ومَنْ أجدر من مكة أن تكون لها هذه الكلمة كل عام، وهي التي تحتضن أعظم وأقدم وأخلد مؤتمر سنوي عالمي، يتوافد إليه الناس من كل جنس وعرق ولون؛ رجالاً وعلى كل ضامر، يأتين من كل فج عميق، منذ أذَّن فيهم بالحج إليها أبو الأنبياء إبراهيم { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى} [الحج:28] ومَنْ غير مكة تستحق أن تكون عاصمة للثقافة وهي التي تضم أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين، فيه آيات بينات،جعله الله حراماً ليكون للناس قياماً، وليكون لهم مثابة وأمناً،يقيمون فيه مؤتمرهم السنويَّ،مخبتين إلى الله، متّحدين تحت لواء أصلهم الإنساني الواحد، متبرئين من كل ما يمكن أن يفرق بينهم من لون أو عرق أو لسان أو مال أو لباس، أو رياش؟!
ومَنْ غير المسلم يملك خطاباً إنسانياً شاملاً، مرتكزاً إلى قيم ربانيةٍ تهفو إليه الفِطر الإنسانية السليمة، لا يصدر عن شخصٍ مهما علت مكانته الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، ولا عن هيئة أو حزب أو سلطة مهما كانت صفتها محلية أو إقليمية أو دولية، إنما يصدر عن مؤتمر شعبي عالمي عريق راسخ لا يخضعُ لشيء من مؤثرات الزمان والمكان؟
حلم ما يزال يراودني منذ حجي الأول في ستينات القرن الماضي، وسؤال عريض يلح عليّ كلما حلَّ موسم للحج وارتحل :
لمَ لا يحتل نبأ الحج الأكبر في وسائل الإعلام العالمية مساحة أكبر من خبر أداء أي طائفة منعزلة في العالم لطقوسها الدينية التقليدية؟!
وهل يحتشد مليونا مسلم كل عام في مكة، يهرعون إليها من كل أنحاء الأرض يتكبدون لها المشاق والمتاعب والنفقات، لمجرد أداء طقوس تخصهم، بمعزل عن القضايا الإنسانية الكبرى؟!
أهكذا كان حج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خطب الناس فحرم دماءهم وأموالهم، ووضع عنهم ربا الجاهلية، وأوصاهم بالنساء خيراً، فتناولت خطبته أخطر جوانب حياتهم التشريعية والاقتصادية والاجتماعية؟
أليس في تجاهل المشكلات التي تعاني منها البشرية – ما كان منها متعلقاً مباشرة بالمسلمين، وما لم يكن له بهم علاقة مباشرة- بعداً عن مقاصد الحج التي قدم الله تعالى فيها شهود المنافع على ذكر اسمه، ونكوصاً عن أداء المهمة التي أناطها الله تعالى بالمسلمين إذ جعلهم أمة وسطاً وأشهد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا بدورهم شهداء على الناس.
وهل تضاءلت المعاني الكبيرة للحج، والمثل العليا التي ينطوي عليها، والرموز السامية الرفيعة التي يحفل بها، لتقتصر على خبر عابر لا يحرك في المشهد الدولي ساكناً، ولا يبلِّغ رسالة الإسلام جاهلاً، ولا يصحح من ضلالات الإعلام العالمي خطأ، ولا يحقق للإسلام والمسلمين في المحافل الدولية حضوراً؟
وتتوالى مواسم الحج عاماً بعد عام، وتنفتح الثقافات الإنسانية على بعضها إثر ثورة الاتصالات العارمة التي أخذت تغمر العالم بالمعلومات، وتضعنا أحداث سبتمبر على تماسٍّ مباشر مع هذه الثقافات.. فيكبر السؤال:
ألم يأنِ أن يكون لنا منبر نبلغ منه رسالتنا ونوضح قضيتنا، ونصحح المفاهيم المغلوطة عن ديننا؟
وهل غير الحج الأكبر يصلح لأن يكون هذا المنبر؟
يملؤني الشعور بأن أوان تبليغ رسالة الإسلام إلى العالم أجمع – من أسلم نفسه منه لله ومن لم يسلم – قد آن، وأن هذه الندوة إن شاء الله ستكون المنبر، وأن موضوعها السنوي المتخذ- بشيء من التطوير- سيكون الرسالة.
لا شك أن تحقيق هذا الحلم الطموح تعترضه صعوبات جمة.
فالناس المخاطبون، تختلف ألسنتهم وألوانهم وأمزجتهم ودياناتهم، ومستوياتهم العلمية، واهتماماتهم الثقافية، وخصائصهم البيئية..
