حين قام مركز التراث Heritage Foundation بدعوة كل من خالد دوران (يهودي مغربي)، ودانيال بايبس، وستيف إيمرسون (كاتب معروف بارتباطه بالتيار اليهودي في أميركا) للحديث حول «الخطر الإسلامي في شمال إفريقيا»، عارض دانيال بايبس خلال اللقاء فكرة تقسيم الإسلاميين إلى معتدلين ومتطرفين، وأكد أن الجميع متطرف، أما لوران أرتور دو بلسيس فانتقد الغربيين بما فيهم القادة الذين يراهنون على المعتدلين في العالم الإسلامي لإدخال الإسلام في الحداثة والديموقراطية وحقوق الإنسان مما يحول دون حرب بينه وبين الغرب، وهو لا يفرق بين الإسلاميين والمسلمين ويدعو صراحة لضربهم وقاية للغرب من الإسلاميين.
بل إن الأمر يبدو على مستوى أعمق من ذلك، فبروس لورانس حين عالج موضوع العنف، طرح السؤال الآتي: لماذا أبدأ بالعنف؟ وأجاب: «العنف هو النقطة التي يبدأ منها معظم الناس ممن هم من غير المسلمين في التفكير حول الإسلام، بخاصة إذا كانوا يعيشون في مجتمع لا يوجد فيه مواطنون مسلمون أو أنهم يعيشون فيه على الهامش» علماً أنه كتب هذا الكلام سنة 1998م.
لا يمكن النظر إلى هذه الصورة التي يتحدث عنها بروس، والتي تساوي بين العنف والإسلام بمعزل عن الصور النمطية الاستشراقية القابعة في متخيل الغرب عن الإسلام، فجلُّ الباحثين في تاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية «يندهشون من التفجر الكبير لعناصر المتخيل فيما يخص إدراك الآخر، لا سيما من المنظور المسيحي. ويرى «مونتغومري واط» أن أوروبا الوسيطية أفرزت ظاهرتين لا يمكن لأي باحث جاد أن يتعامل معهما بلا مبالاة. تتمثل الأولى في الصورة الشائعة تماماً التي ولدتها أوروبا عن الإسلام، وتبرز الثانية في التجذر الهائل الذي تمكنت الأيديولوجيا الصليبية من ترسيخه في قلوب وعقول الأوروبيين عن الذات وعن الآخر.
والصورة المسيحية عن الإسلام، جاءت نتاج الأدبيات التي وضعها رجال الكنيسة، وعلماء الكلام، والمؤرخون، بالدرجة الأولى، لأنه من العصر الوسيط إلى النهضة كان رجال الكنيسة والرهبان والكهان وموظفو الكنيسة الكبار هم الذين يمتلكون مفاتيح المعرفة ويتكفلون بتربية المؤمنين بكتاباتهم ودعواتهم.
وإحدى أبرز الصور النمطية عن الإسلام، التي بلورها الوعي أو المتخيل المسيحي في الزمن الوسيط، «أنه عقيدة ابتدعها محمد، وهي تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، إنها دين الجبر، والانحلال الخلقي، والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، إنها ديانة العنف والقسوة، شعارها السيف والحرب والقتال. وهذه الصفات هي ما يمثل النقيض المباشر للمسيحية. فالمسلم يتقدم إلى مساحة الإدراك المسيحي الأوروبي باعتباره رجلاً محارباً، شرساً، متوحشاً، يقوم بكل أنواع النهب والتنكيل، خالقاً بذلك وراءه تعاسة وشقاء لا يوصفان، يحركه ميل قوي للقتل».
وهكذا التقت رواسب الصورة المسيحية عن الإسلام كما تشكلت في السياق التصادمي للحروب الصليبية والصورة الاستشراقية من خلال تفسير الإرهاب بأنه ذو جذور عقدية تكوينية في الإسلام من حيث هو كدين، ومن هنا تم التركيز على الجهاد ونحوه مما تقدم.
والآن قد يولع البعض أمام هذا التفسير الذي يلقي اللوم على الإسلام بأنه دين عنف بطبيعته: بتفنيد هذه الدعوى الاستشراقية التقليدية القديمة، فتلك الدعوى وما يتفرع عنها من مقولات عتيقة كُتب فيها الكثير في مواجهة المستشرقين وشبهاتهم حول السيرة والنبي (صلى الله عليه وسلم) وآيات القرآن الكريم المحرِّضة على العنف وانتشار الإسلام بالسيف وغير ذلك، واستهلكت جزءاً من الجهد والوعي الإسلامي الذي انشغل بالرد عليها.
