنية والدينية الانفرادية للمدارس الإسلامية" (20) . يبدو أن "الجهاد الليبرالي" هو التعبير الأصدق عن مضمون "الجهاد المدني"!. وفيما يخص تركيب "الجهاد المدني" فهو استعارة لمفهومين ينتمي كل منهما لمنظومة فكرية وقيمية مغايرة في بِنيتها الكلية، فـ "المدني" – وهو المفهوم الغربي- (لنتذكر هنا تعبير "المدنيين" الذين يراد تجنيبهم المقاومة في فلسطين) باستعارته من التصور الكلي الغربي إلى السياق الإسلامي من شأنه أن يخرج "الجهاد" عن حيزه "الديني" الخالص (شهادة، حياة أبدية، عظم الثواب الموصل إلى الجنة، شراء الله لنفوس المؤمنين مقابل القتال في سبيله ...) وفي حين يكون "الجهاد" في سبيل الله ببذل الأرواح وتقديم التضحية بالنفس في سبيل نصرته ورغبة في حياة أخروية، يكون "الجهاد المدني" – في بعض صوره لا كلها – سعيًا من أجل حياة دنيوية رغيدة، فهل يستوي جهاد باذلي الأرواح مع جهاد المترفين (21) ؟! وأي فضل سيكون للمجاهدين المؤمنين على زملائهم من المجاهدين في المجتمع المدني العالمي؟. إن دعوة "الجهاد المدني" تشغب على المفهوم الشرعي للجهاد، وتضخم من أهمية أفعال لا ترقى إلى مكانة الجهاد في التصور الإسلامي والذي تحدثت كثير من النصوص عن فضائله وما أعد الله للمجاهدين في سبيله، وأخشى أن تؤول إلى بديل عنه في ظل المعوقات والإشكاليات التي تعوق ممارسة "الجهاد" بمعناه التنظيمي، وإن كانت العمليات الاستشهادية في فلسطين شاهدة على بقائه حيًّا في واحدة من أحد صوره، مع التذكير بأنها وسيلة وليست غاية، وتخضع لاعتبارات المصالح. ---------------------------------------------------
الهوامش
(1) هذا التعريف للكاساني، بدائع الصنائع، ج7 ص97 عن: محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، بيروت، دار البيارق، ط2، 1996م ج1 ص44. (2) نشرت أعمال المؤتمر بعنوان: "المقاومة المدنية في النضال السياسي" وحررها سعد الدين إبراهيم، صدرت عن منتدى الفكر العربي في عمان 1988م. (3) يمكن مراجعة ذلك عبر موقع حزب الأمة: www.umma.org (4) في أحد مقالاته في صحيفة الرياض بتاريخ 13/مايو/2003 واستعمل كذلك "المقاومة المدنية" في مقال له على الجزيرة نت بتاريخ 16/8/2003. (5) عبد الله الحامد، تجديد الفكر الديني، حلقة تلفزيونية في برنامج الشريعة والحياة، قناة الجزيرة، بتاريخ 26/5/2002. (6) بيان "إسلاميون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان"، 28/8/2003، ومن ضمن الموقعين أحمد عبد الله ومجدي سعيد وآخرون. (7) عنوان مقال كتبه أحمد عبد الله، ونشر على موقع إسلام أونلاين.نت بتاريخ (22-3-2003). (8) المرجع المشار إليه هو محمد علي السيستاني بتاريخ (17-6-2003)، وانظر تفصيل الدعوة في موقع إسلام أونلاين.