إن الحديث عن الإرهاب، يوجب التعرض لمفهوم الإرهاب الذي نريد بحثه، غير أن البحث في تعريفه وتحديد مضمونه لم يعد مجديًا في ظل الممارسات الأمريكية وتجاهل أي محاولة أو مطالبة بالاتفاق على تعريف له. بل قد عمل البيت الأبيض في 30/7/2005 على إعادة صوغ مفهوم "الحرب على الإرهاب"، ليشمل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب بعدها العسكري، بشكل يتم معه التركيز على جوانبها الأيديولوجية. كما أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أشار في خطاب له آنذاك إلى أن أميركا تخوض "نضالاً عالمياً ضد التطرف"، متفادياً استخدام تعبير "الحرب على الإرهاب" الذي يوحي باقتصار الحرب على البعد العسكري. وهذا يشكل رغبة فـــي التأكيد على أنه لا يمكن الانتصار في هذه الحرب بالاعتماد على القوات العسكرية منفردة، بمعزل عن ضرورة تفعيل أبعادها الأيديولوجية بصفتها صراعاً ثقافياً يتطلب إعادة النظر في السياسات المتبعة حالياً، فضلاً عن تفعيل "الديبلوماسية العامة" التي يعول عليها الرئيس جورج بوش لإعادة رسم صورة أميركا في العالم. وقد فُهمت هذه الخطوة على أنها محاولة لتفادي جهود تبذل عالمياً لتحديد مفهوم عالمي متعارف عليه للإرهاب، خوفاً من أن ينطبق ذلك المفهوم على ممارسات عسكرية أمريكية.
لعل الغاية الأبرز من عدم تعريف الإرهاب، هي إخضاعه للحسابات السياسية ومصالح الأطراف الأقوى في المعادلة الدولية، التي تصوغ المفاهيم والتعريفات والرؤى بحسب بوصلة مصالحها الأمنية والاستراتيجية والقومية، بعيدًا عن أي إطار معياري وقيمي، فكلما ازداد المفهوم غموضًا أصبح أكثر عرضة للتطويع الانتهازي. فليس من قبيل المنسيّ أنه تم الإشادة بإرهابيين باعتبارهم مكافحين من أجل الحرية في سياق المقاومة ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان على سبيل المثال، وجرى التنديد بهم باعتبارهم إرهابيين في سياق آخر. وهم هم غالبًا!.
ومن الصعوبات التي تواجهنا هنا أيضًا صعوبة الحسم بين القومي والدولي، في حالات مثل ما يخص إرهاب المجموعات المسلحة التي فرضت قيام دولة إسرائيل والاعتراف بها، فهل كان قوميًّا أم دوليًّا؟ وماذا عن الجماعات المقاومة المسلحة الفلسطينية؟ وقل مثل ذلك في الشيشان والإيرلنديين والأفغان الذين حاربوا الاتحاد السوفياتي، فبناء على أي معيار نتوقف عن الإشادة بمجموعة من هذه المجموعات باعتبارها كفاحًا من أجل الحرية، لنشجبها باعتبارها إرهابًا مقيتًا وعملاً مجرمًا؟ فأين نخط الحدود على أراضي "مجتمع" معين وفي الهياكل التي تضمن إمكانياته الدفاعية والهجومية، هل نمررها بين القومي والدولي، أو بين التدخل من أجل حفظ السلام والحرب، أو بين الحرب والإرهاب، أو بين المدني والعسكري؟ وتم التعبير هنا بـ "مجتمع" ليشمل نحو "السلطة الفلسطينية" التي لا تأخذ شكل دولة قانونًا.
لكن هذا التشوش في الحقل الدلالي لمفهوم "الإرهاب" لا يمكن اختزاله على أنه تشوش في الحدود بين المفاهيم، "فلا يجب التعامل معه باعتباره مجرد خلل في التنظير أو فوضى في المفاهيم أو منطقة للاضطرابات المتخبطة في لغة الحديث العامة والسياسية، فعلى العكس من ذلك، يجب أن نرى فيها استراتيجيات وعلاقات القوى. فالقوى المهيمنة هي القوى التي تتمكن في ظروف معينة من فرض تسمياتها ومن ثم فرض التأويل الذي يناسبها وبالتالي إضفاء الشرعية على هذه التسميات بل وتقنينها على المسرح القومي أو العالمي".
