لعب الاسلام منذ ظهوره دوراً حاسماً وتاريخياً في تغيير صورة العرب الذين توجه الاسلام اليهم بداية بالدعوة، فانطلق عندها الدين الاسلامي من أرض جزيرة العرب حتى امتد الى أوروبا شمالاً ومن ايران الى المحيط الاطلسي. وسيطر المسلمون سيطرة كاملة على البحر المتوسط حتى ان ابن خلدون قال: «ان النصارى لم يكن في وسعهم ان يمخروا عباب هذا البحر ولو على ظهر خشبة». لكن هذا التوسع الجغرافي تداخل مع تراجع فكري وفقهي وانسداد في أفق النظام السياسي. وحتى على المستوى العلمي فإن الحضارة الاسلامية وصلت الى طريق مسدود على رغم ظهور مبدعين نادرين كابن الهيثم في البصريات والطوسي في علم الفلك وابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع، وغيرهم كثير. الا ان نتاجهم ذلك لم يجد من يحفظه ويبني عليه. فالمعرفة العلمية تقوم في اساسها على التراكم، ومع افتقاد الحضارة الاسلامية لمثل هذه الميزة اصبحت الاعلام الفكرية والعلمية اشبه بالشموع التي تنطفئ عند نفاد مخزونها. وهو ما حصل تماماً، في حين تمكن الغرب من الاستنارة بهذه الشموع ليبني عليها تراكماً علمياً فذاً أنتج فيما بعد النهضة الصناعية الاوروبية التي فجرت مولد الثورة العلمية وقد أصبح لها انعكاساتها على الانسانية جمعاء وفي كل المجالات والفروع الانسانية.
احتفظ التاريخ الاسلامي بفترة ذات افضلية في تأريخه هي زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام، ولذلك فالتاريخ من بعدهم لا ينفك ينحدر باتجاه السيئ والاسوأ، وهو ما تقرره أحاديث نبوية عدة وآيات كريمة وبخاصة قوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس» التي تربط مفهوم الخيرية بالأمة الاسلامية بالمطلق. مع غض النظر عن زمانها وتوقيتها. وهو ما يدفعنا الى نفي مفهوم التخلف او الانحطاط بصفته قدراً لاهوتياً على العالم الاسلامي ان يمر به. ومثل هذا التفكير الشائع لدى الكثير من الاوساط المتدينة ينفي عن البشر فاعليتهم وحراكهم الاجتماعي والسياسي، وقدرتهم على التغيير والبحث عن الافضل. ويشيع عموماً رؤية تواكلية تقوم على اساس ان «ليس بالامكان افضل مما كان «أو قائمة على مبدأ ان «السلف لم يترك للخلف شيئاً»، وهو ما يجعلنا مكررين ومقلدين لمقولات السالفين التي علينا تردادها واستنساخها. كأن فيها خلاصنا الفردي على اعتبار ان الهم الانساني غالباً ما يكون مغيباً تماماً في مثل هذه الرؤية اللاتاريخية.
يعيد المؤرخ الشهير حسين مؤنس على سبيل المثال لا الحصر تدهور الحضارة العربية الاسلامية الى القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي، ويعزو ذلك الى سوء النظام الاداري والمالي، والى جمود النظام السياسي المخرب الذي سارت عليه الحكومات الاسلامية منذ حكم البويهيين في منتصف القرن الرابع الهجري، بيد انه يعقب قائلاً: «ان التدهور في عالم الاسلام هو تدهور نظم الحكم وتدهور أخلاقيات أهله في العصور الماضية، اما تدهور كتلة الشعب فهو شيء لم تعرفه الحضارة الاسلامية قط، وظلت الامة الاسلامية في مجموعها أمة فاضلة».
وهكذا فالانحطاط بحسب مؤنس ظاهري فقط وعارض، بينما يبقى جوهر الحضارة الاسلامية سليماً ومعافى فلا تمسه ظواهر الانحطاط او اعراضه. ان احساس التنزه هذا مع الكثير من المفكرين الاسلاميين يمنعنا من التفكير في سؤال الانحطاط او التخلف الذي اعاق الحضارة الاسلامية عن اكتشاف الثورة العلمية الحديثة، بعدما كانت مرشحة بامتياز لتحقيقها بحكم التقدم العلمي والفكري المذهل الذي حققته في القرن الثامن الميلادي، لكنها أخفقت بينما تمكنت الحضارة الغربية من تحقيق القفزة باتجاه الثورة العلمية، مع ان الغرب في تلك الفترة كان في اشد عصوره انحطاطاً وظلاماً. ومهما يكن فإن اتجاهاً عاماً ساد لدى المفكرين المسلمين يغلب على القول ان «البشر ساروا على الطريق المستقيم زمن الرسول (صلّى الله عليه وسلم) والفضل في ذلك يرجع الى هدى النبوة ثم القرب من عصرها. ولكن وبعد هذا العهد أخذ أمر الناس يفسد وأخذوا يبتعدون من الطريق السوية. وهكذا يأخذ التاريخ في نظر أولئك المفكرين اتجاهاً منحدراً وينظر كل واحد منهم الى العصور التي سبقته على انها بالضرورة أحسن من عصره. ويعتبرون ان هذا الاتجاه سيستمر حتى تعم الفوضى ويعود الاسلام غريباً كما ولد غريباً، ويضطرب الامر كله في النهاية حتى يستنقذ الله الناس بعودة عيسى بن مريم عليه السلام ويقتل الدجال، أي يقضي على الفوضى والظلم، ويملأ الدنيا عدلاً بعد ام ملئت جوراً، ويكون ذلك من اشارات الساعة أي مقدمات نهاية الدنيا». مثل هذا التفكير وجدناه شائعاً لدى الفكر الاوروبي في العصر الوسيط قبل ظهور فكر الانوار، ويعود في اصوله الى تفكير اغريقي قديم ينظر الى الزمن على انه عدو للانسان ثم انتقلت هذه النزعة التشاؤمية الى التفكير المسيحي الذي يتلبسه مفهوم التضحية مما فرض عليه نوعاً من الرؤية المأسوية والسوداوية تماماً للزمن، الذي يصبح مرذولاً ومطروداً مع تقدمه، وان تشرب مثل هذا النوع من التفكير في الرؤية الاسلامية اعاقها عن النظر بعين استقلالية الى الزمن، الامر الذي كان من شأنه ان يوسع أفق التفكير الميتافيزيقي للمفكرين المسلمين في القرون اللاحقة، ويمنحهم حرية من التفكير والحركة تمثل ضرورة لأي عملية ابداع حقيقي في اية حضارة من الحضارات.