لكن هذا الاختلاف لم يمنع الإسلام من أن يتوجه بخطابه إليهم جميعاً، وعدَّ هذا الاختلاف آية من آيات الله، ونعمة منَّ الله تعالى بها على عباده؛ وسيلة للتعارف والحوار والتفاعل والتكامل بين الأمم والثقافات، وطريقاً إجبارياً لنمو الأفكار وارتقائها تلبية لنهم الإنسان إلى الاستزادة من العلم والمعرفة، وبحثه الحثيث عن الحقيقة التي لا تنقدح بوارقها إلا بتعدد الأفكار واحتكاك بعضها ببعض.
ولعل قدرة الخطاب القرآني الفذ على مخاطبة هذا التنوع الكبير أحد أسرار إعجازه، وسموه وارتفاعه فوق خصوصيات المكان والزمان والجنس واللسان.
وبذلك يجد المسلم نفسه ممتلكاً لأكثر أنواع الخطاب قدرة على النفاذ إلى قلوب جميع الناس، واستنهاض فِطَرهم السليمة، للقيام بسعي إنساني مشترك من أجل إقامة العدل ورفع الظلم وتحرير الإنسان من ربقة شهواته وأثرته، وذلك لباب واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أناطه الله تعالى بخير أمة أخرجت للناس.
و الحاج عندما يعود إلى بلده، بعد أدائه لفريضة الحج، ونجاحه في أعمال دورته التدريبية المكثفة، يمنحه مجتمعه لقب (الحاج)، وهو درجة اجتماعية رفيعة، ترتب عليه التزامات أخلاقية كبيرة، فقد أصبح بعدها مسلماً ملتزماً مؤهلاً لا يليق به أن يغش أو يكذب أو يخلف الوعد أو يرتكب أياً من الموبقات بذريعة الجهل.
ومن تقاليد هذه الدرجة أن تُمنح للحاج فور عودته في استقبال حافل تنصب له الزينات وتضاءُ الأنوار، وتقدم الهدايا، وينصت الناس فيه إلى الحاج يحدثهم عن مشاهداته ومشاعره وما استفاده من دروس الحج، ويطلبون منه الدعاء لهم بالمغفرة والهداية.
فإذا عرفنا أن كل حاج يستقبل وسطياً مئة زائر في الأيام الأولى التالية لعودته، فضلاً عمن يلتقيهم طوال العام، وأن حجم الحجيج البالغ حالياً حوالي المليونين مرشح للزيادة أضعافاً، باعتبار أن الحج فريضة على كل مسلم مستطيع من المسلمين الذي جاوز عددهم المليار، يؤديها مرة في العمر على الأقل، بمعنى أن المستطيعين من هذا المليار، عليهم أن يؤدوا هذه الفريضة خلال فترة استطاعتهم ولتكن خمسين سنة.. عرفنا أي منبر نرتقيه، وأي جمهور نخاطب، وأي عدد يمكن أن نبلغه رسالة الحج بالبلاغ المباشر الحي عن طريق الحجاج، وبالبلاغ المنقول في الأثير عبر أجهزة الإعلام المتنوعة..
وعرفنا بعد ذلك أي تفريط بحق هذا المنبر نرتكبه في عدم توظيفه التوظيف الأمثل والأجدى..
وعرفنا كذلك أي مسؤولية نتحملها جراء تقصيرنا في تبليغ رسالة الله تعالى إلى الإنسانية الظمأى إليها، التي لم تكن في يوم من الأيام أحوج إليها من أيامها هذه التي تغرق فيها في بحر الأنانية المادية الشهوانية وضلالاتها، التي ابتعدت بها عن طريق الله، وأبطأت بها عن وتيرة الكدح الإنساني المرسوم للإنسان في سعيه للتحرر من الفساد وسفك الدماء {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق 84/6].
ونتحملها كذلك كتماناً للشهادة التي ائتُمنا عليها { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [ البقرة 2/283].
ونتحملها صمتاً مطبقاً إزاء الحملات الإعلامية المغرضة التي يشنها أعداء الإسلام عليه، يلبسون بها الحق بالباطل، ويستهدفون تشويه تعاليمه السمحة، وطمس حقائقه الناصعة؛{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [ الصف 61/8]. و { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [ النساء 4/148].
