تشخيص واقع المسلمين وتحليل أسباب انعدام دورهم الحضاري، رغم ثقل الواجب المناط بهم، يشوبه الكثير من التعميم والحديث الفوضوي الذي هو من أعراض الداء الذي يُبتغى علاجه، فضلا عن أن يساعد في فهم الخلل؛ إذ من الشروط الأساسية لفهم أي ظاهرة: الغوص إلى أعماقها وتحديد أبعادها وتجزئتها، ولما كانت المؤسسات الجامعية، صاحبة المسؤولية الأولى في التحليل والتنظير، تعاني من التخلف الذي سنعالجه كان من الضروري البدء بها ودراسة حالها وما يعيقها عن القيام بدورها الحضاري في المجتمع.
ولا تنفصل أزمة الجامعات عن غيرها من مؤسسات المجتمع؛ إذ تعاني كلها من إشكالية عملية في مفهوم المؤسسة ذاته، فالمؤسسة كمشروع منتج من خلال تجميع وتأطير الجهود الفردية تحول من آلية إبداع مضموني من خلال هيكلية معينة إلى إطار شكلي لا يؤدي غير القيام باسم المؤسسة، حتى تحولت إلى عائق يَحول عبر تراتبيتها دون بروز الإبداع الفردي في إطار الجماعة، وأصبحت المؤسسة داء يقتل روح الإبداع لدى الفرد المنتمي إليها.
مؤسسات العالم العربي والإسلامي المعاصرة، هي من مكونات الدولة الحديثة التي خلفت الاستعمار، وتعكس توجهاتها ومصادر مرجعيتها، فهي إما أن تأخذ النمط السوفيتي الأخطبوطي الذي تهيمن فيه الدولة على كل صغيرة وكبيرة، أو النمط الغربي وطيد الصلة بالمصالح الغربية، يضاف إلى ذلك خصوصية محلية تضاعف السلبيات وتقلص الإيجابيات، فغدت المؤسسة العربية رمزا للتخلف الأعم، ولم تكن الجامعات مستثناة من هذه الظاهرة.
فتحليل إشكالية المؤسسات أساسي في درس المشكلة الحضارية، والأهم منها مؤسسات التعليم، ولئن كانت عوائق الروتين والمركزية والفوضى الإدارية (والبيروقراطية).. في مؤسسات التعليم مشكلات تعالج في الإطار العام للإدارة، فإن البحث العلمي يعاني من أزمات أعمق تزيد إشكاليات المؤسسات الجامعية اعتياصا، وفي مقاربتنا لمؤسسات التعليم العالي الإسلامية ينبغي أن نقف على وصف الملامح العامة للجامعات والتي تحول دون أدائها لرسالتها، والتي هي عائق خارجي للبحث العلمي فضلا عن العائق الداخلي لمفهوم البحث العلمي ذاته.
الجامعات الإسلامية.. ورسالة البقاء
الجامعة بمفهومها العصري ورسالتها العلمية حديثة من حيث الشكل فقط؛ فقد قامت في الحضارة الإسلامية مؤسسات تعليمية مستقلة ورسمية كانت تؤدي وظيفتها العلمية على أحسن وجه، ولم تكن مؤسسة المسجد بمعزل عنها، بل إن أقدم الجامعات الإسلامية المعاصرة كانت لصيقة بالمسجد الجامع وتحمل اسمه (الزيتونة، الأزهر، القرويين..)، وكان خريج هذه المؤسسات ينتسب إليها في اسمه كلقب علمي يشرفه، ولهذه الجامعات دور حضاري بارز لا يحتاج إلى تأكيد، لكن هذا الدور ظل حبيس التاريخ، وتحول إلى سجل أمجاد وذكريات يتباهى به أبناؤها المعاصرون بعد أن أصبحت -شأنها شأن الجامعات العربية الحديثة- لا تحمل رسالة حضارية إلا ما دُون في لائحة إحداثها، بغض النظر عن تحقق ذلك على أرض الواقع، فكأن "تعصير" هذه المؤسسات أدى إلى عصرها وامتصاص ما بقي فيها من روح المقاومة الحضارية والإبداع العلمي والإصلاح الاجتماعي!.
