يكثّف مفهوم "نقد العقل الإسلامي" مشروع محمد أركون المتواصل والجريء، كما أنه يكشف عن الطموح الثاوي في طيات وثنايا النص الأركوني، ذلك أن أركون يُدرك تماماً أن سؤال النقد الكانطي كما يُصرُّ عليه لن يتحقق دون دمجه في صيرورةٍ تاريخية واجتماعية وسياسية متكاملة تستهدف من ورائها حدوث نهضةٍ فكرية وحضارية شبيهةٍ بالتي عاشتها الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري، سيّما مع المؤلفات والأفكار المتقدمة التي قدمها كلٌّ من مسكويه الذي يصرُّ أركون على أبوّته له (1) والتوحيدي والشاطبي وابن حزم وابن رشد فيما بعد.
ابتدء مشروع أركون في "نقد العقل الإسلامي" مع كتابه الذي حمل العنوان نفسه عام 1984 وصدر بالفرنسية، ثم تُرجم فيما بعد إلى العربية تحت عنوان (تاريخية الفكر العربي الإسلامي)(2) معلّلاً المؤلف والمترجم كليهما عدم تصديرهما للكتاب بالعنوان نفسه الصادر بالفرنسية، لأن اللغة الفرنسية ـ على حد تعبير أركون ـ مؤيدةٌ للنقد الفلسفي والتاريخي والعلمي عامة، ولها أرضيةٌ خصبة من الجهاز المفهومي الداعي إلى المزيد من التعمق والدقة في النقد، أما اللغة العربية فلا تتحمل اقتران النقد بالعقل الإسلامي(3)، فالفضاء الاجتماعي والثقافي العربي إذاً غيرُ ملائمٍ أو مناسبٍ لتوجيه النقد بشكلٍ صريح إلى العقل الإسلامي، لأن ذلك يثير حساسيات من المفضل تغاضيها في الوقت الحالي (أي وقت صدور الكتاب بالعربية عام 1986) وهذا ما يُشكل مدخل الرؤية إلى مشروع "نقد العقل الإسلامي" أي سؤال المشروعية التاريخية ضمن المتن الاجتماعي العربي والإسلامي، وهو ما يبدو أن أركون يلحظه بإدراكٍ مستمر عن طريق ربطه لسؤاله النقدي بالأحداث السياسية المتغيرة التي تُعزز برأيه ممناعة العقل الإسلامي عن النقد وتُؤجل طرح مثل ذلك السؤال بحجة استكمال التحرير من الاستعمار أولاً وبتحقيق التنمية وإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي ثانياً.
لكن مقاربة أركون لمشروعه النقدي ارتبط بمساراتٍ وتعرجات فكرية فرضتها الثورات المعرفية والنقدية المستمرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية في السياق الغربي، هذه العلوم التي تشكل بالنسبة إليه الأدوات الإجرائية الضرورية واللازمة لإنجاز مثل هذا النقد للعقل الإسلامي.
لم يتوقف أركون بدايةً عند مفهومه النظري هذا ليبلوره أو يحدد قسماته ومعالمه في كتابه الذي حمل اسم مشروعه والذي أشرنا إليه، بقدر ما أراد أن يتوضح عن طريق تطبيقاته المنهجية التي أجراها على النص القرآني وعلى الفكر الإسلامي في القرن الرابع الهجري، وهي رسالته لنيل شهادة الدكتوراه إذ تتبع فيها مفهوماً ابتكره ويتمحور حول البحث عن الإنسية في الفكر الإسلامي الكلاسيكي لاسيما عند التوحيدي وابن مسكويه(4)، أو قراءاته للنص القرآني لاسيما سورتي الفاتحة(5) والتوبة(6).
لقد رغب في العودة للبحث عن جذورٍ لمفهوم العقل في التراث الإسلامي، الذي رأى أن كل اسمٍ قرآني يُقدّم للشيء المسمّى حقيقته الأزلية طبقاً لعلم الله ووجوده الموضوعي (كونه) ضمن نظام الخلق، وحكمه الشرعي ضمن الوجود التاريخي للبشر، هكذا تأسس كلُّ الفكر الإسلامي وتطور على قاعدة الإيمان المتمثل بالأصل الإلهي للعقل والدعم الإلهي له، هذا الإيمان المتجسد في نص لغوي محدد تماماً هو القرآن، ثم جاء الشافعي وأضاف إليه السنة، فضمن هذا المعنى وهذا المنظور يمكننا أن نتحدث عن عقل إسلامي(7)، غير أن أركون لا يرى في مفهوم العقل في التراث الإسلامي أصله الإلهي كما تحدد وأُنجز وانتهى تطوره التاريخي والمعرفي، بل يعتبر أن هذا المفهوم خضع للتطور التاريخي، وهو ما يُشير إليه أركون عندما يتحدث عن أنواع للإسلام وإسلامات بصيغة الجمع، يحمل كل منها مفهومه الخاص عن العقل، ولذلك وجدناه يميز بين العقل الأرثوذكسي أو السكولاسيتيكي وبين العقل الإسلامي الكلاسيكي وبين العقل الإسلامي بالمعنى المثالي الكبير للكلمة.
إن التمايز بين هذه العقول إذا صح التعبير ليس على قاعدة الافتراق المطلق عن العقل الإسلامي، وإنما هو تمايزٌ تاريخي بحيث تعود جميعها في مرجعيتها إلى العقل الإسلامي بوصفه الإطار التاريخي الذي يحوي هذه التمايزات المتعددة وهو ما استوضحه أركون فيما بعد وبشكل متأخرٍ نسبياً، عندما رأى أن مشروعه يهدف إلى إعادة تقييم نقدي شامل لكل الموروث الإسلامي منذ ظهور القرآن وحتى اليوم، وهو يميز فيه بين أربع مراحل رئيسية:
1ـ مرحلة القرآن والتشكيل الأولي للفكر الإسلامي.
2ـ مرحلة العصر الكلاسيكي، الذي يدعوه بعصر العقلانية والازدهار العلمي والحضاري.
3ـ مرحلة العصر السكولاستيكي التكراري والاجتراري، أو ما يدعى بعصر الانحطاط.
4ـ مرحلة النهضة في القرن التاسع عشر وحتى الخمسينات من هذا القرن.
ثم يُضيف مرحلةً خامسة يدعوها بـ"الثورة القومية" (فترة الرئيس المصري عبد الناصر 1952 ـ 1970) فـ"الثورة الإسلامية" (في إيران منذ 1979 وحتى اليوم)(8).
