تحقيق النصوص علم عربي اسلامي، وضع أصوله رجالات البحث والتأليف والرواية والتلقي والكتابة والتعليم، في ميادين الحديث النبوي والقرآن الكريم وما تفرع عنها من العلوم، وأجروا تنفيذاته في بضعة عشر قرناً، ونقلوها الى ميدان النص التراثي عامة في شكل عملي متقن، وأخرجوا منه ملايين النسخ الخطية، ومئات آلاف المصنفات والرسائل في سائر علوم الاسلام. وهذا يعني ان جميع الشعوب الاسلامية شاركت فيه أيضاً، ويجب عليها اعتماده فيما تنشر من تراثها العلمي والفني والأدبي، هذه خلاصة الأطروحة التي يقدمها عالم النحو الدكتور فخر الدين قباوة في كتاب «علم التحقيق للمخطوطات العربية بحث تأسيسي للتأصيل» (دار الملتقى، حلب، 2005)، الذي يذهب انطلاقاً من ذلك الى أن المستشرقين وأنصارهم من العرب تجاهلوا أحداث التاريخ، فزعموا أن نشوء هذا العلم كان عند بعض الدول الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، وأن أول محقق عربي هو أحمد زكي باشا، وأول كتاب عربي في هذا الفن كان «تحقيق النصوص ونشرها» للأستاذ عبدالسلام هارون سنة 1954.
المتصفح في التاريخ يرى ما يرد عليهم هذا الزعم، ويرجع بتحديد الزمن لتلك العمليات التحقيقية الى السنوات الأولى من البعثة النبوية، حيث كانت اجراءات أساسية واعية لتحقيق النص الرباني المجيد، فقد ثبت أن «جبريل كان يعارض النبي (صلى الله عليه وسلم) القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضه مرتين سنة وفاته»، في هذا الحديث أحداث واقعية لأول تحقيق نادر المثال في التاريخ الانساني. اذ يعرض النبي الأمين على جبريل نصوص القرآن الكريم أربعاً وعشرين مرة، في مدة الوحي الرباني، وبهذا تعليماً لمن بعده أسلوب التوثيق والتحقيق المثالي عملياً بالمقابلة والعراض مراراً، وليتحقق لديهم كمال نقله وتبليغه، فقد غرس في نفوس الصحابة الكرام السعي في متابعة الحقيقة من الأقوال، فصاروا اذا اختلفوا في قراءة رجعوا الى النبي يعرضون عليه ذلك، فيقر ما هو صواب بأنه كذلك أوحي من عند الله، ويدفع ما كان من أوهام، فهو تحقيق شفوي خالص أيضاً، وقد يكون فيه ما سجل بين يدي الرسول والصحابة، فيتحصل مع الشفوية تحقيق كتابي أيضاً.
بهذه الروح الواعية والخبيرة، كان جمع الآيات الكريمة في عهد الصديق ضمن مصحف شريف، ثم تدوين المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه، وتناقل الآيات المباركة والأحاديث المطهرة في الصدور وفي السطور. كان هذا أول حدث تاريخي، يسجل التدقيق والضبط للنصوص بين أفراد البشر. وقد اعتمده علماء القرآن والحديث، في تأصيل معايير الصحة والثقة، وراحوا يجرونها عملياً في متابعة الرواية والرواة. ثم انتقلت تجاربهم وأساليبهم الى سائر العلوم الاسلامية، وصارت منهجاً بين الدارسين والباحثين والمصنفين، لاعطاء منجزات الحضارة صفة الأمان والتقبل والخلود. وبذلك صدرت مئات الألوف من المصنفات والنسخ الكتابية، منفذة فيها تلك التعاليم المقررة، وأصبحت المكتبة العربية الاسلامية موئلاً ومعرضاً لصيانة التراث، وتغذيته بمقومات الصدق وكفايات التثبت والبقاء.
كانت الحضارات القديمة تعتمد في نقل النصوص وروايتها، على المشافهة الشخصية تنتقل بها الأقوال، فيدخلها كثير من التصرف بالزيادة والتدليس والتحريف والتشويه، ويسقط منها ما هو أكثر وأكبر. ثم اعتمدت بعض الأمم على الكتابة، فصارت النصوص تثبت في الصحف والسجلات والوثائق والكتب، ولكنها بقيت خلواً من وسائل التوثيق أو التحقيق، إذ لا ترى في ما جاء قبل الاسلام كتاباً أو نصاً له من الأسانيد والروايات المتضافرة، كلمة توثق فيه نسبة المقولات أو تدقق في ضبط عبارتها كما أرادها صاحبها. وهنا لا بد من أن نتعرف إلى مفهومي التوثيق والتحقيق، التي توهمها المعاصرون شيئاً واحداً.