فلم يعد لقب الانتساب إلى هذه الجامعات يحمل ثقله التاريخي، كما لم يعد لحامل شهاداتها حضوره العلمي، هذه الظاهرة لا تخص الجامعات الإسلامية، بل إن الجامعات العربية عموما، وفي العقود الأولى من تأسيسها، كان لها وزن علمي واجتماعي أضعاف ما هي عليه اليوم، فالظاهرة عامة تدل على تحول خطير أدى إلى العقم أحيانا، فلم نعد نسمع بأسماء جديدة من رهبان العلم والفكر الذين كانت تعج بهم الجامعات في القرن الماضي، وتراجعت مطبوعات الجامعات التي كانت مرجعا علميا يُنتظر، وتوقفت مشاريع البحث والتحقيق والموسوعات العلمية!.
إن أي مقارنة بين سابق عهد الجامعات العربية والإسلامية وحالها اليوم يؤكد ظاهرة التراجع والتخلف وغياب الرسالة العلمية، وكأن رسالة الجامعات اليوم هي البقاء والحفاظ عليها من الإغلاق والاستمرار بهيكليتها، بل الأخطر من ذلك أن تصبح هذه الجامعات عائقا أمام البحث العلمي والإبداع بتحطيم الطموح العلمي والروح الإبداعية لدى طلبتها والمخلصين من أساتذتها من خلال القيود المفروضة والروتين القاتل، فأصبح المتميز من علماء العصر متميزا بجهده الخاص وفضله على الجامعة أكثر من فضلها عليه، وغدت الجامعة تفتخر به بدل أن يفتخر هو بالانتساب إليها، هذه الأكوام من العقد والمشكلات يمكن إرجاعها إلى مجموعة من الأسباب:
أولا – مشكلة في بنية النظام الذي يهيمن على مؤسسات التعليم والجامعات، وذلك عندما يكون القائمون على الحكم لا يفهمون قيمة العلم وأهميته في تطور المجتمع وتقدمه، والأخطر عندما يعتقدون أن الجامعات -والمؤسسات العلمية عموما- عندما تأخذ استقلالها العلمي والإداري تشكل خطرا على سلطتهم ومناصبهم فتصبح الجامعة والمؤسسات العلمية عدوا يُستهدف، فيغدو تخليف الجامعة وتحطيم قدراتها رسالة النظام القائم، فالجامعة بذلك عالقة بجناح من أجنحة السلطة الأخطبوطية التي لا تبقي صغيرة ولا كبيرة إلا تدخلت فيها، وهذه مشكلة بنيوية ترتبط بطبيعة النظام القائم المشرف على الجامعات.
ثانيا – مشكلة في النخبة التي تباشر المسئولية في المؤسسات الجامعية، فهم إما أداة طيعة بيد السلطة المشرفة، فلا قيل لهم ولا قال إلا فيما يحفظ لهم الاستمرار في مقامهم ومناصبهم، أو لا يمتلكون الأهلية التي تؤهلهم للعب دور إصلاحي؛ نظرا لطبيعة التكوين الذي تلقوه والذي لا يسمح لهم بتجاوز ما رُسم لهم، والمُخلص لرسالة الجامعة: إما فاقد للشخصية الجريئة أو للأهلية العلمية، ومن جمع بينهما فلا قِبَل له بما يُحاك له من شِراك تجعله يختار أداء رسالته بشكل فردي بمعزل عن المؤسسة التي ينتمي إليها، أو يلجأ إلى جامعة تقدر جهوده وعلمه.