إن تقسيمه هذا السابق الذكر يعزز قراءتنا لمشروعه ضمن سياقه التاريخي وهو الأطروحة التي يدافع عنها البحث، ويصرُّ على اعتبارها المدخل الأكثر دقة في قراءة مشروع أركون عن "نقد العقل الإسلامي".
إنه يُحدد مفهوم العقل الإسلامي الكلاسيكي بوصفه قد تحدد على مرجعية النص القرآني أي الأصل الإلهي للعقل، لكن نشأة علم أصول الفقه وتبلوره على يد الشافعي بشكلٍ متماسك يجعلنا نستخلص مفهوماً جديداً وفعالاً للعقل الإسلامي من الناحية التاريخية والتأملية، إذ تضمنت رسالة الشافعي ـ التي تُعتبر المدونة التأسيسية والتدشينية لعلم أصول الفقه ـ القرآن بصفته مصدراً صريحاً للمعايير المرتكزة على السيادة العليا الإلهية، والسنة أي السيادة العليا للنبي والإجراءات أو العمليات البشرية من أجل بلورة السيادة العليا واحترامها كالإجماع والاجتهاد وأنماطه الأساسية كالقياس والاستحسان والاختلاف، وهكذا لم يكتف العقل الإسلامي الكلاسيكي بعلم أصول الفقه من أجل تأكيد فعاليته وفرض ديمومته في مواجهة العقول المنافسة أو المعادية التي ظهرت في نفس الوقت الذي راح يخوض فيه معاركه الأساسية، ولكنه استند أيضاً إلى الخطاب التاريخي والخطاب التيولوجي عن طريق الإكراهات والضرورات الخاصة بحالةٍ معينة ومستوى معين من اللغة، وعن طريق ضغط انتخاب عناصر المعرفة التي يُظهرها أو يبديها في كلامه الفكري التأملي كلُّ ناطق أو مؤلف يمثل عضواً منخرطاً في تاريخٍ محدد، وأخيراً عن طريق الانتفاضات والحدوس والاحتجاجات وابتكارات الذات المنخرطة في تجربة وجودية فريدة من نوعها كخطاب السيرة النبوية(9).
وهكذا فأركون يعيد تأسيس العقل الإسلامي الكلاسيكي إلى نوعين من الخطاب، هما الخطاب التاريخي والخطاب التيولوجي، ويعتمد أركون في ذلك على اللسانيات الاجتماعية وعلى علم الخطاب من أجل تحليل المكونات الخطابية التي تحوي بداخلها لغة السيطرة والحيازة، فالخطاب التاريخي استند على مفهوم البنية المعرفية المرسَّخة وذلك عن طريق ممارسة معيارية للغة والقانون والتأريخ والتيولوجيا من نحوٍ ولغة وفقه وأخبار وآثار وحديث وتأريخ وكلام، فكلُّ هذه العلوم تمثل علوماً دينية تقليدية يُؤكّد فيها العقل الأرثوذكسي ذاته على هيئة العقل المؤسَّس (الراسخ) والمؤسِّس، ولم تُفلح محاولات مسكويه وابن خلدون إدخال العقلانية الوضعية أو الواقعية على كتابة التاريخ الإسلامي، أما الخطاب التيويولجي فيستخدم أولاً لحاجات المشروعية والسيادة (كالدليل القاطع مثلاً) أو أنها تستشهد بالآيات والأحاديث لإفحام الخصم، كما وتستخدم بشكل ثانوي الأساليب والعمليات المنطقية ـ المعنوية الديالكتيكية والبلاغية، وأولُّ هذه التلاعبات المرور من حالة الكلام الشفهي إلى حالة النص المكتوب، حين ابتدأنا بالكاد اليوم نأخذ بعين الاعتبار النتائج والانعكاسات التكوينية والبنيوية والابستمولوجية لهذا المرور أو الانتقال، وذلك في ميدان علمي الانثربولوجيا واللسانيات(10) وهذه قد حصلت في وقتٍ مبكر جداً بالنسبة للقرآن(11).
أما التلاعب الثاني كما يراه أركون فيتمثل في التسليم بوجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية ما بين الزمكان الأولي والأصلي الذي لُفظت فيه الآيات والأحاديث لأول مرة وبين الزمكانات المتغيرة التي يستشهد بها بعد أن أصبحت نصوصاً(12)، وعن طريق هذه الاستراتيجية المعرفية والخطابية تكرس وتأبد العقل الإسلامي الكلاسيكي، وسيُعيد فيما بعد العقل الإسلامي السكولاستيكي آليات العقل الإسلامي الكلاسيكي نفسها لكن دون إبداعٍ في توظيفها مما يجعله في النهاية يسقط في فخ الاجترار المتتالي دون قدرةٍ على تجاوز الأُطر المحددة مسبقاً وستَرث الدول العربية والإسلامية فيما بعد في عصور استقلالها هذا العقل محاولةً الخروج عن قواعده عن طريق الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد خاصةً مع مجددي عصر النهضة، لاسيما الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، لكن أركون يُميّز مشروعه عن مشروع عبده الاجتهادي، إذ يعتبر أن ماهية الاجتهاد التي جاءت بها مدرسة محمد عبده، هي عبارة عن منهجية ذرائعية منفتحة على دمج وتمثل المفاهيم والأفكار والممارسات المعتبرة بمثابة البِدع الخطرة ضمن إطار التراث الإسلامي السكولاستيكي تمييزاً له عن التراث الأكثر حيوية، أي التراث الفاتح والمنفتح والمقصود به التراث في فترة القرنين الأول والرابع الهجريين(13).