إن مشكلة هذا التفسير أنه يختزل الإسلام... تلك الديانة التي قارب عمرها خمسة عشر قرناً من الزمن، ببعض الظواهر الضيقة والحديثة التي سنجد أمثالها في ديانات وأقوام أخرى، وحين نستدعي النماذج التفسيرية الأخرى للإرهاب (التفسير الثقافي، والسياسي، والاستراتيجي) سيتبين حجم القصور والتجني الذي يلف هذا التفسير، كما أن هذا التفسير يفتقر إلى مقومات «العلمية» حين يشطب تنوع الفكر الإسلامي وعلومه، وتنوع اتجاهاته على تنوع دوله وتزاحم المنتمين إليه في صورة مبتسرة كتلك التي تقبع في مخيلة أصحاب هذا التفسير وتلك التبسيطية الشديدة التي يتم فيها اعتبار «عالم إسلامي» شاسع كلاً متجانساً وكأنه نسخ كربونية!، وهذه الانتقائية الشديدة طاولت القرآن نفسه فاختزلته كله في بضع آيات معزولة عن سياقها مع تجاهل تام لعلوم نشأت من حول النص القرآني وتخصصات توجب منهجية مركبة في فهم النصوص وضمها إلى بعضها وتفسيرها في ضوء بنيتها الداخلية وقاموسها المفهومي.
كما أن المسألة لم تعد قاصرة على دائرة الاستشراق (التقليدية) التي شوهت صورة شعوب بأكملها لتلبية حاجات الهيمنة والاستعمار، فهناك الآن مستجدات كثيرة تساهم في هذه التصورات، وترسم الصورة النمطية التي تسهم في تشكيلها إمبراطوريات الإعلام وغيرها، وكذلك ما ساد بعد الحرب الباردة من تسويق لفكرة الخطر الإسلامي كبديل عن الخطر الشيوعي، والكتابات الكثيرة التي كتبت لتسوقه على قاعدة الصورة النمطية السابقة، وحاجات العولمة التي تسعى لسيادة نموذج واحد واحتقار ما عداه، ويشكل الإسلام بؤرة الممانعة.
قد تبدو الإحالة إلى رواسب عصر الحروب الصليبية بعيدة في تاريخها وتأثيراتها، لكن بروس يقول: «في التسعينات من القرن الماضي كان معظم الصحافيين الأوربيين والأميركيين يواصلون ترديد المشاعر التي دفعت الملوك الأوروبيين وأتباعهم لشن الحروب الصليبية قبل نحو ألف عام... وبعد الحرب الباردة صار العدو مرة أخرى هو الإسلام المتشدد وغير المرن والوجه العنيف للإسلام العربي».
إلى ذلك، ثمة مرحلة أقرب يمكن أن تفسر جانباً من السؤال الذي نعالجه هنا، (لماذا يعتبر الإسلام مبعثاً للعنف؟) ذلك أن المرحلة الاستعمارية القريبة وما جرى أثناءها وما جلبته من تداعيات فيما بعدها، مملوء بالتفاصيل التي يمكن أن تشكل خلفية تفسيرية - وانحيازية أيضاً - لهذه النظرة، فحين التدقيق نجد أن حركة الاحتجاج على الاستعمار ومقاومته، وإن كانت تتم تحت زخم وطني كبير إلا أنه لا يمكن تجاهل البعد الإسلامي الذي كان واضحاً في تفسيراته ودوافعه الدينية التي تلزم المسلمين به باعتباره واجباً عينيّاً. والحركة الإسلامية أو البعد الإسلامي يعتمد في ذلك على الدين، وربما سماه البعض أيديولوجيا، وليس على منطق أو استراتيجية براغماتية، فدوافع الاحتجاج كانت إيمانية وثقافية أيضاً. كما أن استيلاء المراجع العلمانية والقومية على تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مرحلة ما بعد الحكم الاستعماري، أجج من بروز الوجه الإسلامي كمعارضة للأنظمة الحادثة التي نُظر إليها على أنها وريثة مرحلة الاستعمار، وبخاصة بعدما فشلت «الوطنية» في إيجاد الحلول لكثير من المشاكل، فشكل الإسلام الاحتياطيَّ الرمزي للمعارضة والاحتجاج الذي أخرج الاستعمار من البلاد ثم هدد مصالحه والمرتبطين به في مرحلة ما بعد الاستعمار وبعنف أيضاً. في حين أنه لم يكن الوجهان الوطني والإسلامي منفصلين أثناء مرحلة الاستعمار.