نت. (9) يشير كريم دوغلاس بوضوح إلى أن "تعبير اللاعنف قد تم استبعاده أو تجنبه بسبب التحيزات أو الانطباعات حول هذا التعبير لدى العرب المسلمين وهو يتضمن معاني السلبية والضعف وانتفاء الشجاعة". وتبعه على ذلك محمد أبو النمر أيضًا وكلاهما يتحدث عن "دعاة اللاعنف". يشار إلى أن كريم دوغلاس كرو باحث في قسم "الإسلام والسلام" من برنامج دراسات السلام بمدرسة الخدمات الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، وأبو النمر هو متخصص في مجال حل النزاعات، ويدّرس في كلية الخدمات الدولية بالجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة. ينظر: كريم دوغلاس كرو، تأصيل السلام في الخطاب الإسلامي، مجلة إسلامية المعرفة، سنة7، 2001م، عدد 25 ، ص90، وأبو النمر، اللاعنف في إطار المفاهيم الإسلامية، مقال منشور في الحياة اللندنية، 24/8/2003. (10) جمال باروت، تحويل الجماعة إلى حزب بين الإمكانية والعوائق، مقال منشور بتاريخ 29 أكتوبر 2003 في موقع www.arabrenewal.com (11) هبة رؤوف، الجهاد .. أسلحة كثيرة قبل هدير المدافع، مقال منشور بتاريخ 1/11/2000 على موقع www.islam-online.net (12) فخالص جلبي -مثلا- في الحين الذي يتحدث فيه عن أن أعظم إشكال يواجه "الجهاد المدني" هو الجهاد في سبيل الله، يذهب ليتحدث عن محاولات الخروج على الحاكم بالعنف ويدينها، لينتهي للقول: " لا بد من وضع قواعد صارمة لفهم (آلية) الجهاد و (وظيفته) و (بيد من) يستخدم؟ و(ضد من) يشن ؟"، وجودت سعيد يضع شروطًا للجهاد تكاد تلغيه، وفي بعض الأحيان يحيل القول فيه إلى "أهل الاختصاص"!. انظر: خالص جلبي، بين الجهاد المسلح والجهاد المدني؟، مقال منشور على موقع www.islam-online.net، وجودت سعيد، الدين والقانون، كتيب منشور على موقع http://www.jawdatsaid.net/MASTER/BOOK.HTM. (13) يشير د. محمد سعيد رمضان البوطي في مقدمة كتابه "الجهاد في الإسلام" إلى حواره مع جودت سعيد وأنه أشار له بالكتابة عن الجهاد في الإسلام. (14) انظر - مثلا - سلسلة مقالات عن اللاعنف قدمتها خدمة Common Ground الإخبارية، ونشرت عددا منها صحيفة الحياة اللندنية، وكلها يدعو إلى اللاعنف، وتحديدًا في فلسطين، كخيار أمثل أو أوحد، فضلا عن موقف عدد من كتّاب "الحياة" الذين يعبرون عن هذا الموقف. (15) الإشارة هنا إلى رأي أحد الأصدقاء في حوار خاص بيننا، وأعتذر عن عدم ذكر اسمه. (16) فتوى منشورة على موقع: www.mawlawi.net (17) تم رصد هذه الأشكال من سلسلة مقالات عن اللاعنف نشرتها خدمة Common Ground الإخبارية لكل من: مبارك عوض مدير مؤسسة اللاعنف الدولية، ولوسي نسيبة مؤسسة ومديرة مركز الديموقراطية واللاعنف، وجوناثان كتّاب محام فلسطيني متخصص في حقوق الإنسان، وغيلا سفيرسكي ناشطة سلام وحقوق إنسان إسرائيلية. (18) كريم دوغلاس كرو، مصدر سابق، ص89. (19) من المهم هنا العودة إلى الإشكالات التي تحيط بمفهوم الجهاد في ظل "الدولة" العلمانية، وقد طرحتها في مساءلتي لفتاوى الجهاد، بعنوان "فتاوى الجهاد في الحرب على العراق: وقفة للمساءلة"، و "فتاوى الجهاد .. مساءلات وإيضاحات"، مقالان منشوران بتاريخ 15/4/2003 و2/7/2003 على موقع www.islam-online.net (20) انظر تفاصيل ذلك في موقع إسلام أونلاين.نت، نقلاً عن صحيفة "نيدرلندس داخبلاد" الهولندية في عددها الصادر بتاريخ (2-11-2003). (21) بعض دعاة المقاومة اللاعنفية يقاوم الاحتلال بالأغاني والعزف عند الحواجز العسكرية للاحتلال الصهيوني! تأمل: محمد دراغمة، الفن واللاعنف: حياة تصعد من خراب، مقال منشور في الحياة بتاريخ 27/07/2003.
تاريخ النشر : 20-03-2005
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.