ثالثا – مشكلة في طبيعة أهداف الجامعة ورسالتها العلمية، فهي أداة من أدوات تكريس السلطة القائمة وإضفاء الشرعية عليها، وهذا يفقدها أهم شرط من شروط نجاحها وهو الاستقلال عن أي مؤثر خارجٍ ليس من طبيعة رسالتها العلمية، ولم يعد منهاجها لتخريج باحثين يواكبون آخر ما استجد في مجالهم ويبدعون فيه، إنما تخريج من يملأ الفراغ في مختلف مؤسسات المجتمع الأخرى بحد أدنى من المعرفة التقليدية التي لم تراجع طيلة عقود، وإن أعيد النظر فيها كان البديل أهزل منها وأكثر تسطيحا، حتى إن المقررات في بعض الجامعات قد استنفذت أسئلة امتحانها، وعليه لا يمكن اعتبار الجامعات (أخص هنا الكليات المهتمة بالعلوم الإسلامية وإن كان التحليل يصلح للتعميم) مؤسسات بحثية، فقد تحول معظمها في عالمنا العربي إلى مراكز وظيفية بالنسبة لمعظم الأساتذة والإداريين، مهمتها تخريج الطلبة ليشغلوا وظائف أخرى، أما الدراسات العليا فهي في معظمها وسائل للشهادات العليا، وهي تعاني من إشكالية أعمق حول صلتها بالبحث العلمي الذي نخصه بفقرة مستقلة.
البحث العلمي بين التجديد.. وسدانة التراث
إن المتأمل في آلاف الرسائل الجامعية في مختلف الجامعات يلاحظ فيها التكرار والتشابه واجترار التراث، جمعا وتصنيفا وإعادة إنتاج، وهي تُقدم على أنها بحث علمي، ومعظمها لا يحتوي على إشكالية يعالجها أو سؤال يجيب عليه، فضلا عن القطيعة بين موضوعها وبين العصر الذي تعالج قضاياه في الماضي. أما النتائج التي تتوصل إليها فهي في معظمها وصفية أكثر منها تحليلية؛ مما يجعلها بحثا للماضي.. في الماضي.. ولأجله، وعناوين المواضيع وآلية تسجيلها تنم عن حال الجامعات وما تعانيه، فلا توجد خطة بحثية في الجامعات الإسلامية يتم من خلالها توجيه البحوث وتكاملها، وإن وجدت فهي شكلية تعبر عن الأزمة الأعوص وهي مفهوم البحث العلمي وآليته، ربما يبدو هذا التعبير غريبا فالبحث العلمي عنوان واضح لا يحتاج إلى تعريف وتأطير، لكن ما يُقدم تحت هذا العنوان يدعو لإعادة النظر في مفهوم البحث العلمي وفي مجال العلوم الشرعية بالخصوص، فالمعهود أن يقدم البحث العلمي إضافة نوعية في مجاله فيكون جديدا أو تجديدا في مجاله، لكن واقع الحال أن معظم ما يُقدم في الدراسات الإسلامية هو اختزال ومسخ وتشويه للتراث الإسلامي الذي كان بعضه في صيغته وعصره يعبر عن راهنية وواقعية أكثر مما يطرح على أنه استمرارية له، فلم تفلح الدراسات التي تحمل صفة "البحث العلمي" في تقديم الجديد ولا في سدانة التراث الإسلامي الذي لم يقدم بعد بالشكل الذي يليق به ولا بالأمانة التي تقتضيها صفة العلمية، فيتم تناوله بصفة مذهبية أو طائفية، وبانتقائية تطمس تألق طيفه الذي صنعته الحرية الفكرية والمسؤولية العلمية التي كان يتسم بها صانعوه مقارنة مع ما يدعيه دارسوه اليوم.
إن صفة البحث العلمي في أي مجال، تعني اكتشاف الجديد في موضوع هو مظنة له، والجديد نسبي دائما؛ إذ المعرفة تكاملية وتراكمية، وكلما كان موضوع البحث إشكاليا كانت نتائجه جديدة إن تم تناوله بجدية، والجدة لا تعني الإضافة بقدر ما تعني العمق في فهم القضية وتحليلها ونقدها، وهذا العمق لا يتأتى إلا من صراحة السؤال الذي يستبعد أي خلفيات مهما كانت، وطرح السؤال يعني استواء مختلف الأجوبة مبدئيا في نظر السائل مما يعني أن عقيدة السائل ويقينه المتعلق بموضوع البحث ينبغي أن تكون حيادية في نقاش الموضوع، هذه الحيادية التي هي شرط أساسي في موقف الباحث من موضوعه تعتبر مثار إشكال كبير في تناول البحوث الإسلامية، ولا سيما في المواضيع ذات البعد العقدي؛ إذ كيف يكون الباحث حياديا في دراسة قضية يتعلق بها إيمانه؟.