إن أركون لا يرفض مفهوم الاجتهاد جملةً وتفصيلاً، بل إنه يرى أن تجديد الاجتهاد سيؤدي إلى زعزعة الحقائق الأكثر شعبية وألفة، وإلى تصحيح العادات الأكثر رسوخاً، وإلى مراجعة العقائد الأكثر قدماً، لكنه يعتبر أن المفهوم التقليدي للاجتهاد أصبح غير كافٍ وينبغي تجاوزه عن طريق النقد الحديث للعقل، وهي المهمة التي يُطلق عليها أركون وصف "المهمة الصعبة" المتمثلة بزحزحة شروط الاجتهاد النظرية وحدوده من المجال اللاهوتي ـ القانوني الذي حُصِرَ فيه من قبل الفقهاء إلى مجال التساؤلات الجذرية وغير المعروفة حتى الآن من قبل التراث الإسلامي، أي مجال التساؤلات الخاصة بنقد العقل الإسلامي(14)، وهكذا فأركون يعتبر أن مشروعه في نقد العقل الإسلامي بتأسس على الاجتهاد على قاعدة استيعابه لكن دون الوقوف عند حدوده بل لابد من تجاوزه، فالاجتهاد لم يكن في الماضي أبداً، ولا يمكنه أيضاً أن يكون اليوم مجرد تمرينات ذهنية على مسائل لاهوتية ومنهجية تجريدية بعيدة عن حاجات الدولة وإكراهات المجتمع، بل ينبغي علينا أن نلتقط في كل ظرف، ولدى كل ممارس للاجتهاد كل الانحرافات الأيديولوجية المرافقة لهذه العملية الذهنية التي يبرزونها على أساس أنها تمثل احتكاكاً مباشراً للروح البشرية مع كلام الله من أجل الفهم الصحيح والمطابق للمقاصد النهائية والمعاني المؤسسة التي ينبغي أن تُضيء القانون الديني وتضمن شرعية ممارسات البشر وأفكارهم طيلة كل وجودهم الأرضي(15)، ولكن كيف نجتاز هذا المسار الطويل والصعب كما يصفه الذي يمتد بين الاجتهاد ومشارف نقد العقل الإسلامي، إن أركون يُدرك تماماً صعوبة "النقلة" لذلك يُصرُّ على اعتبار أن نقد العقل الإسلامي يجب أن يُصمم ويصوّر على أساس أنه امتداد للاجتهاد الكلاسيكي وإنضاجٌ له، وهكذا ينبغي أن يُفهم من قبل كل المسلمين وبالدرجة الأولى من قبل علماء الدين أنفسهم، لكن بالمقابل يُفترض أن يَبذل العلماء بعضَ الجهد من قبلهم ويفعلوا كما فعل أسلافهم الكلاسيكيون الذين ينتسبون إليهم طوعاً ومحبة، ينبغي عليهم أن يخطو خطواتٍ حاسمة باتجاه الحداثة العقلية والفكرية.
يستند أركون إذاً في تأسيسه لمشروعية نقدهِ للعقل الإسلامي على السؤال التاريخي بشكلٍ رئيس أو ما يُسمى المشروعية التاريخية، فالتقسيم التاريخي للعقل الإسلامي أنتج عقولاً ولم نعد أمام عقلٍ واحد، وهو ما لحظه أركون بنفسه عندما تحدث في أحد حواراته أنه بعد أن عَمِل على بلورة مفهوم العقل الإسلامي عَمِد إلى تفريعه مما جعله يتحدث عن عقولٍ إسلامية بالجمع لا عقلٍ إسلامي واحد، وهو ما يُعطي مشروعه رؤيةً تعددية ومتنوعة كما يرى، لأنه يعتمد أنماطاً متعددة من المرجعيات والسيادات الثقافية(16)، إلا أن أركون لا يكتفي بالتقادم التاريخي مشروعيةً وحيدة لنقد العقل الإسلامي بل يعتبر أن هناك مناخاتٍ ثقافية واجتماعية تفترض بنفس المستوى من الأهمية مشروعاً بثقل نقد العقل الإسلامي، إذ لا يمكن لنقد العقل الإسلامي من الناحيتين النفسية والثقافية أن يتحاشى الإطلاع على كل الخطابات والعقائد والتصورات والآمال التي غذَّت ولا تزال تغذي عدداً كبيراً من المسلمين وممارستهم، فبناءُ مشروعية جديدة في العالم الإسلامي ينبغي أن يوضح لنا لماذا أن الأنماط الموروثة والتقليدية من المشروعية قد أصبحت لاغية، في الوقت الذي يُبرر فيه تأسيس الخيارات الجديدة وضرورتها(17)، وإضافة إلى ذلك وتأسيساً عليه فإن أركون يُضيف هدفاً سياسياً بعيد المدى لمشروعه، ربما يكون في خياراته العاجلة، ثقافياً، لكنه في رهاناته الآجلة سياسيٌ يهدف إلى تفكيك كل هذا البناء الشامخ والمقدَّس الذي يحتمي به اليوم الأصوليون من أجل الحصول على المشروعية أو من أجل المحافظة عليها، وبنفس الوقت فإن أركون يُصرُّ على أن مشروعه ليس تفكيكياً فحسب، بل إنه تركيبيٌ أيضاً، ذلك لأنه يقدم بديلاً ذا مصداقية على عكس ذلك النقد المتعالي والاحتقاري للمستشرقين، إذ إن نقدهم يؤدي إلى تسفيه التركيبات الفكرية الكلاسيكية للمسلمين ويتركون وراءهم حقلاً من الأنقاض، ثم يعودون بعدئذٍ إلى مجتمعاتهم الأوروبية هادئين مطمئنين، ولا يعبأون بعدئذٍ بتقديم أيِّ بديل لأن المشكلة ليست مشكلتهم كما يقولون ذلك صراحة(18)، وهو ما سنتعرض إليه فيما بعد عندما نتحدث عن النقد المزدوج الذي تعرض له أركون من قبل الأصوليين والمستشرقين، فأركون يُقحم مشروعه إذاً ضمن المتن الاجتماعي والصيرورة التاريخية للمجتمعات العربية من أجل تحطيم صيغة الإجماع التاريخية التي أدت إلى انتقاء بعض العناصر وحذف بعضها الآخر تحت ضغط الإكراهات الأيديولوجية والضغوط السياسية والأنظمة المعرفية التي لم تُدرس حتى الآن بشكلٍ دقيق وشامل كإجماع أهل القبلة أو المسلمين، إذ هي مقدسةٌ من قَبْل الزمن، ويتساءل أركون عن الفشل التاريخي الذي مُنِي به مشروع الاجتهاد مع محمد عبده الذي يمكن اعتباره خطوة رئيسية على طريق نقد العقل الإسلامي، فيرى أن الأرثوذكسية بصفتها ظاهرةً اجتماعية ـ ثقافية فرضت نفسها بعنف وقوة متزايدة منذ الخمسينات، ويعود السبب في ذلك إلى عدةِ عوامل منها: الصراع ضد الاستعمار وضغط إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط والاستراتيجيات الجديدة التي يتبعها الغرب للهيمنة على المجتمعات العربية والإسلامية، والتزايد السكاني للمجتمعات الإسلامية، وظهور الأنظمة القسرية والقوموية المغامرة بعد الاستقلال، والسياسية الديماغوجية للتعريب(19)، والقطيعة التاريخية الجذرية مع التراث، فهذه القطيعة لم يُفكَّر بها حتى الآن، بل إنه من المستحيل التفكير فيها بسبب الوهم "الإسلامي" الذي يغطيها والذي تغذّيه الأرثوذكسيات منذ القرن الخامس الهجري، فالسلبية المتضاعفة والناتجة عن كل هذه العوامل التي تفعل فعلها منذ تفجير حركات التحرر الوطني التي زادتها حدةً واتساعاً "سياسات البناء الوطني" بعد الاستقلال، مما يجعل اليوم كل محاولةٍ لتحديث الفكر الإسلامي وتوحيده شيئاً بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلاً(20)، فأركون مدركٌ تماماً للصعوبات التي تعترض طريق مشروعه الابستمولوجية والتاريخية والاجتماعية والثقافية لكنه يصف استمراره بالمحاولة أشبه "بالمحاولة العبثية" على حد تعبيره، غير أنه وبنفس الوقت يرى أن الرهان على مستقبلٍ جديد للأمة العربية والإسلامية مرتبطٌ بمدى إنجازها لنقد الأسس التي قام عليها العقل الإسلامي، مما يطرح تساؤلاً جدلياً هو مدى ارتباط حداثة المجتمعات بنقد الأسس العقلية التي قامت عليها هذه المجتمعات، وهل العقل الإسلامي يمثل خصوصيةً بالنسبة لذلك؟ إذ إن إرثه التاريخي من الثقل بشكلٍ يمنعه من التقدم وتحقيق الحداثة؟
يدخل هنا أركون في مساحةٍ هي أشبه بالتحديد المفاهيمي، إذ يؤكد أن مفهوم العقل الإسلامي لا نعني به عقلاً خصوصياً، مميزاً أو قابلاً للفرز والتمييز لدى المسلمين عن غيرهم، فالعقل بالمعنى العام مَلكةٌ مشتركة لدى كل البشر، وإنما التمييز أو الفرق كامنٌ كله في النعت، أي الإسلامي، وأقصد بذلك ـ والكلام لأركون ـ أنه كامنٌ في المعطى القرآني وفيما كنت قد دعوته بتجربة المدينة، هذه التجربة التي أصبحت فيما بعد وبفضل العمليات المتتابعة للاجتهاد (نموذج المدينة).
فأركون يعود بتحديده لمفهوم العقل الإسلامي معرفياً إلى النص القرآني بعد أن كان قد اختاره أيضاً لحظةً افتتاحية وتأريخية تدشينية لهذا العقل، وهذا ما يجعلنا نتتبع التحولات التي خضع لها مفهوم نقد العقل الإسلامي لدى أركون نفسه، ذلك أن كتابات أركون الأولى كانت تُغفل ذكرَ هذا المفهوم، لكنها كانت تتحدث عن إعادة قراءة القرآن بوصفها ضرورية تاريخياً وانثربولوجياً وابستمولوجياً، وليس القصد فقط "إعادة الاعتبار" بواسطة ألاعيب ماهرة إلى نصٍ يُعتبر حيوياً من قبل الأمة الإسلامية، بل المهم إعادة الاتصال بالحركة الفكرية والروحية لدى كبار المفكرين المسلمين الذين أخضعوا القرآن لامتحان التاريخية(21)، لكن عملية إعادة قراءة القرآن هذه لم تكن واضحة المعالم لدى أركون وإن كانت تحمل في طياتها دعوةً مفتوحة إلى تطبيق الأدوات المعرفية الغربية الحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية على النص القرآني بشكلٍ يخضعه إلى سياقه التاريخي الذي يُصرُّ أركون على قراءته وفقه، وهو لذلك يُطلق عليه وصف "الحادث القرآني" بما هو ظاهرةٌ لغوية وثقافية ودينية تقسّم المجال العربي إلى مسارين، مسار "لفكر المتوحش" بالمعنى الذي حدده كلود ليفي شتراوس في كتابه ومسار الفكر العليم، ويحدد عملية "القراءة" بوصفها عمليةً معرفية شاملة تجمع بين التحليل اللغوي والتساؤل التاريخي والتدبير الفكري لاستخراج الجدلية الكامنة بين الحقول الثلاثة على الشكل التالي: اللغة التاريخ الفكر اللغة(22).
لكن إعادة قراءة القرآن هنا بوصفها استراتيجيةَ قراءة للنص القرآني تتطلب مراجعاتٍ إجمالية للقراءات المختلفة بهذا النص منذ ظهوره، لذلك يشتق أركون مصطلحاً محدداً يسميه (التاريخ الانتقادي للنص القرآني) ويعني به دراسة تاريخ كتابة النص القرآني مع إدراك كل الملابسات السياسية والاجتماعية والثقافية التي واكبت ذلك، ثم دراسة النص القرآني بعد تشكله فيما بعد باعتباره موضوعاً لغوياً، لكن أركون عاد واعتبر أن إعادة قراءة القرآن تمثل خطوةً في مشروعه الأوسع (نقد العقل الإسلامي)، بحيث يمكن اعتبارها شرطاً لازماً وضرورياً وخطوةً تأسيسية، لكنها لا تُغني عن دراسة المناطق الحافة بالنص القرآني والتي تشكلت ونشأت على هامشه وخلال صيرورته كالمفاهيم السياسية والفقهية والعادات الاجتماعية والمعاملات الاقتصادية، لذلك رأى ضرورة أن يتخذ هذا المشروع بُعداً أشمل وأوسع مما حرّضه على إطلاق مفهوم (نقد العقل الإسلامي) عليه كما حددناه وذكرنا معالمه سابقاً، وما يكشف عن رغبته التوسعية ـ إذا جاز هذا التعبير السياسي المغرض بحق أركون ـ أنه أصرَّ على أن مشروع نقد العقل الإسلامي لا يكتفي بالبحث عما يخص الإسلام كدينٍ وفكرٍ وثقافة ومدنية وتاريخ ونموذج من نماذج الإنتاج التاريخي للإنسان والمجتمعات، إذ إنه يعتبر أن هذه النظرة إلى الإسلام قد فرضها المستشرقون الفيلولوجيون بالتواطؤ مع نظرة المسلمين أنفسهم، إذ أجمع كلاهما على أن هناك "إسلاماً" جوهرياً ذاتياً لا يقبل التغيّر ولا يخضع للتاريخية ولا يزال مستمراً، هو كالأقنوم الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها، لذلك يطمح أركون إلى توسيع مشروع نقد العقل الإسلامي لكي يصل إلى العقل اللاهوتي عند أهل الكتاب، فيتحول مفهوم أهل الكتاب إلى المفهوم الانثربولوجي ـ التاريخي، ثم ينتقل خطوةً أخرى باتجاه نقد العقل الديني حتى يحل الإسلام وتحل الأديان المنـزَّلة محلها الحقيقي في التعرف الأنثربولوجي على الأديان العالمية منها والمحلية الموسومة بالوثنية، ويزداد المشروع اتساعاً بنقد عقل الأنوار الذي فرضته أوروبا البرجوازية والرأسمالية كنموذجٍ عالمي بديلٍ للنموذج الديني، فنقد عقل الأنوار مهمةٌ ضرورية وخطرة وشائكة في الوقت نفسه، خاصةً ـ كما يُضيف أركون ـ إذا انطلقنا من العقل الإسلامي كما ورثناه عن الفقهاء والمتكلمين بعد انتصار الأرثوذكسيات، حيث أن العقل الإسلامي لم يساهم في إنتاج عقل الأنوار، بل أصبح اليوم يُناقضه ويرفضه كما كان العقل المسيحي يُناضل ضده ويتبرأ منه، وذلك لأن عقل الأنوار انفصل عن العقل الديني انفصالاً جذرياً بتقديم بديل سياسي تشريعي فلسفي للاهوت السياسي وللمشروعية الدينية(23).
