يستغرب كثيرون من المحللين عودة ظاهرة الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة نظراً إلى التحولات التي طرأت في المجتمعات الإسلامية ومسارات التحديث فيها، وبقيت تحليلات أسبابها غامضة، وتوقف البعض عن إبداء الرأي فيها، فيما علق آخرون ظهورهم على فشل الأنظمة السياسية العلمانية في تحقيق طموحات الشعوب في الديمقراطية والعدالة والتنمية، لكن ما يمكن إضافته في هذا المجال أن الظاهرة الإسلامية لم تغب وإنما تبدلت تجلياتها عبر العصور، فمع أفول دور الحركات الإسلامية في الحراك السياسي نتيجة لتغييبهم المتعمد أو ممارستهم للعنف أو إلجائهم إليه أو سحقهم بأتونه أصبح الحراك السياسي الإسلامي لمدة من الزمن منحصراً بحركات التطرف والعنف التي تحولت إلى ظاهرة عالمية وأفل النشاط السلمي المحلي ليقتصر على التدين التقليدي، فالحركات الإسلامية الكبرى التي انتهى نشاطها السياسي قد عوضه حراك إسلامي من نوع مختلف لا صلة له بالسياسية كالتصوف والدعوة والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، واقتصر النشاط السياسي على القيادات التقليدية في المنافي متمثلاً ببيانات ومواقف عامة من قضايا محلية أو دولية.
نشاط حركات العنف الذي توج بأحداث الحادي عشر من أيلول أعقب تحولاً عالمياً تجاه الموقف من الإسلام السياسي، فلم يعد ممكناً بعد الذي حدث من الاعتراف بالحركات الإسلامية ليس تحت ضغط عنفها إنما لأن التطرف الإسلامي لا يمكن أن يعالجه غير الاعتدال الإسلامي وإزالة عوامل الاحتقان المحلي التي أفرزت هذا التطرف، من هذا المنطلق كان الشعار الغربي (الأمريكي بالخصوص) دعم الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي والإصلاح ومحاربة الاستبداد سعياً إلى ديمقراطية يستطيع معها الغرب امتصاص الحقد والكراهية لدى الشعوب تجاهه وإقامة تحالفات مع أنظمة تستمد شرعيتها من شعوبها.
هذه الإستراتيجية الغربية تستلزم قاعدتها ألا تستثني فريقاً أياً يكن ولو كان إسلامياً, بل لم يجد الغرب من يتحالف معه ممن يمتلك أرضية شعبية في المناطق التي تدخل فيها مثل الإسلاميين (أفغانستان والعراق)، لكن ذلك كان ضمن خط أحمر هو المصالح والأمن الاستراتيجي لذلك استثنيت بعض الأطراف والانتخابات الفلسطينية من مبادئ الديمقراطية، ومما شجع الغربيين على الدعم العام للديمقراطية في المنطقة ولو أدت لفوز الإسلاميين هو التجربة التركية التي أثبتت قدرة الإسلاميين على التعامل الديمقراطي والحراك السياسي المتوازن محلياً ودولياً، لكن القناعة الغربية لم تحسم في التعامل مع الإسلاميين من منطلق المبادئ إنما هي متأرجحة حسب المصالح والحذر هو أساس الموقف، والمرحلة القادمة هي مرحلة تجربة للخروج من مآزق العالم العربي المزمنة حيث لم تفلح الأنظمة القائمة في إقامة آلية للاستقرار المحلي بحيث لا يشكل خطراً على المصالح الغربية.
فالإسلاميون اليوم هم محط الأنظار وهم النجم السياسي للمرحلة القادمة فالغرب ينتظر ما يمكن أن يقوموا به في التغيير القادم في المنطقة والقوى المحلية تنتظر مصداقية دعوى التزامهم بمبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، والشعوب تمنحهم أصواتها بعد يأس من إصلاح الأنظمة القائمة وترجيحاً لأصحاب اليد النظيفة فضلاً عن المنطلق الديني الذي يغلب على توجهات الشعوب العربية والإسلامية بفعل الصحوة الإسلامية.
فترة غيبة الحركات الإسلامية عن الحراك السياسي كان من المنتظر أن تكون مرحلة مراجعة ذاتية تؤول إلى منظور جديد للعلاقة السياسية من ناحيتي الفكر والممارسة، لاسيما وأن التجارب ونتائجها أصبحت بادية للجميع، وإقامة القادة في المنافي لاسيما الغربي منها يوفر مناخاً للتواصل والتطور الفكري والنقد الذاتي، وقد أثمرت تلك المرحلة من الغياب عودة بعض الإسلاميين بوعي جديد للحراك الدبلوماسي وفهم للممارسة السياسية لاسيما وقد اقترنت تلك الفترة ببروز تجربة متميزة للإسلاميين هي التجربة التركية التي كان نجاحها مصدر إلهام لكثير من الحركات رغم التحفظات الصامتة للبعض عليها، فلم تظهر إدانات من الحركات الإسلامية الكبرى لهذه التجربة رغم ممارستها التي تتنافى أحياناً مع المبادئ الإسلامية فضلاً عن التنصل من الهوية الإسلامية في أدبيات حزب العدالة والتنمية والاكتفاء بمرجعية الإسلام غير المعلنة، على العكس من ذلك كانت التجربة المصرية مفاجئة إذ عادت إلى الساحة في الانتخابات الأخيرة بشعارات تاريخية لصيقة بالهوية ومستفزة للتيارات المخالفة ومع ذلك فازت بأغلبية مطلقة بين الأحزاب المعارضة رغم ما شاب العملية الانتخابية من نقد، ولا يعرف بعد إن كانت هذه الشعارات مجرد أداة للحشد الجماهيري وأن الوعي السياسي للقادة أعمق من أن يقتصر عليها وأن الأيام ستثبت قدرة الإسلاميين في مصر على التكيف مع اللعبة الدبلوماسية أم أنهم ما يزالون أسرى التفكير السياسي التقليدي للحركات الإسلامية والذي آل إلى الفشل لأسباب متعددة أهمها طريقة التفكير السياسي، وعلى صعيد آخر كشفت بيانات حركات إسلامية أخرى عن تأثرها بالتجربة التركية وأكدت أدبياتها الحديثة عن قناعتها بديمقراطية العمل السياسي بغض النظر عن هويته.