ألا تخدش هذه الحيادية إيمان المؤمن عندما تستوي النتائج لديه عند طرح السؤال؟ أليست الحيادية هنا شكا يتنافى مع يقين الإيمان؟ وهل دراسة موضوع له صلة بالمقدس تخضع لأكثر من وجهة نظر وتحتمل التساؤل؟ ومن جهة أخرى: إن لم يخضع البحث الديني للتساؤل فكيف يوصف بالعلمية؟.
هذه الأسئلة تشخص جذر أزمة البحث العلمي في الدراسات الإسلامية عموما، وفي الإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي تحديد المجال الدقيق الذي يعتبر فيه هذا الفرض مشكلا، فالمشكلة في الشك في موضوع له صفة القدسية، لكن الدراسات الإسلامية تعاني من هذا الإشكال في قضايا أعم، فالمتأمل في معظم الإنتاج العلمي في مختلف العلوم الشرعية يجد أن أسئلة الباحث تقف عند عقبات عديدة، وذلك حسب مساحة المقدس الذي يعيش هالته، سواء سماه كذلك أو ادعى الحيادية نحوه، فدائرة الحظر تبدأ من التراث الإسلامي عموما، وتضيق شيئا فشيئا حسب توجهات الباحث وخلفياته، فتأتي الدائرة الطائفية، فكل ما يمس أسس الطائفة التي ينتمي إليها يخضع للتبرير والالتفاف والتلفيق والتوفيق بما يتناسب والمظهر العلمي الذي يُبتغى الظهور به، وكذلك الأمر في الدوائر المذهبية والفكرية الأضيق، حتى تنعدم شخصية الباحث تماما وتستوي في نظره المتناقضات ويسلم بها خشية أن تؤول إلى نقض متوالية من المسلمات بنى على أساسها رؤيته ومكانته.
أول عنصر يشكل أزمة في البحث العلمي توسيع دائرة المقدس والمسلمات فتعم من النصوص القطعية إلى النصوص التفسيرية إلى النصوص الاجتهادية وآراء الفقهاء على مدار التاريخ الإسلامي وبانتقائية معينة، بينما لو تم تناول تلك الآراء على أنها وجهات نظر تحتمل الخطأ والصواب كما هو حالها، وخضعت للنقد والتقويم لأنقذت حيزا مهما من التراث الإسلامي من تهم الجمود والتناقض، ولأمكن فهمه بطريقة تزيده احتراما وإنصافا من قبل خصومه، ومما يزيد هذه الهالة للتراث اتساعا عُقد النقص التي تم تكوين الدارس في العلوم الشرعية عليها، فتحقير الذات وتعظيم شخصية الشيخ والأستاذ فمن فوقه يجعل من الباحث إمعة لا قِبَل له بما قاله من يعتقد أنه أعلم وأفقه وأورع منه، بينما قد يتوفر الباحث على إمكانيات تفوق من يعتقد فيه ما اعتقده، وكذلك الأمر بالنسبة للنظرة للكتب والمصنفات التي تحظى بالقبول تتم دراستها بطريقة تنزهها عن الخطأ والتهم وتخضع للتأويل والتبرير أحيانا.
بين الحالة الذاتية والظرف الموضوعي يعيش الباحث مترددا بين الواجب الموهوم الذي يقتضي منه تأكيد ما لديه من معطيات ومسلمات وبين الصراحة في نقد ما يدرسه من أفكار، وستكون الغلبة للجانب التبريري وإنكار ما يتبادر للذهن من رؤى نقدية؛ إذ إنها تخدش اليقين والعقيدة المتبناة باتساعها وتفرعها في ذهنية الباحث، وهذه نتيجة طبيعية عندما يسود الاعتقاد بأن التساؤل يعني الشك والشك يخدش الإيمان، فكيف يكون البحث علميا من دون تساؤل، وهل افتراض صحة الرؤية المخالفة على سبيل الجدل يعني شكا حقيقيا؟ وهل يمكن طرح الأسئلة مع وجود قناعة ذاتية بعدم صحتها لكسب الصفة العلمية بذلك؟. هذه الأسئلة يصح طرحها في المساحة التي تتعلق بالقضايا العقدية الأساسية التي تتعلق باليقينيات، أما ما مجاله الظن فهو مجال الشك والمساءلة من غير اختلاف، أما القضايا العقدية فيمكن الإجابة عليها من زاوية طبيعة تبنيها لدى المسلم عموما والباحث فيها خصوصا.
طبيعة المعرفة الدينية في الإسلام
يتميز الإسلام بخاصية تميزه -كدين- وهي كونه دينا يحتكم إلى الفطرة والعقل ويرفض تبنيه نفاقا أو تقليدا أو مسايرة من غير علم، فهو يلتحم ويلتصق بالفطرة والعلم، وبالتالي فالملتزم بموازين العلم والعقل والفطرة آيل إلى الإسلام، ولا سلطان للإسلام على عقل الإنسان إلا من هذه الزاوية، فهي قاعدة الحوار والجدل بين المسلم وغيره، وبالتالي فعقيدة المسلم تخضع لقواعد الجدل العلمي والنظر العقلي، وأول واجب على الإنسان – كما ينص عليه علماء الكلام – هو النظر، وأول ما يثيره النظر هو السؤال وإثارة الشك فيما يعتقده الإنسان، وهذا ما نلحظه في مسلك القرآن في مساءلة المشركين ومنكري النبوة إذ تتجه الآيات لدفع الإنسان إلى التساؤل حول طبيعة الآلهة التي يعبدها ]قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أم لَهُمْ شِرْكٌ فِي السمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[ [الأحقاف:4]، ]قل سِيروا في الأرض فانظُرُوا كيف بَدَأ الخلق[ [العنكبوت:20].]وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) [ [الأنبياء:52-54]. ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاما فَنَظَل لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) [ [الشعراء: 69-74].
هذه المساءلة التي شرعها القرآن في تمحيص العقيدة لم تكن وسيلة استقواء على المشركين وأصحاب العقائد الأسطورية مقابل عقيدة الإسلام المتماسكة، إنما هي منهج ينبغي الالتزام به طيلة اعتناق المسلم لدينه، فلا مدخل للأفكار التي يرفضها العلم في عقيدة المسلم ما دام مسلما، فإعمال العقل في الإسلام هو قضية منهج للبحث عن الحق أيا كان، فقد حَفَلَ القرآن بالإشارات والدلالات الواضحة والخفية، الداعية إلى إعمال العقل والفكر والاستدلال على الحق من خلال البحث والتأمل: ]سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق[ [فصلت:53]، وتردد في القرآن فعل (عَقَل) نحو خمسين مرة، وثمة ما ينوف على ثمانمائة آية تدعو إلى التأمل وتحكيم العقل، وكذلك الآيات التي تتحدث باللفظ الصريح عن (النظر) وتفرضه وتحث عليه تزيد على الخمسين، وهي تستخدم فعل الأمر لتؤكد على أن هذا النظر فريضة إلهية فرضها الله سبحانه على الإنسان؛ وما أكثر ما يرد في القرآن: ]هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ[ [البقرة:111، الأنبياء: 24 النمل: 64، القصص: 75].
وقال تعالى مرشدا إلى اعتماد العلم والحجة: )وَمِنْ الناسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ[ [الحج:8، لقمان:20]، ]هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ[ [آل عمران:66]، ]إِن الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ[ [غافر:56]، ]أم لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[ [الصافات:156-157].