إنه لا يمكن الاطمئنان إذن للغة الحديث السائدة والتي غالبًا ما تخضع للغو الإعلامي، وللإيماءات اللغوية التي يقوم بها أصحاب السلطات المهيمنة، ولذلك أشار جاك دريدا إلى ضرورة الحذر في استعمال كلمات مثل "الإرهاب" و"الإرهاب الدولي"، وقد تجنب هو استعمالها لأنها كلمات موسومة بالالتباس والإرباك، واستعمل بدلاً منها "العنف" وطالب بإعادة النظر في جميع الظواهر التي نحاول تعريفها وتأويلها على أنها أفعال إرهابية.
كما أنه من المهم الإشارة هنا إلى أنه إذا كانت الولايات المتحدة والدول الغنية لم تعد تمارس هيمنتها الاستعمارية أو الإمبريالية في شكل احتلال للأرض، فإن خيار "المناضل من أجل الحرية" (الإرهابي حاليًّا في أكثر الأحيان!) لم يعد ينتمي إلا إلى الماضي.
ومن المفارقة حقًّا أن يتم الحديث في بيان المثقفين الأمريكيين الشهير، عن قيم كونية شن عليها الإرهابيون الحرب، في حين يتم السكوت وتجاهل وضع معيار قيمي للإرهاب والحرب التي تشن عليه! بل راح المثقفون يبررون - أخلاقيًّا - شرعية الحرب على الإرهاب بالمطلق، معتقدين أن "الهدف من جريمة 11 أيلول / سبتمبر كانت الجريمة نفسها". في حين أن بودريار كان يرد على هذا المنطق قائلاً: "إنه تفسير خاطئ للإرهاب أن يُنظر إلى العمل الإرهابي بوصفه منطقًا تدميريًّا بحتًا"، وجعل منه عملا رمزيًّا محملاً بمعان عديدة، من ضمنها "إذلال مقابل إذلال".
إلى ذلك، من المهم أن هذا "الإرهاب" بكل إشكالاته والتباساته، وما تقدم عنه، لم يكن كافيًا لدى فئة من الاستراتيجيين وخبراء الإرهاب، فراحوا ينحتون تعبيرات لا تجد في "الإرهاب" وحده غناء في وصف ما حدث في 11 سبتمبر، أو ما يتوقعون حدوثه!. فظهر تعبير "مواجهة الإرهاب الجديد" الذي استخدمته مجموعة من خبراء الإرهاب الأميركيين الذين يقلقهم خوف انتقال العنف من مجال استخدام الوسائل التقليدية إلى مجال الأسلحة غير التقليدية، كالنووية والكيماوية والبيولوجية. وينطوي هذا التعريف الجديد على قدرة من تراهم واشنطن إرهابيين على استخدام التكنولوجيا الحديثة في الاتصالات، خاصة عن طريق الكمبيوتر والإنترنت، وإمكانية تجميع كل عناصر العنف والآثار السياسية والنفسية التي تحدثها في إطار استراتيجية عقلانية يعمل على تركيبها "الإرهابيون" بما يعني مضاعفة الأثر وإحداث تغيير في الاتجاه المطلوب بحسب الأجندة التي يتبناها هؤلاء.
كما ظهر تعبير "فرط الإرهاب" الذي استخدمته مؤسسة البحث الاستراتيجي برئاسة فرانسوا هايزبور والذين رأوا في أحداث سبتمبر قطيعة مع "الإرهاب التقليدي" والانتقال إلى مرحلة "فرط الإرهاب". "فبتلاقي التدمير الشامل الذي أصبح ممكنًا بالنفاذ إلى التكنولوجيا المعاصرة والطبيعة الرهيبة لمنظمي الانفجارات، يتكون فرط الإرهاب الذي ظهر في 11 سبتمبر". ويرى هؤلاء أن عزم الإرهابيين على ضرب أهداف عديدة وفي نفس الوقت وبقوة أدى إلى تمزيق الحدود المفهومية بين مصطلحي الحرب والإرهاب، وعليه فإن "مفردة (فرط الإرهاب) يمكن أن تسمح بتجاوز هذه الصعوبة المفهومية لفهم هذا الوضع الاستراتيجي الجديد". فهل تجاوزنا كل إشكالات مفهوم "الإرهاب" نفسه، ووضع تعريف له ومعايير أخلاقية واضحة، لنناقش مثل هذه التسميات الجديدة؟!
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.