بناء على ذلك يمكن أن نفهم تلك النظرة الغربية التي ترى أن الإسلام ينبع من شرق أوسط عربي عدائي، «ومعظم الصحافيين وكثيرون من صناع القرارات السياسية لا يزالون يتجاهلون أي إسلام إلا الإسلام العربي أو ما يستحضرونه في أذهانهم على أنه إسلام عربي في تصوير الوجه المستقيم الرأي للتطهرية المتشددة» التي رافقت متغيرات مرحلة الاستعمار وما بعده، بدءاً بقواعد السلوك السياسي، إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها التي دخلتها متغيرات كثيرة كان يُنظر إليها على أنها «غربية» وأن ما يتم إنما هو عملية تغريب رافقها نمو الإحيائية الإسلامية.
وقد حاول بروس لورانس أن يُظهر «أن الإسلام ليس عنيفاً في طبيعته الأساسية، وأن النظرة الأعمق للمجتمعات الإسلامية تبشر بالأمل لا اليأس حول دور الإسلام في القرن الجديد» كما حاول في كتابه «تحطيم الأسطورة» إبراز التطورات الاقتصادية العولمية الجديدة التي حملت «فرقاً إسلامياً» غير متوقع في الشؤون العالمية. وقال: «سيبقى الفارق الإسلامي مستتراً وقوته غير معترف بها، ما لم يتم فضح الأوصاف النمطية السائدة: الإسلام ليس عنيفاً كما أن المسلمين ليسوا رهائن للعنف في طبيعتهم الأساسية، وإنني أجد في إطلاق الأوصاف المبتذلة افتراء يجب معالجته من البداية... العنف غير متأصل في الإسلام على نحو أكثر من اليهودية أو المسيحية أو الهندوسية أو البوذية أو السيخية. ولا بد من التحقق في شكل كامل من التشويه الحاصل بربط العنف بالإسلام».
وحين تحدث جيل كيبل عن القاعدة والعنف، وضع ذلك في سياق إقليمي ودولي، وهو إذ يؤرخ للجهاد ومتغيراته وانتشاره ينفي السمة التكوينية عن الإسلام، وقال في الحديث عن الجهاد الأفغاني: «هذه الأعمال العنيفة التي وصلت ذروتها باسم الدين لا تعود فقط إلى السياق العام الإقليمي والدولي... هي أيضاً نتاج أزمة اجتماعية عميقة خاصة بباكستان».
وكذلك جان بودريار اعتبر أن إرهاب 11 أيلول (سبتمبر) 2001 هو رعب مقابل رعب النظام العالمي الجديد، وقال: «لم يعد هناك وراء كل هذا أي بعد أيديولوجي، لقد أصبحنا بعيدين جداً من كل أيديولوجيا وسياسة، ذلك أن الطاقة التي تغذي الرعب لا تعبر عنها أيديولوجية ولا أي قضية حتى لو كانت إسلامية»، ويرد على «زعم الإرهابيين بأنهم يعترضون على النظام العالمي باسم حقيقة سامية» بأن ما يجعل العمل «رمزياً» هو العمل نفسه لا الخطاب فهم يعتدون على نظام من الواقع التام بعمل ليس له معنى ومرجع حقيقيان في عالم آخر، فهو ارتكاس وارتداد للقوة ليس باسم مواجهة أخلاقية أو دينية أو صدام حضارات مزعوم، بل ببساطة من زاوية عدم القبول بهذه القوة العالمية، هكذا ينظر بودريار إلى «إرهاب 11 أيلول» تحديداً.
المشهد في نظر جـاك دريدا أن «ما يتم طرحه - ولو ضمنـياً على الأقل – هـو تـوظيـف جميع قـوى الرأسمالية وقوى العلوم التقنية الحديثة في خدمة تفسير جامد معين لوحي الواحد الأحد الإسلامي». إلا أن روا يذهـب أكثـر من ذلك، إلى أن «الإسـلام لا يدخل بالإجمال في معادلة الصراعات القائمة، مع أنه يساهم في تحديدها».
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.