****
وبهذا المستوى من الشعور المشترك بمسؤولية الرسالة وأداء الأمانة تقترح دار الفكر على رابطة العالم الإسلامي مشروعها التالي لتوظيف هذه الشعيرة الكبرى في خدمة الدعوة الإسلامية وقضايا المسلمين :
1-تختار الرابطة موضوع الحج السنوي، من القيم الإنسانية التي يتوجه بها الخطاب القرآني إلى الناس كافة، مما تجده ذا صلة وثيقة بأحداث العالم الجارية، وتشعر بحاجة الإنسانية للإصغاء إليه والتنبه له، وما أكثر هذه القيم التي يزخر بها الكتاب والسنة كالعدل والحرية والمساواة والسلم والأمن والمودة وحسن الجوار ورفع الظلم ومساعدة الضعيف وإطعام المسكين وعدم الإكراه في الدين والوفاء بالعهود وحرمة الدم والمال والوسطية والرشد والشورى، وما لا ينفد من كلمات الله في كتابه المبين الذي لا تنقضي عجائبه ولا يَخْلَق من كثرة الرد، ولا يكف عن تزويد البشرية بكل الحلول لمشكلاتها المستجدة والمتجددة إلى قيام الساعة.
2-وتستنبط منه شعاراً رشيقاً يسهل على الناس حفظه.
3- وتستقي منه عناوين لأبحاث وندوات ومقالات وقصائد تستنفر لها العلماء والأدباء والمفكرين والشعراء.
4- وتنظم لها مسابقات، وتخصص لها جوائز لأفضل بحث، وأفضل قصيدة، وأفضل عمل فني مبتكر يجسد الشعار المختار ويوضح فكرته.
5-ويعمَّم الموضوع والشعار على وسائل الإعلام وخطباء المساجد والملحقين الثقافيين، ليكون شغلهم الشاغل ومحور نشاطهم الثقافي والدعوي،يولِّدون منه الأفكار وينمونه ويعمقونه.
6-وتكتب الرابطة بذلك إلى التجار والصناع تشجعهم على استخدامه وإبرازه على بضائعهم التي يعود بها الحجاج هدايا إلى بلدانهم..
7-ثم تصوغ الرابطة منه في كل عام رسالة توجهها بلغات مختلفة إلى العالم كله عبر وسائل الإعلام، باسم مؤتمر الحج الأكبر، تتضمن الموضوع المختار والشعار المنبثق عنه وتطبيقاته المرجوّة، وحرصَ المسلمين على المشاركة في معالجة الهموم الإنسانية، والإسهام في بناء الحضارة العالمية على تقوى من الله ورضوان؛ مما يمكن أن يشكل لهم حضوراً فعالاً في المنتدى الدولي، ويدفع بالإسلام إلى مرتبته التي يستحقها في المجال الدعوي.
8-كما تصوغ من الموضوع السنوي ذاتِه رسالة إلى الحجاج، تتسم بالبساطة حتى يفهمها أدناهم، وبالعمق حتى تستقر في ضمائرهم، وباليسر حتى يمكنهم تبليغها وتمثلها وتطبيقها. توجهها إليهم بكل لغاتهم؛ مسموعةً ومطبوعةً، وبكل الوسائل التي تجعل منها رسالة يعودون بها إلى أهليهم، يُطلب منهم تبليغها، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم،" فرب مبلَّغ أوعى من سامع"، وتكون مادة لحديثهم مع مستقبليهم متى عادوا إلى بلدانهم. وأغلب ظني أنها ستصبح حدثاً يؤرخ به الحاج حجه، فيقول: قد أديت حجي عام المساواة أو عام العدل أو عام الوفاء.
9-وتشكَّل في الرابطة دائرة للمتابعة، تؤجج الموضوع المختار في الداخل والخارج بكل الوسائل، لتجعله حياً طوال العام، حاضراً في ذاكرة العالم. أسوة بالموضوعات التي تتبناها سنوياً هيئة الأمم المتحدة فتجعل منها عاماً للمرأة وعاماً للطفل وعاماً للسياحة، وأعواماً أخرَ لأغراض شتى.
****
وأخيراً، إذا قدر لاقتراحي هذا أن يلقى القبول ولو في حدوده الدنيا، وأن يأخذ طريقه إلى حيّز التطبيق ولو بالتدريج، على هيئة فسيلة تُتَعهَّد وتُنَمّى ، أو فلزة تشذَّب وتهذَّب وتُنقىّ وتصقل وتُعدَّل، فإني أطمع أن تكون سنة يكتب الله تعالى لي ولكم أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
وإن تكن الأخرى، فإني أسأل الله تعالى أن يقيض للمسلمين من يبتكر لهم خططاً أجدى وأكثر قابلية للتطبيق، تخرجهم من حالة العجز والكلالة والعيِّ التي يعانونها، وتبوئهم مكانتهم التي أعدهم الله تعالى لها ليكونوا {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [ آل عمران3/110].
وتعيد لمؤتمر الحج الأكبر هيبته العالمية، وجدارته بأن تُلقى من فوق منبره الفريد في العالم كلمة الملايين من المؤتمرين.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.