اعتاد محمد عابد الجابري على أخذ موقف نقدي من كثيرٍ من المقولات الفكرية والسياسية الرائجة في العالم العربي، وذلك استناداً الى قاعدة معرفية تراثية صلبة، يتكئ عليها الجابري باستمرار لتسديد سهامه على تلك المفردات والعبارات التي يرى ان العالم العربي بات يوظفها كأقنومات مقدسة لا يأتيها الباطل.
فالدعوة الى الاصلاح في العالم العربي هي مجرد رد فعل على تلك الدعوات الأميركية والأوروبية، على رغم أنه لا يقلل من أهمية رد الفعل، بما هو رد فعل، وانما يعتبر ان أهميته التاريخية تنحصر في ما قد يخرج من جوفه من عناصر ومواقف ينتظر منها أن تحقق التجاوز، وباللغة الجدلية «نفي النفي».
بيد ان الاصلاح بالنسبة الى الجابري – الذي تعجز أقلام وألسنة كثيرين عن التعبير عن حقيقته بحسب تعبيره. ليس سوى مجرد ارادة أو رغبة أميركية ترغب في اقامته في الشرق الأوسط، وهذا الاصلاح قد بدأ بالإفساد، وليس فقط افساد ما كان موجوداً من صلاح قائم أو منتظر، بل أيضاً بإرباك وطمس الطريق الى الاصلاح الحقيقي، ومن ثم تعتيم الرؤية التي تنشد الاصلاح، ولذلك يرى أن مهمة الكتاب والمفكرين العرب اليوم تتجلى في ما يدعوه «نقد الحاجة الى الاصلاح» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005) التي تعني، أولاً وقبل كل شيء، النظر الى الاصلاح لا من حيث هو دعوة آتية من خارج، ولا من حيث هو شعار بادرت الى رفعه قوى داخلية، بل من حيث هو حاجة، فإذا حددنا أولاً الحاجة أو الحاجات التي تبرر جعل الاصلاح مطلباً في العالم العربي والاسلامي، أمكن حينئذ تحديد الأهداف منه، ثم تعيين الوسائل القمينة بتحقيق هذه الأهداف.
ان ربط الاصلاح بالشعار الأميركي يعد خطيئة بالنسبة الى الجابري من دون أن يتوقف ربما، وللحظة، للنظر في اعتباره مكسباً دولياً للحركات الاصلاحية داخل العالم العربي، ذلك ان الادارة الأميركية لم تكن تنظر الى الشرق الأوسط إلا بصفته منطقة تصدّر النفط وعليها ضمان أمن اسرائيل ولذلك رعت الأنظمة العربية بهدف حماية الاستقـرار عقوداً طويلة، فان تغيّر الادارة الأميركية استراتيجيتها لتنظر الى أبعد من مصالحها القريبة فذلك ما كان يطمح اليه الاصلاحيون العرب طويلاً، صحيح ان الصحوة الأميـركيـة أتــت متأخرة، ومتأخرة كثيراً ربما، لكنها ستعطي زخماً حقيقياً لمسيرة الاصلاح العربي عبر تحقيق دعم دولي جدي ومستمر لهذه المسيرة.
لكن، دعونا ننتقل مع الجابري الى تحليله لموقف الغرب من المشاريع الاصلاحية في المنطقة العربية، مع تحفظنا على كلمة «الغرب» هنا، التي يستخدمها بإطلاقها هنا، فالغرب لم يكن موحداً في موقفه تاريخياً في المنطقة، فهناك غربان، وربما أكثر، مهما يكن، فإن الجابري يعتبر أن هذا الغرب لم يساعد – طوال الخمسين سنة الماضية – النخبة العصرية، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، على غرس مشروع ليبرالي ديموقراطي حقيقي في الأقطار العربية المؤهلة لذلك، بل ان سياسته قد اتجهت، بالعكس من هذا، الى البحث عن مواقع داخل التيارات السياسية الاسلامية، حتى يضمن لنفسه الحفاظ على مصالحه عندما تستولي تلك التيارات غداً على السلطة (ويضرب على ذلك مثلاً قائماً على موقف الولايات المتحدة الأميركية من جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر، واستقبال بريطانيا لزعماء الحركات الاسلامية والسماح لها بالحركة والنشاط فيها).
ولذلك فهو ينتهي الى القول ان تجربة القرن الماضي تقدم اجابة واضحة لا لبس فيها، هي أن الغرب الامبريالي هو الذي عرقل نمو المجتمع المدني في الأقطار العربية التي كانت مرشحة لأن تقوم فيها شروط وجود هذا المجتمع. وهكذا وفي موقف مناقض لموقف سابق فإن الجابري لا يطلب من هذا «الغرب» الحياد مثلاً على أقل تقدير، بل إنه يطلب دعمه للتيارات الديموقراطية، الذي بدلاً من ذلك راح يدعم التيارات الأصولية، فمشكلة الجابري ليست في الدعم بحد ذاته وانما الى من يتوجه هذا الدعم، وهو موقف يحتاج الى كثيرٍ من التروي والدقة، فهل صحيح أن «الغرب» دعم التيارات الأصولية في العالم العربي. فلو كان يدعمها في شكل جاد وحقيقي لما كان منع عليها الوصول الى السلطة أو سمح للأنظمة العربية بممارسة أشد أنواع القمع والعسف عليها.
ثم يعود الجابري في نهاية كتابه الى اتخاذ موقف مناقض لموقفيه السابقين، عندما يقول: «ان عملية الإصلاح في العالم العربي والاسلامي لن يكون لها أي مدلول واقعي تاريخي ما لم يكن هدفها الحد من تأثير الطموحات الامبريالية، أميركية كانت أم غير أميركية، فهو اذاً ينتقد الغرب مرة أخرى لأنه وجّه دعمه لهذه الحركات، برأي أن موضوعة «الغرب» ما زالت ملتبسة في ذهن الجابري كما في ذهن الكثير من المثقفين العرب، اذ لا يحضر الغرب إلا بصفته طرفاً معادياً علينا أن نحذر من شروره وسيئاته، من دون محاولة التفكيك النظري والمعرفي لهذا الغرب بغية تطوير آليات نظر تدعم مصالحنا في المنطقة العربية والاسلامية.
واذا كان الجابـري في كتـابـه الجـديد هذا لا يقدم الكثـيـر من الجديـد، ويـكرر الكثير من تحليلاته وأفـكاره السابـقة كما في مثل رفضه لمفهوم العلمانية لصلاح مفهوم الديموقراطية العقلانية، وتحليله لمفهوم حقوق الانسان بناء على مكوناته وأصوله الطبيعية فإننا لا نستطيع في الحقيقة إلا أن نحيي جهده في عملية «التأصيل» أو «التبيئة» كما يسميها لكثير من المفاهيم الملتبسة في الفكر العربي المعاصر.
بيد أن ما افتقدناه لدى جديد الجابري هو الاشتغال الفكري والسياسي العميق على مفهوم الاصلاح كمفهوم قائم بحد ذاته، صحيح أنه حاول أن يرده الى أصوله اللغوية والمعجمية – كما هي عادته – لكن تبلور المصطلح في العلوم السياسية الحديثة وارتباطه بمفهوم «الحكم الصالح» (Good Governance) الذي يعني جملة من المفاهيم قائمة على المساءلة والمحاسبة وحكم القانون والشفافية والتعددية يجعلنا نطلب من الجابري جهداً أكبر في قراءة تحولات المفهوم في ضوء المعارف الحديثة أكثر من العودة به باستمرار الى أصوله اليونانية القديمة.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.