يتساءل توبي هاف قائلاً: «لماذا أخفق العلم العربي في ان ينجب العلم الحديث؟ ولماذا انهار وتراجع الفكر العلمي والعمل في الحضارة العربية الاسلامية بعد القرن الثالث عشر؟ مع ان العلم العربي كان منذ القرن الثامن حتى نهاية القرن الرابع عشر اكثر العلوم تقدماً في العالم، وقد تجاوز بكثير ما كان في الغرب وفي الصين، وفي كل ميدان للبحث في الفلك والكيمياء والرياضيات والطب والبصريات». ثم يضيف: «اذا كان العلم العربي كان له التفوق التقني والعلمي على مدى اكثر من خمسة قرون فلماذا لم ينجب العلم الحديث؟». إن هاف يعتبر أن العلوم التي أطلق عليها الغربيون تسمية العلوم الطبيعية كان المسلمون يسمونها (علوم الأوائل) وذلك في مقابل أو موازاة العلوم الاسلامية المتعلقة بدراسة القرآن والحديث والفقه والكلام والشعر واللغة العربية، وبدافع من حب الاستطلاع ولدوافع دينية بلغ العلم العربي والاسلامي من القرن الثامن الى القرن الرابع عشر أعلى مستوى له من التقدم العلمي ولم يكن ذلك بغاية خدمة العلوم الطبيعية (علوم الأوائل) بذاتها بقدر ما كان عائداً الى الحاجة الى تطوير العلوم الاسلامية نفسها، فمن اجل تقسيم المواريث اعتُبر الحساب موضوعاً مهماً للدراسة ومن أجل تأدية الشعائر كانت الحاجة لتحديد المواقيت ومن ثم الى استخدام الهندسة والى ابتكار حساب المثلثات وذلك بغية اكتساب عمليات حسابية تحدد الاتجاه الى مكة حيث هي تمثل قبلة المصلين.
وإذا أخذنا بتتبع الاسباب التفصيلية التي تدرس اسباب إخفاق العالم العربي في ان ينجب العلم الحديث على رغم انه كان المرشح المؤهل لذلك وهذه الاسباب هي كما ذكرها هاف، التي تعد دراسته الأولى من نوعها لجهة انصافها لدور الحضارة العربية الاسلامية اولاً، والتمحيص في الاسباب العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أدت الى تدهور الحضارة الاسلامية ثانياً، وثالثاً وأخيراً دراستها المقارنة والمثيرة بين الحضارة الاسلامية والحضارتين الغربية والصينية، وهي المقارنة التي من شأنها ان تثير الكثير من التساؤلات وتضيء في الوقت نفسه الكثير من الجوانب التي غالباً ما يغفل عنها الباحثون المسلمون بحكم انهم ينظرون الى حضارتهم برؤية ذاتية تحمل الكثير من التجميل وأحياناً بعض الادعاء والمبالغة. يعيد هاف هذه العوامل الى اسباب عرقية وسيطرة السنية الارثوذكسية الدينية والطغيان السياسي اضافة الى وسائل متصلة بالبواعث النفسية والعوامل الاقتصادية اضافة الى إخفاق فلاسفة الطبيعة العرب في ان يطوروا ويستخدموا المنهج التجريبي.
هذه العوامل الاساسية انبثقت عنها عوامل فرعية هي ناتجة عنها بالضرورة، فالطغيان السياسي وسيطرة المذهبية الدينية افرز تعصباً دينياً وبخاصة تجاه العلوم الطبيعية، مما أدى الى نشوء ما يسمى بالعلوم السرية بدلاً من دراسة العلوم اليونانية والعقلية بشكلٍ حر ومنفتح تماماً، وهو ما نلحظه عند ملاحظة مدى صعود علوم التصوف والحركات السرية في القرنين الثاني والثالث عشر، بحيث سيطرت عقلية أشبه بالسرية على عقول الكثير من المثقفين والعلماء العرب المسلمين سواء اعتقاداً ايمانياً بالخلاص عبر التصوف، او ممارسة للتقية وخوفاً من الحاكم الجائر الذي انحاز لمذهب معين سعى الى فرضه بالسيف والبطش.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.