هذا الإلحاح القرآني على إيلاء العلم مكانته وتحكيمه في قرار الإنسان تجاه الأديان يؤكد التحام الإسلام بالعلم والتواشج بينهما، لذلك كانت دعوة الإسلام للحوار راسخة الجذور لا تخشى من اختلاف المآل ما دام ذلك نتيجة لالتزام بمنهج علمي راسخ. وتأسيسا على ذلك تم التسليم الجدلي بإمكانية صواب الخصم، والتعهد والالتزام باتباع الحق إن ظهر على يديه، حتى لو كان التعهد باتباع ما هو باطل أو خرافة إذا افتُرِض أنه ثبت وتبين أنه حق: ] قُلْ إِنْ كَانَ لِلرحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَولُ الْعَابِدِينَ [ [الزخرف:81].
هذه المنهجية في بناء المعرفة وتنميتها المعتمدة على المساءلة والشك والحيرة كطريق لليقين تثير التساؤل حول ما آلت إليه الدراسات الإسلامية من فوضوية وتقليد وتكرار، وكأن ما يتم تحت عناوين البحث العلمي محاولة للحفاظ على سكون جثة هامدة تحتضر، فتكون الرسالة هي إطالة الحياة فيها وتأخير أجل وفاتها، بينما المجال الذي يتم البحث فيه يعج بالحيوية والتوقد ويضيء لآفاق رحبة واسعة تسعف عالما يعيش على وجل من قدوم صراعات وتنابذ جاء الإسلام يحذر منه، فكيف يسهم البحث العلمي في تنزيل رسالة الإسلام في هذه الأجواء الموبوءة برائحة الحروب والتمييز والكراهية؟.
لئن كانت الأسباب الخارجية المتعلقة بمشكلة المأسسة في العالم العربي والإسلامي كفيلة بتعطيل البحث العلمي وحرفه عن مساره، فإن المشكلة الأعمق تتعلق بغياب صفة العلمية عن هذه البحوث، وذلك بغياب صفة الاجتهاد، الرديف الاصطلاحي في التراث الإسلامي لمفهوم البحث العلمي في العصر الحاضر، وهو غياب يرجع لعدة أسباب، كغياب الأهلية الحقيقية له، أو تضخيم شروط هذه الأهلية حتى تصبح من المستحيلات، أو بابتذال المصطلح وإطلاقه على هرطقات أو ادعاءات لا تخرج صاحبها من دائرة المذهبية وسجنها الضيق.
إن البحث العلمي / الاجتهاد الجزئي والكلي بما هو فرض عيني بحسب الطاقة والجهد، كل في مجاله، تقتضي استعادته الثقة بالذات، وتأطير مفهوم المقدس وتوضيح آلية اعتقاده، وتكريس الاعتقاد بأن ما نعلمه من الجوانب الحضارية في التاريخ الإسلامي هو بعض الإسلام، وأن ما يكتنفه الإسلام من آفاق رحبة لسعادة الإنسان أوسع مما قدمه المسلمون في تاريخهم، وهذا هو مفهوم عدم نضوب معاني الآيات والكلمات القرآنية والكونية، لكن ذلك يتوقف على اكتشاف تلك المعاني والبحث عنها وتدبرها، وما دامت الدراسات الإسلامية لا تقدم جديدا فإنها تحكم بنقيض ما يعتقد أصحابها من فيض المعاني القرآنية وعدم تخلق آياته على كثرة الرد.
إن أزمة البحث العلمي في العلوم الإسلامية ومؤسساتها تكمن -في جوهرها- في مفهوم البحث العلمي ذاته، وغياب الصراحة في مناقشته وتسمية الأشياء بمسمياتها، وانتكاس المنهجية الإسلامية في بناء المعرفة، وتحول الحيرة والشك والمساءلة المعرفية ولو على سبيل الفرض إلى نقيض لليقين والإيمان بينما هي طريق اليقين والإيمان، والسالك فيها واصل أو محكوم له بالوصول، وطريق الوصول إلى بحث علمي حقيقي إنما يبدأ من المساءلة والشك فيما هو جار تحت هذا العنوان ودراسة آثار ما يجري ومقارنة ذلك برحابة الفكر الإسلامي وتنوعه وثرائه في عهود أصبحت من تاريخ الأمجاد والذكريات في عصر لم يعد يمتلك المسلم من فعله الحضاري ما يفاخر به غير ذلك التاريخ.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.