ليس هناك شعار استطاع تأجيج المشاعر الدينية للمواطن العربي المقهور من المحيط إلى الخليج مثل شعار"الإسلام هو الحل" الذي أثيرت من حوله الكثير من الزوابع في فترة من الفترات، حتى أصبح عملة مسكوكة صالحة للرواج في جميع الأسواق، ومع تكراره والإصرار عليه ووضعه في إطار من القداسة [بحيث](1) لم يعد أحد يجرؤ على التشكيك فيه وتمحيصه من دون أن يوضع مباشرة في الصف الآخر التي تكال له الشتائم.
لقد كاد الناس ينسون هذا الشعار في السنوات الأخيرة بفعل التطورات الفكرية والانفتاح الثقافي وانتشار المعرفة في العالم العربي وتقلص نسبة الأميين الذين كانوا بالأمس يصفقون لأول من طلع على المنبر، غير أن الانتخابات المصرية الأخيرة عادت لتحييه مجددا بعدما طواه النسيان وصار جزءا من الأدبيات القديمة للإخوان المسلمين، ثم ذكرت به الانتخابات الفلسطينية التي فازت فيها حركة المقاومة الإسلامية ـ حماس. وإذا كان لإخواننا في فلسطين مبرراتهم في رفع هذا الشعار بسبب حالة المواجهة الخاصة مع الصهاينة ووجود تأصيل قرآني للصراع، فإن الإسلاميين في مصر أو في أي مكان آخر لا يملكون مبررا لرفعه في قبالة فرقاء سياسيين آخرين لهم حظهم من القرب أو البعد من الأصول الإسلامية ضمن مساحات اجتهادية تضيق أو تتسع [...]من تم فإن إعلان شعار"الإسلام هو الحل" يعد تكفيرا مقلوبا أو مهذبا، أي إخراج الآخر من الملة من دون اتهامه بالزندقة علنا.
أُثيرَ شعار"الإسلام هو الحل" في فترة زمنية خاصة في مصر وبعض بلدان المشرق العربي، تميزت بالمواجهة بين القطبين الرأسمالي والاشتراكي، فكان تعبيرا عن التميز وسط تلك التقلبات اتضح جيدا مع الشعار القائل"لا شرقية ولا غربية"، أو لنقل إنه كان بمثابة حركة عدم انحياز فكرية وإيديولوجية انطلاقا من الدين، أملتها العاطفة الدينية للمسلمين أكثر مما فرضتها العقلانية الفكرية؛ إذ لم يواكبها اجتهاد معاصر يجدد العلاقة مع الإسلام بعد ردح من [...] والتحجر الفكري وانسداد باب الاجتهاد، كما أن الذين رفعوا ذلك الشعار كانوا ممن أعلنوا القطيعة مع فكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، الثلاثة الذين كان من الممكن أن يشكلوا بداية حركة تجديد واسعة في الفكر الإسلامي الذي تحول إلى مجموعة من النقول والحواشي والاستعادة السلبية [للتراث]، وبكلمة أخرى: لقد كان ذلك الشعار مجرد يافطة لإثبات الحضور في معمعان العراك الحضاري للمسلمين ...
إن شعار"الإسلام هو الحل" عندما طرح مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر كان شعاراً سياسياً أرادت منه الجماعة تمييز نفسها من جهة، وتأكيد نوع من العلاقة مع زمن السلف الصالح من جهة ثانية، ولم يعكس أي حالة من التطور الفكري والإنتاج الثقافي والسياسي والتجديد الفقهي يجدد طريقة فهم الدين وكيفية تنزيله في الأمة، فهو كان موجها إلى السلطة بوجه الخصوص وليس إلى الأمة، الغرض منه القول بأنه تم تجريب جميع الإيديولوجيات ولم يبق سوى الإسلام الذي يتضمن جميع الحلول لجميع الأقضية، وهكذا أصبح ذلك الشعار خاصية مميزة للإسلاميين في كل مكان، على اعتبار أن الحركات الإسلامية في العالم العربي خرجت كلها من معطف الإخوان في مصر، إلى هذا الحد أو ذاك، ولم يعد من الممكن عدم رفع ذلك الشعار الذي صار عملة مسكوكة صالحة للتداول لدى الجميع.