إذا فنحن أمام فسيفساء من الحركات الإسلامية تجمعها لوحة واحدة بينما تختلف ألوانها وآليات تفكيرها وممارستها السياسية، وحضور مسألة الهوية في خطابها السياسي يكشف مرونته وقدرته على التأقلم مع التحديات السياسية المستجدة، وبالعموم فقد أثبتت معظم الحركات الإسلامية قدرتها على التجدد والتطور واستيعاب دروس الماضي وتلافي أخطائها فكانت أكثر قبولاً لخصومها من قبولهم لها، لكن ما يلاحظ في هذا المجال أن القدرة على التحرك والممارسة السياسية والدبلوماسية كانت أسبق وأعمق من المراجعات الفكرية والتنظير السياسي الذي يسند هذه التوجهات، فما يزال الخطاب المرجعي الإسلامي (السياسي) ملتبساً في مسائل مركزية تتعلق بالنظرية السياسية، ولم تستطع المراجعات التي تمت والنقد الذاتي للتجارب من تقديم إجابات مقنعة تؤصل الحراك الجديد، وهذه المشكلة لا ترجع إلى المسألة السياسية وحدها وإنما ترتبط بالمنظومة الفكرية بشكل عام، أعني خطاب التجديد الإسلامي وتحدياته والتباساته وعوائقه، حيث إنه ما يزال خطاباً ملتبساً لا يحظى بالمشروعية في مؤسساته، وبالخصوص الجانب السياسي من هذا الخطاب، لذلك لم تأت اتهامات أيمن الظواهري (في خطابه الأخير) بنوايا وولاءات الأحزاب السياسية الإسلامية المنخرطة في العملية السياسية من فراغ، إنما تستند في جوهرها إلى المرجعية الإسلامية الواحدة المختلف في تأويلها، وبالتالي فإن الحركات الإسلامية ينتظرها الكثير من التنظير والدراسات لتواكب مرونة الحركة التي أبدت استعدادها لها، وهذا لا يعني غياب الدراسات والمراجعات النظرية لكنها لم تكن من قبل الحركيين، ولم تتبن من قبلهم، ولعل من العناوين الهامة في هذا المجال مفهوم الدولة بين الماضي والحاضر والأسئلة المتعلقة بها، فما يزال البحث الفقهي يدرس الأحكام المتعلقة بالدولة المعاصرة على اعتبارها امتداداً للدولة التاريخية وكأن الخلافة لم تسقط، وانساقت الدراسات الفقهية إلى التوفيق والتلفيق بين المعطيات المعاصرة ومقابلاتها الإسلامية بحيث أصبحت المعطيات السياسية المعاصرة هي المرجع والمقياس ونفس الأمر عم مسائل الاقتصاد والقانون وغيرها.
ومن المسائل التي خضعت لمراجعات ودراسات مفاهيم الأمة والجماعة وصلتها بالسلطة والحاكمية دون أن تتحول تلك الدراسات إلى مرجعية للمعنيين بالشأن السياسي من الحركيين بل كانت محط نقد أحياناً، واقتصر التبرير الشرعي للحراك السياسي للكثير من الحركات الإسلامية على منطلق التدرج في الأحكام والأولويات والمصالح والمفاسد وسد الذرائع ومقاصد الشريعة، وبناء على هذه المنطلقات أصبح القبول بالديمقراطية بالنسبة للبعض هو من باب التقية السياسية كوسيلة للوصول للحكم ولم تثبت التجارب مدى القناعة بها كخيار بعد استلام السلطة، دون أن يعني ذلك الحكم بالنفي، فالممارسة العربية للسلطة –عموماً- لم تثبت تبني الديمقراطية كمبدأ لأي من الفرقاء.
إن التحديات التي تواجه الأحزاب السياسية الإسلامية اليوم هي التنظير السياسي بحيث يقنع بالممارسات السياسية المعلنة وإلا سيواجه الإسلاميون داخلياً خطر الانشقاق والنزوع إلى التطرف، أو تهمة التقية في قبول الديمقراطية ولو لم تثبت، والخيار العملي الأكثر إقناعاً وقبولاً هو التخلي عن الهوية في الشعار السياسي ودخول اللعبة السياسية كأحزاب علمانية مرجعيات أصحابها إسلامية كما هي التجربة التركية، وأياً يكن خيار الإسلاميين وحالهم في الممارسة السياسية اليوم فإن التجربة تؤكد ضرورة مشاركتهم والاعتراف بهم، ولا مصلحة لأحد في استبعادهم لأن ذلك سيشجع التطرف من جهة فضلاً عن أنه لن يفسح المجال لتطور الوعي السياسي للإسلاميين من خلال الممارسة.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.