فالتوثيق تثبت نسبة النص الى صاحبه بالأدلة المرجحة أو القاطعة، من أسانيد وأقوال متضافرة أو متواترة. وان فقد ذلك كان فقدان خارجي وداخلي للإسناد والمتن، بمقاييس علمية مقررة، يوصلان الى ضروب ودرجات من الاطمئنان، أما التحقيق فهو التصحيح والتصديق والتصويب والإحكام، والعلم بالشيء حقيقة ما كانت عليه في اللفظ والمضمون.
ثم جاءتنا أمواج الغزو الاستعماري بعولمته القديمة، يسد علينا منافذ التطلع والتلقي من منابع الأصالة، ويضع لنا سبلاً ملتوية، زاعماً – بحسب قباوة – أنه ابتكر أصول التحقيق وأساليب التوثيق. وقد جرى مع مزاعمه عدد من الناشرين ورجالات العلم والتعليم، فأصدروا قدراً كبيراً من مصادر التراث، قل أن تجد فيه صدق الحضارة الاسلامية، وصفاء الوجه العربي. ومن هؤلاء الشيخ أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون والدكتور صلاح الدين المنجد وغيرهم، التي جاءت أعمالهم مضللة ومشوهة، فهم لا يتمتعون بثقافة كافية، فهي محدودة ومعلوماتهم قاصرة وخبرتهم غضة، فلم يطلعوا على ما وضعه علماء المسلمين، من أصول نظرية ملزمة، وانجازات عملية رائعة، ولم يدلونا إلى ذلك أو يوجهونا اليه، ثم قرأوا التراث الخطي تحت مظلة الاستشراق قراءة سطحية، غايتها النشر البدائي المستعجل، ولم يقرأوه قراءة بحث واستيعاب للأصول في التحقيق والتوثيق، فكان من السهل تأثرهم بالمستشرقين الحاملين شعار التلويث الحضاري. فلو أنهم اطلعوا بجد واخلاص على المصنفات المنهجية في تحقيق النصوص، عند علماء المسلمين للتنظير والتنفيذ، وتمرسوا بالمخطوطات الغفيرة التي طبقت تلك الأصول، وجعلتها حقيقة علمية واضحة القسمات والدقة والوفاء، لكانت لديهم خبرة وافية بإجراء العمليات اللازمة، وتطويرها بما يمنحها الحياة المعاصرة، ويهيئها لاستيعاب الحضارات القادمة. ولكنهم اكتفوا بتتبع رجالات الاستشراق، وان زعم بعضهم المخالفة، فكان منهم ما أفسد العلم، ورسم طرقاً مشوهة وتجارب مأفونة.
الغاية المرجوة من عملية التحقيق هي خدمة التراث الانساني، لنقل التجارب والخبرات والمعارف والعلوم والفنون والعقائد وأساليب الحياة والعمل، كما حفظتهما الذاكرة البشرية في سجلاتها الخطية الخالدة، ذلك ان التراث العربي قد اقتبس من ماضي الحضارات ما تيسر له، فضم بين جوانحه الكثير من أهم آثار الأمم المتقدمة، وأضاف اليه من جهود العرب ومن عاش بينهم من الأقوام كثيراً من المعلومات والأساليب والتجارب، وشيئاً وافراً من العلوم والمعارف المولدة أو المبتكرة. ومهمة المحقق أن ينقل الى الحاضر ما كان من تلك الاقتباسات، وما ساهم به أجدادنا من توليد وابتكار أو نقد وتقويم وتسديد للذاكرة الانسانية المدونة في السطور وما قام به العلماء، ومن اصطناع وتنفيذ لمناهج وأصول في البحث والتأليف والانتاج، وخصائص كل منهم في تلك الميادين، وما تميزت به عصور أو بقاع أو شخصيات فذة في التاريخ، وما بني على ذلك من تجديد وابتكار وتوليد، في ميادين العلوم الانسانية والتطبيقية وعلوم الكون والحياة، وفي العلاقات الاجتماعية والسياسية والعالمية.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.