والحقيقة أن شعار"الإسلام هو الحل" كان بمثابة حالة ارتداد كبرى في تاريخ الإسلام المعاصر [نحو إرث الماضي] أكثر مما كان انعكاساَ لحالة امتداد [تقدمي] نحو التعاطي المتجدد مع قضايا الأمة، [...] وإجابة خاطئة على أسئلة صحيحة طرحت في ما يصطلح عليه بعصر النهضة العربية؛ فقد تمَّ تقليص جميع مشكلات الأمة إلى المشكلة السياسية، وسرعان ما تقلصت المشكلة السياسية إلى مشكلة الحكم والسلطة، وأصبح الإسلاميون ينظرون إلى هذه الأخيرة كأنها مفتاح كل خير ومغلاق كل شر، حتى إن راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية لم يتردد في تأويل الحديث النبوي الشهير: "ألا إن في كل جسد مضغة إذا صلحت صلح سائر أعضائه، وإذا فسدت فسد سائر أعضائه" والتي عرفها بأنها القلب، على أنها هي السلطة في حالة المجتمع، والتي عليها يتوقف صلاح المجتمع أو فساده! أما النتيجة التي كان من المنطقي أن تقود إليها هذه الاختزالية فهي استبعاد المجتمع من صيرورة التغيير، عدا [عن] اعتباره مجرد مطية يتم الركوب عليها للوصول إلى مقعد الحكم، ومن هنا كان من الطبيعي أن ينشأ ذلك التشوش والتناقض في فكر الإسلاميين من الديمقراطية، أي باختصار: وضع الشعب في الحساب في معادلة الوصول إلى السلطة [وحسب].
لقد أدى ترويج شعار"الإسلام هو الحل" وتكريسه في الذهنية الإسلامية إلى مجموعة من الانزلاقات الفكرية التي قادت في النهاية إلى تسييج الإسلام كدين واسع وعميق ومتعدد الأبعاد في إطار ضيق، من هذه الانزلاقات الشعار الآخر الذي يقول إن"الإسلام دين ودولة"، والذي لم يكن في أصله سوى تنويعا على الشعار الأول، كونه يتلاقى معه في العمق، وهو التأكيد على مركزية الدولة في فكر الإسلاميين. وقد حصل هذا الانزلاق الخطير في فهم الإسلام بعد التحريف الذي خضع له شعار"الإسلام دين ودنيا" الذي يعبر عن حقيقة الإسلام وشموليته، ولكنه لا يحدها في الحكم أو السلطة، وإنما يوسعها لتشمل سائر مناحي الحياة، ولكن [كثير من] الإسلاميين اختزلوا الدنيا كلها في الحكم، بعد أن اختزلوا الإسلام كله في أنفسهم هم، فأصبحنا أمام استعادة تاريخية لعصر بني أمية.
إن اختزال الإسلام في شعارات مسكوكة تسبب في الكثير من المآسي في الأمة منذ قرونها الأولى، إذ لا يجب أن ننسى أن بداية الخوارج وتأسيس الفكر الخارجي كانت من شعار مختزل يقول"لا حكم إلا لله" الذي قال عنه [الصحابي الجليل] علي بن أبي طالب: إنه"حق أريد به باطل"، وتحت هذا الشعار تم الكثير من المذابح والصراعات.
وعندما قال [بعض] الإسلاميين في بداية القرن الماضي إن"الإسلام مصحف وسيف" فقد كانوا بذلك يؤسسون لنهج دموي دون شعور منهم، فقد جعلوا من الإسلام دين إرهاب وسفك دماء، ودين موت لا دين حياة، ولذلك لم يكن مستغربا أن تأتي طائفة من السلفيين في القرن الواحد والعشرين لتقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان"قتالا وذباحا"! تحريفا للحديث النبوي الذي له مكانه وزمانه ومعناه السياقي، ليكون ذلك جريمة بحق الإسلام وخاتم المرسلين من طرف [بعض] المسلمين، وانعكاساً للجهل التام بمقاصد الرسالة النبوية وخصوصية الرحمة التي بعث بها الرسول الكريم للعالمين.
إنه ليس هناك ما هو أخطر من اختزال الإسلام في قضايا جزئية وتحويله إلى شعارات وكليشيهات تضيق منه وتخنقه.
-------------------------
(1) كل ما ورد بين قوسين مضلَّعين من إضافة المحرر.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.