وهكذا فأركون يميز إذاً بين العقل الديني والذي هو أوسع وأعم من العقل الإسلامي، وبين العقل اللاهوتي الذي يُطلق عليه العقل اللاهوتي ـ السياسي، ويحدد التمايز بين العقلين كالتالي، فالعقل الديني نقبض عليه ونبلوره كمصطلحٍ فعّال على مستوى التعاليم الأصلية أو الأولية المنصَّبة كمدوناتٍ للنصوص التأسيسية، كلُّ طائفةٍ من الطوائف الثلاث مرتبطةٌ بهذا المكان الأمثل للذاكرة، هذا المكان المتكرر والمتميز والذي ندعوه بالدين، إنه كلٌّ متكامل من التماسكات الاجتماعية أو الضمنية، ثم يجيء العقل اللاهوتي ـ السياسي فيما بعد لكي يحيّنه أو يجسّده في أنظمةٍ معقلنة من المقولات والمعايير والعقائد واللاعقائد(24).
إن هذا التقسيم هو ما حرّض أركون لينتقل بمفهومه نحو بعدٍ عالمي وكوني، فبعد أن اقتصر في مرحلته الأولى على إعادة قراءة القرآن آخذاً منحىً نصياً لغوياً وتأويلياً(25) وجدناه يبتكر مفهوم نقد العقل الإسلامي ليلحظ من خلاله الإكراهات السياسية والاجتماعية والثقافية المؤثرة على العقل الإسلامي والمتأثرة به، لكنه فيما بعد سيعمد إلى مفهومه ليشمل العقل الديني بعامة، إذ ستلعب حادثة سلمان رشدي وظاهرة الحجاب في المدارس الفرنسية دوراً كبيراً في الحضِّ على توسيع النظر إلى العقل الديني ككل، ثم ليأخذ مشروعه أفقاً مستقبلياً بالتوازي مع مهمته النقدية عندما تحوّل مشروع نقد العقل الإسلامي من خلال نقد عقل الأنوار إلى مشروع العقل المنبثق أو الاستطلاعي.
حيث بدأ أركون في أواخر التسعينات تحديداً، يلحظ مدى هيمنة المفاهيم ما بعد الحداثية على الفكر الغربي وسطوة رموزها كليوتار وبودريار وجيمسون وغيرهم إضافةً إلى الصعود الرمزي لفيلسوف التفكيك دريدا الذي يُعتبر الفيلسوف الأهم الذي مهد التربة الفلسفية لانبثاق الفكر ما بعد الحداثي من خلال مفاهيمه عن الغراماتولوجيا والاختلاف والأثر ونقد التمركز واللوغوس وغيرها(26)، ولذلك بدأ أركون يتحدث عن العقل المنبثق أو الاستطلاعي رافضاً مفهوم العقل ما بعد الحداثي لأنه يسجن الفكر داخل خطٍ كرونولوجيٍ واحدٍ للحداثة هو الخط الأوروبي كما عبّر عن ذلك في أحد حواراته(27)، ويبدو أن أركون نفسه قد شعر بارتحاله وتحولات مفهومه عن نقد العقل الإسلامي، فصرّح أنه ينوي إصدار طبعةٍ ثانية من كتابه بالفرنسية (نقد العقل الإسلامي) الذي صدر عام 1984، وذلك من أجل إعادة صياغة برنامجه من جديد، أي تضمينه مشروعه من أجل بناء العقل الجديد الاستطلاعي، ورغم الميزة والجرأة الفكرية التي تكمن خلف هذا التحول، أي شعور المفكر نفسه بضرورة تجديد فكره وتطويره كي لا يُصبح أسير الثبوتيات والوثوقيات ومحمّلاً بإرث ماضٍ فكري هو أوّل الداعين إلى التحرر منه، رغم ذلك كله فإن دعوته إلى بناء العقل المنبثق والاستطلاعي تمييزاً له عن العقل ما بعد الحداثي، لم تأخذ جانباً تأسيسياً بقدر ما كانت دعوة تأملية تدخل في باب الحلم لا الدرس والبحث كما عوّدنا أركون في مقولاته السابقة، إذ يصوغ في بعض العبارات العقلَ الذي يحُلم بظهوره بأنه عقلٌ تعددي، متعدد الأقطاب، متحرك، مقارِن، انتهاكي، ثوري، تفكيكي، تركيبي، تأمّلي، ذو خيالٍ واسع، شمولي، إنه يهدف إلى مصاحبة أخطار العولمة ووعودها في كل السياقات الثقافية الحيّة حالياً(28)، إننا نلحظ بوضوح طغيان اللغة الشعاراتية والطوباوية في توصيفه للعقل الاستطلاعي المأمول مما يفتح الباب واسعاً إلى التساؤل عن جدوى ومشروعية التوظيف الأركوني للأدوات والمناهج البحثية الغربية، ذلك أن أركون عموماً لا يُقدِّم توطئةً لدى توظيفه لهذه الأدوات والمناهج الأنثربولوجية واللسانية والتاريخانية في قراءة التراث العربي والإسلامي، أي تطبيقها على تراثٍ غير الذي أنتجها وخرجت من رحمه، وإذا كانت القراءات الحديثة في فلسفة العلوم تكشف عدم براءة الأدوات البحثية وعدم اتصافها بالحيادية فإن هذا يُضاعف حجم التساؤل الذي يُطرح على المشروع الأركوني لاسيما عند توظيفه للمقولات ما بعد الحداثية، وهذا ما أخذه عليه بعض نقاده من الغربيين، إذ اعتبر رون هاليبر أن أركون لا يستخدم مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة إلاّ حين تبدو ضروريةً لمشروعه الخاص، حتى ولو لم يشعر بأنه مُلزمٌ بالنتائج النهائية لهذه المفاهيم، فهو لا يشعر أنه ملزمٌ مثلاً بتبني اللاأدرية الناتجة عن نقد مركزية العقل، إلا أنه لا يستطيع التخلص من كل النتائج الملازمة لتلك المعرفة، إذ يعتبر أركون أن مفاهيم الحفريات (الأركيولوجيا) ومركزية العقل (اللوغوس) والقطيعة الابستمولوجية وغيرها مجرد وسائل لا يستخدمها إلا كأدوات ذهنية معزولة إحداها عن الأخرى وفق مقتضيات خطابه الخاص، بغض النظر عن توافقها المتبادل(29)، يُضاف إلى ذلك أن أركون يبدو وكأنه غير مكترثٍ أو عابئ بإيصال هذه المفاهيم أو المقولات إلى نهاياتها الفلسفية في الحقل التراثي العربي أو الإسلامي، خاصةً ما يتعلق منها بتطبيقه على النص القرآني وهذا ما أحدث ردة فعلٍ حادة تجاهه من قبل الحركات الإسلامية والمثقفين الإسلاميين بعامة وصلت إلى حد اتهامه والطعن والتشكيك الدائم فيه.
لكن إذا عُدنا لقراءة التحولات المفاهيمة التي مرَّ بها مفهوم نقد العقل الإسلامي لوجدنا أنها غالباً ما ارتبطت بمفاصل اجتماعية ذات بعد سياسي أو العكس، أو أنها تكون أحياناً ملتصقةً بتغيراتٍ ثقافية على مستوى الكرة الأرضية خاصة مع بروز العولمة وتصاعد الكلام حول القرية الكونية ودور وسائل الاتصال والملتيميديا في التأثير على الإنسان وتغيير محيطه المفاهيمي، فقد لعبت حادثة سلمان رشدي الشهيرة دوراً بارزاً في احتكاك أركون مع العقل الغربي وتصوراته المسبقة عن الإسلام، سيّما وأنه قد اتخذ موقفاً مغايراً للكثير من المواقف الغربية أو الإسلامية الجاهزة، ثم جاءت حادثة ظاهرة الفتيات المحجبات في المدارس الفرنسية لتعزز الجدل الدائر حول الإسلام في فرنسا، ومدى قدرته على التلائم والتكيف مع التقاليد والثقافة الغربية بعامة والفرنسية بخاصة، وهذا ما حرّض أركون على توسيع مجال اهتمامه من العقل الإسلامي إلى العقل الديني، إذ لحظ أن العقل الديني مازال لم يقطع أو ينجز الخطوات التي اعتبر نفسه قد تجاوزها، وأخذت المفاهيم الحدثية تُحدث مفعولاً عكسياً عليه خاصةً مفهوم العلمنة، عندما ضاق إطار هذا المفهوم ولم يتسع للمختلف أو يستوعب الآخر الذي يُفترض به أن يقف على الأرضية نفسها ويُسلّم بالأسس ذاتها التي انطلقت منها المفاهيم العلمانية، وهذا ما صاعد نقد المستشرقين له الذين اعتبروا أنه يسعى إلى إيجاد عقلٍ خصوصي في الإسلام كي يكون مضاداً للعقل الغربي، وأنه على الرغم من ثقافته التنويرية فإنه مازال يقف على الأرضية الأصولية نفسها(30) هذا في الوقت الذي ينتقد فيه أركون دراسات المستشرقين ومقولاتهم خاصةً أنهم استغرقوا في المنهج الفيلولوجي ولم يطوّروا بحوثهم باتجاه توظيف المناهج والأدوات المعرفية الحديثة التي ستقدم نتائج تفسيرية جديدة وأكثر دقة، وهذا كان مصدر توترٍ وخلافٍ دائم بين أركون والمستشرقين الغربيين(31).
كلُّ ذلك دفع أركون إلى إعادة التفكير في مفهوم العلمنة من منظور إنساني، وحرّضه على التقدم خطوةً باتجاه نقد العقل الديني، إذ لحظ أن الممارسة العلمانية في فرنسا انتهت إلى جذريةٍ مطلقة خاصةً فيما يتعلق بنظام التعليم، حيث أصبحت العلمنة تعني ـ نوعاً ـ من اللامبالاة الفكرية تجاه البُعد الديني للإنسان والمجتمعات، فالفرنسيون لا يأخذون بعين الاعتبار الدين بصفته أحد العوامل التي تتحكم بالوجود الفردي والجماعي للبشر، وهكذا بقيت العلمنة أو بالأحرى الموقف العلماني يعيش بشكلٍ موازٍ للموقف الديني، ويستبعدان بعضهما البعض بشكلٍ متبادل لأسباب فكرية وسياسية، ومن هنا تنتج أوضاع صراعية بينهما لا مبرر لها(32) ولذلك يميز أركون بين العلمانية المناضلة كما يسميها والتي ترى أن الموقف الديني لا يتوافق أبداً مع موقف العقل المستقل وبين العلمانية المنفتحة التي تساعد على نشر ما نعتقد أنه الحقيقة في الفضاء الاجتماعي، وهو لذلك يؤكد أن الإسلام بحد ذاته ليس مغلقاً في وجه العلمنة، ولكن كي يتوصل المسلمون إلى أبواب العلمنة فإن عليهم أن يتخلصوا من الإكراهات والقيود النفسية واللغوية والأيديولوجية التي تضغط عليهم وتثقل كاهلهم، ليس فقط بسبب رواسب تاريخهم الخاص بالذات، وإنما أيضاً بسبب العوامل الخارجية والمحيط الدولي، وعليهم لكي يتوصلوا إلى ذلك أن يعيدوا الصلة مع الحقيقة التاريخية للفكر الإسلامي في القرون الهجرية الأربعة الأولى(33) وهو بذلك يرد على المستشرقين الذين ينفون قدرة الإسلام على الانسجام مع العلمنة، مما يعني عدم قدرته على الدخول في الحداثة، وعلى الأصوليين الذين يتطابقون مع المستشرفين في الهدف لكنهم ينطلقون من موقع مغاير، إذ يصرُّون على رفض الإسلام للعلمانية كما يرددون في شعاراتهم باستمرار بأن الإسلام دينٌ ودولة.
