آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  التعليم و المناهج

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    إتجاهات الإصلاح

  •     

إصلاح التعليم الديني من منظور ابن خلدون

عبد الرحمن حللي


يشهد هذا العام ندوات ومؤتمرات علمية في مختلف أنحاء الوطن العربي بمناسبة مرور ستة قرون على وفاة العلامة ابن خلدون أبرز مفكر في التاريخ الإسلامي عالج القضايا الحضارية من منظور شامل، وكانت له الريادة في ميدان ما أسماه "العمران" الذي ربط به مختلف العلوم والصنائع، وسنعرض في هذا المقال منظور ابن خلدون للتعليم ودوره الوظيفي الذي يؤديه في العمران, حيث عرض في مقدمته رؤيته حول التعليم الديني مشخصاً مشكلاته ومقترحاً عناصر للعلاج.
يعتبر ابن خلدون أن تعليم العلم صنعة من جملة الصنائع لا بد لحصولها من ملكة وذلك بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وهذه الملكة هي غير الفهم والوعي الذي يشترك فيه الجميع، فنظريته تقتضي أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، فثمة علاقة عضوية بين ازدهار العلوم والعناية بها وبين استمرار العمران وازدهاره واتصال سند التعليم في البلاد، (يستشهد لذلك بحال الأندلس والمشرق)، ويصنف العلوم الواقعة في العمران مقيداً هذا التصنيف بعهده تحصيلاً وتعليماً إلى صنفين: الأول: صنف طبيعي وهي العلوم الحكمية الفلسفية والتي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها، والصنف الثاني: نقلي يأخذه عمن وضعه، وهي العلوم النقلية وكلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن. 
ثم يحاول ابن خلدون في تحليله لوضع التعليم الديني في عصره الوقوف على الأسباب التي تحول دون تحول التعليم إلى ملكة لدى المتعلم بحيث تسهم في العمران، ويمكن تلخيص تلك الأسباب التي يراها أضرت بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته في طول مدة التعليم ويعزو طولها إلى قلة الجودة في التعليم خاصة، لاسيما وأن تلك المدة التي يقضيها الطالب إنما تتم دون نقاش وحركة فيها، فتذهب أعمار الطلاب ولا يحصلون الملكة المطلوبة، كما ينبه إلى الخلط بين الملكة العلمية والحفظ، فالعناية بالحفظ أكثر من الحاجة، فساد الظن أن الحفظ هو المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك، ويلاحظ ابن خلدون أن اختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها وكثرة التآليف في العلوم تشكل عائقاً عن التحصيل، وذلك من زاوية مطالبة الطالب بتحصيلها والوقوف عليها فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولابد دون رتبة التحصيل، ويرى كذلك أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم تشكل فساداً في التعليم وإخلالاً بالتحصيل، وهي ما غدا يعرف بالمتون، وذلك لأن فيها تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهذا من سوء التعليم، ثم في ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة. ومما يلاحظه ابن خلدون من مساوئ التعليم تحويل علوم الآلات إلى علوم مقصودة لذاتها، كما حصل في صناعة النحو والمنطق وأصول الفقه فأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد.
وبعد تشخيص ابن خلدون لمشكلات التعليم يرى إصلاحه من تصور مكانة التعليم في العمران ودوره كصنعة أساسية لا تحققها الطرق السائدة في عصره، لذلك نجده يقترح في هذا المجال التركيز على تحصيل الملكة، وأهم طرق تحصيلها وأيسرها فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها، وقد أشار إلى كون طرق التعليم الممتدة تعتمد على الحفظ والتلقين ويغيب فيها الحوار ويقضي الطالب وقتاً طويلاً وهو ساكن لا يتحرك، ويتخرج وهو لا يجيد الكلام والحوار، وينصح بإتباع وجه الصواب في تعليم العلوم من خلال التدريج في التعليم شيئاً فشيئاً بحيث يحصل التعلم في ثلاث تكرارات حسب مستوى المتعلم، وعدم تداخل المسائل والعلوم ببعضها، وتقصير مدة التعليم، لأن طول المدة ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها، والتوسع في العلوم المقصودة بالذات كالشرعيات والطبيعيات والإلهيات، والاقتصار في العلوم الآلات التي هي وسيلة وآلة لغيرها كالعربية والمنطق، فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته. وأخيراً يحذر ابن خلدون من الشدة على المتعلمين لأنها مضرة بهم، ويعتبر الشدة من سوء الملكة، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب، ويورد ابن خلدون في هذا السياق كلاماً يشرح فيه أثر الشدة في التعليم وما يورثه في العمران عموماً، ونصه هذا يصلح تشخيصاً لحال المسلمين اليوم ويفسر عقم التعليم وغياب الإبداع لدى المتعلمين، يقول: "ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضَيَّقَ عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحَمَل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحَمِيَّة والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف". 
إن ما أورده ابن خلدون في تشخيصه لقضايا التعليم وما اقترحه من علاج لمشكلاته إنما هو جزء من تصوره لمكانة التعليم في العمران كصنعة أساسية من صنائعه، وكأن ابن خلدون فيما نظَّره قبل ستة قرون إنما يتحدث عن سنة حضارية ندرك آثارها اليوم، فالعلاقة بين التعليم والتنمية اليوم وما يطرح في هذا المجال ما هي إلا صياغة حديثة لما أورده ابن خلدون حول العلاقة بين التعليم والعمران، وأهم مشكلات التعليم المعاصر تحوُّله من ملكة وصناعة فاعلة إلى تلقين وحفظ وسنوات طويلة تقضى بالدرس والامتحان بغض النظر عن جدواها، ولا يتم تقييم أثرها في العمران والتنمية، وبالخصوص في مجال التعليم الديني الذي لم يكن منفصلاً عن غيره، حيث ما يزال وصف ابن خلدون لأحوال التعليم الديني والمتعلمين في عصره - والذي نجد للمصلحين وصفاً شبيهاً به لأحوال التعليم في القرن العشرين – صالحاً اليوم لاسيما في المعاهد الشرعية التي تخرج حفظة للمتون بغض النظر عن حصول الملكة فيها وتوظيفها في الحياة، بل وإن المحاورة والجدل الذي اعتبره ابن خلدون هو الذي يفتق الملكة لدى المتعلم يبقى الغائب الأساسي في التعليم اليوم سواء في المدارس أو الجامعات وبجميع الاختصاصات، وما اقترحه ابن خلدون من علاج لهذه الأدواء التي شخصها إنما هي قواعد عامة تمثل سنة حضارية لا تتخلف عبر العصور. 
فهل تكون استعادة فكر ابن خلدون بعد ستة قرون على رحيله مؤشراً على بداية جادة للنهوض الحضاري أم تبقى مهرجاناً كسائر المهرجانات الثقافية تفاخر بماضيها وتؤكد عجز التعليم والفكر العربي والإسلامي عن إيجاد شخصية بوزن ابن خلدون.


تاريخ النشر : 26-04-2006

6370 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com