وفي الخطوة الأخرى نلحظ أيضاً حافزاً سياسياً وثقافياً هو الذي حرّض أركون للانتقال من العقل الديني إلى الحديث عن العقل الاستطلاعي أو المنبثق، سيّما وأن أركون قد أدرك من خلال دراساته عن النـزعة الإنسانية في الفكر العربي خاصةً في القرن الرابع الهجري، أنّ المسلمين قادرون على الإسهام بشكلٍ فعال ودون أيِّ تحفظ أو رقابةٍ قمعية في التشكيل الجماعي لنـزعة إنسانية كونية، تساهم فيها جميع تراثات الفكر وثقافات العالم، بل ينبغي على جميع هذه الثقافات بما فيها الثقافة الإسلامية أن تنخرط في مواجهات تفاعلية مع بعضها بعضاً من أجل ابتكار أو تدشين القيم الجديدة التي تُشكل علامةً على التقدم نحو ما يدعوه أركون العقل الاستطلاعي المنبثق أو المستقبلي، بل إن حديث أركون عن النـزعة الإنسانية في السياقات الإسلامية كما يُؤكد هو نفسه ليس إلاّ من أجل التوصل إلى مرتبة العقل المنبثق الصاعد أي الاستطلاعي أو المستقبلي الجديد،وهو العقل القادر في آنٍ معاً على الإسهام في النقد البنّاء للحداثة، وعلى تفكيك الخطاب الإسلامي المعاصر من الداخل وهو خطابٌ لا يقل تبجحاً وغروراً وحباً للهيمنة والتسلط عن الخطاب الغربي الذي يزعم أنه يواجهه أو يضاده(34)، فأركون بن عقلين إذا صح التعبير العقل الإسلامي والعقل المهيمن، الأول يسعى إلى فرض الحقيقة من خلال الحركات الأصولية والآخر يفرضها من خلال العولمة، فالعقل المهيمن الآن هو بلاشك العقل الغربي، الذي لا يفرض نماذجه الاقتصادية والمصرفية والمؤسساتية والتشريعية على الجميع وإنما يفرض نفسه بصفته الذروة العليا والإجبارية لتكريس أو تحطيم أي إنتاج علمي أو ثقافي، ويعتقد هذا العقل الغربي أنه يعوّض عن هذه الهيمنة الشاملة عن طريق "ليبراليته" أو احترامه "لحق الاختلاف"(35) ولذلك فإن أركون بدأ يوجه نقده للعقل الغربي المهيمن طامحاً من خلال ممارسته النقد على الجبهتين بانبثاق العقل الاستطلاعي الذي يصفه كالتالي:
بأنه يصرح بمواقفه المعرفية ويطرحها للبحث والمناظرة، ويلح على ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يُفكَّر فيه بعد في المرحلة التي ينحصر فيها بحثه ونقده للمعرفة، ثم يُقرّ بحدود هذه المرحلة من الناحية المعرفية أو محدوديتها، فكلُّ مرحلة تاريخية لها محدوديتها الفكرية لا محالة، كذلك يحرص على الشمولية والإحاطة بجميع ما توفر من مصادر ووثائق ومناقشات دارت بين العلماء حول الموضوعات التي يعالجها، ولا يقنع بالمصادر المتوفرة في لغة واحدة، وإنما يهتم بالإلمام بالإنتاج العلمي في سائر اللغات بقدر الإمكان، كما أن العقل المنبثق حديثاً يعتمد على نظرية التنازع بين التأويلات بدلاً من الدفاع عن طريقةٍ واحدة في التأويل والاستمرار فيها مع رفض الاعتراضات عليها حتى لو كانت وجيهة ومفيدة وهو أيضاً يُحذر من التورط مرةً أخرى في بناء منظومة معرفية أصيلة ومؤصِّلة للحقيقة، لأنها سوف تؤدي لا محالة إلى تشكيل سياجٍ دوغمائي مغلق من نوع السياجات التي يسعى هو بالذات للخروج منها، وبالتالي فهو يرفض خطاب المنظور الوحيد لكي يُبقى المنظورات العديدة مفتوحة، والعقل المنبثق بالإضافة إلى كل ذلك يكتشف في كل محاولةٍ لديه لتأصيل نظرية أو حكم أو تأويل أن الأصول المؤصِّلة تُحيل في الواقع إلى مقدمات ومسلمات تتطلب بدورها التأصيل والتأييد والتحقيق، وهكذا يتواصل البحث إلى ما لا نهاية حتى نكتشف استحالة التأصيل، ثم نكتشف تاريخية كل تأصيل أو ما اتُخذ أصلاً في منظومات معرفية سابقة موروثة ومقلِّدة(36).
إن أركون يرسم صورة أشبه بالمتخيلة عن العقل المنبثق الاستطلاعي الذي يدعو إليه، كما أنه أشبه بالعقل الإجرائي المهتم بالأدوات والمناهج البحثية وليس عقلاً مكوّناً بتعبير لالاند من مرجعياتٍ ثقافية واجتماعية وسياسية متباينة، ولذلك نكاد نعود مع ما انتهى إليه أركون في دعوته المفتوحة إلى العقل الاستطلاعي إلى النقطة الأولى التي ابتدأ منها من حيث غياب المشاريع المقدمة أو المنجزة وبقاء المشروع نفسه في إطار الدعوات المتكررة لتطبيق المناهج والأدوات الغربية الحديثة في دراسة التراث العربي والإسلامي وهو ما اعتبره الكثير من نقاد ركون نقطة الخلل الرئيسية في مشروعه(37) ويبقى هذا النقد مُحقاً خاصةً أن أركون يسعى إلى بناء مشروع متكامل، لكن قرّاءه لا يجدون في هذا المشروع إلا قراءاتٍ نقدية، فهل ستتراكم هذه مستقبلاً من أجل إنضاج المشروع الأركوني الراهن فكرياً وسياسياً، إن الإجابة لا يمتلكها أركون وحده بقدر ما يصنعها نقاده ومترجموه(38) وقارئوه أيضاً.
---------------------------
الهوامش
(1) وصف أركون أبو حيان التوحيدي بأخيه الروحي، انظر: محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 1990)، كما وصفه في مقابلةٍ أخرى بأنه "أبوه"، انظر: حوار مع محمد أركون، مجلة نزوى، عُمان، العدد26، أبريل 2001، ص 166.
(2) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح (بيروت: مركز الانماء القومي، ط1، 1986).
(3) محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال... أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1993) ص 12.
(4) تُرجمت هذه الرسالة إلى العربية فيما بعد تحت عنوان (نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي)، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1997).
(5) م تُترجم قراءة أركون لسورة الفاتحة المتضمنة في كتاب (قراءات في القرآن) الصادر بالفرنسية في الثمانينات إلى العربية رغم ترجمة العديد من فصول هذا الكتاب إلى العربية تحت عنوان (الفكر الإسلامي قراءة علمية)، ترجمة هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، ط1، 1987) وهذا بحد ذاته يحمل دلالةً معرفية ونقدية هامة، لكن ترجمة هذا الفصل المخصص لقراءة سورة الفاتحة صَدَرت فيما بعد ضمن مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، العدد 56، 1990 ومن ترجمة فوزي البدوي.
(6) انظر: محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية [م، س]، ص 87.
(7) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي [م، س]، ص 65.
(8) محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الطليعة، ط1، 1998).
(9) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي [م، س]، ص81
(10) للمزيد حول ذلك، انظر: والتر ج.أونج، الشفاهية والكتابة، ترجمة د.حسن البنا عز الدين، مراجعة د.محمد عصفور (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 182، شباط 1994).
(11) انظر: منى طلبة، قراءة القرآن بين الوعي الشفاهي والكتابي، ضمن كتاب (النـزعة الإنسانية في الفكر العربي)، تحرير عاطف أحمد (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999) ص 43.
(12) محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي [م،س]، ص 85 ـ 86.
(13) محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي ، ط1، 1991) ص 12.
(14) المرجع نفسه، ص 17.
(15) المرجع نفسه، ص 14.
(16) محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 1990) ص 236.
(17) محمد أركون، الإسلام، أوروبا، الغرب رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ترجمة وإسهام هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1995) ص 117، والكتاب هو عبارة عن حوارٍ أجراه مع أركون زعيم الحزب الليبرالي الهولندي فريتز بولكستاين ونُشِر لأول مرة بالهولندية تحت عنوان (الإسلام والديمقراطية).
(18) المرجع نفسه، ص 117.
(19) يظهر هنا أركون بشكل حادٍ في تعامله مع الأيديولوجيا القومية لاسيما في مقولاتها الرئيسية كالوحدة والتعريب ومواجهة الهيمنة الغربية وأولوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
(20) محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي [م، س]، ص 89 ـ 90.
(21) محمد أركون، لوي غارديه، الإسلام الأمس والغد، ترجمة علي المقلد (بيروت: دار التنوير، ط1، 1983) وقد صدر الكتاب في طبعته الفرنسية الأولى عام 1978.
(22) محمد أركون، الفكر العربي، ترجمة د.عادل العوا (بيروت؛ باريس: منشورات عويدات، ط3، 1985) وقد صدر الكتاب بالفرنسية في طبعته الأولى عام 1975.
(23) محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر [م، س]، ص 13.
(24) محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر [م، س]، ص 13.
(25) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1999) ص 314.
(26) وضّح ذلك أركون نفسه في أحد كتبه عندما اعتبر أن مشروع نقد العقل الإسلامي هو من أجل إعادة تحديد الشروط النظرية لكلِّ قراءةٍ للقرآن بالمعنى اللغوي الحالي، انظر: محمد أركون، نافذة على الإسلام، ترجمة صياح الجهيم (بيروت: دار عطية، ط2، 1997) ص 69.
(27) للمزيد حول مفهوم التفكيك عند دريدا، انظر: سارة كوفمان وروجي لابورت، مدخل إلى فلسفة جالا دريدا، تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الأثر، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 1994).
(28) العقل الاستطلاعي المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربيةـ الإسلامية، حوار مع محمد أركون، أجراه حسان العرفاوي، مجلة العالم العربي في البحث العلمي، العدد 10ـ11، 1999.
(29) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل [م، س]، ص 328.
(30) رون هاليبر، العقل الإسلامي أمام تراث عصر الأنوار في الغرب (الجهود الفلسفية عند محمد أركون)، ترجمة جمال شحيد (دمشق: دار الأهالي، ط1، 2001) ص 203.
(31) يمكن مراجعة هذه النقطة في الكثير من كتب أركون، انظر بشكلٍ خاص: الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، محمد أركون وآخرون، إعداد وترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1994) ص 251.
(32) محمد أركون، العلمنة والدين، الإسلام ـ المسيحية ـ الغرب، ترجمة هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، ط1، 1990) ص 69، وهي المرة الأولى التي يتحدث فيها أركون عن العلمنة والدين بعد أن تحدث مراراً عن موقف الإسلام من العلمانية، والكتاب عبارة عن محاضرة أُلقيت في فرنسا عام 1985، وقد درس أركون بشكلٍ مفصل علاقة الإسلام مع العلمانية من خلال ترسيمة دين، دولة، دنيا في كتابه: الإسلام الأخلاق والسياسة، ترجمة هاشم صالح (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990)، ص 45.
(33) المرجع نفسه، ص 59.
(34) محمد أركون، معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة وتعليق هاشم صالح (بيروت: دار الساقي، 2001) ص 29.
(35) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل [م، س]، ص 247.
(36) المرجع نفسه، ص 14.
(37) علي حرب، نقد النص (بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 1995) ص 69، وأيضاً: جميل قاسم، استحالات أركون في كتاب قضايا في نقد العقل الديني، الفكر العربي المعاصر، العدد 106ـ 107، 1998، ص 139.
(38) لابد أن نذكر أن هاشم صالح لعب دوراً مركزياً في التعريف بأركون وفي الاهتمام بكتاباته وتراثه خاصةً من خلال ترجمته التبجيلية له، ومنافحته ودفاعه عنه في أكثر من منبر، انظر مقال هاشم صالح في دفاعه ضد منتقدي أركون في جريدة الشرق الأوسط، الخميس، 19/7/2001.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.