|
|
التجديد والنهضة . إتجاهات الإصلاح |
|
|
|
إن الحديث عن مرحلة ما بعد مالك بن نبي الفكرة يرتبط باستثمار فعلي لأفكاره في إطار زمني مفارق للذي أنتج فيه أفكاره، نعني استثمار الرأسمال الفكري البنّابي (نسبة إلى مالك بن نبي) ضمن مرحلة زمنية لم يحيا داخلها وبدهياًلم يتطرّق إليها لبلورة أفكار خاصة بها وصياغة مفاهيم عامة حولها. يحيلنا هذا إلى مفهوم تاريخانية الأفكار فهي من هذا المنظور تشير إلى مستويين في الأفكار مستوى خاضع للظروف التاريخية لنشأتها وهو المستوى السطحي المرتبط بالظروف الواقعية والفكرية الراهنة له ومستوى غير خاضع لها وهو المستوى الباطني للأفكار والتي تتصل حتما بالنزوع الميتافيزيقي لمنتجها ومعلوم أن الجانب الميتافيزيقي هو نزوع نحو اللامنتهي وبالتالي فإن المستوى الباطني للأفكار يرتبط من الناحية الدنيوية بالرؤية الحضارية وفلسفة الوجود لدى منتجها كما يرتبط من الناحية الأخروية بالخلود وفلسفة ما بعد الوجود. إن ما بعد البنابيَّة لا تعني فقط طرق طروحات جديدة لم يسبق إليها بن نبي بل إننا نقصد بها أكثر من ذلك ؛ بأن تعمّق طروحاته ومقولاته تحليلا وتركيبا ونقدا وتجاوزا، فالمرحلة المعرفية الراهنة هي مرحلة تشييد وبناء الكليات والهيكل المنهجي العام وهي مرحلة تالية للمرحلة المعرفية الأولى التي عنيت بوضع الأسس الشاملة والكبرى، لتأتي مرحلة ثالثة نبشر بها بإذن الله هي بناء الكليات المنهجية الفرعية وتحديدا هي بناء النماذج المعرفية داخل التخصصات العلمية. وكنموذج محدد لذلك نأخذ بين أيدينا كتاب الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن "سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية" لنقرأه على ضوء ما كتبه مالك في شروط النهضة، فمالك ضمّن كتابه "شروط النهضة" البعد الأخلاقي بشكل بسيط وعابر ولم يتوقف عنده كثيرا، بحيث جاء عنصرا مكونا لتوجيه الثقافة إضافة إلى المنطق الجمالي والبعد العملي، إذ يكتب الباحث محمد الشاويش في ذلك ما يلي : "وتوجيه الثقافة يعني توجيه الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية وهذه الصلات يبعثها الدين أصلا"، وهذا ما يعني ارتباط الأخلاق بالدين، وهي القضية التي كرس لها طه عبد الرحمن بداية مساهمته في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، فأكد أولا على تبعية الأخلاق للدين ومنه التأكيد على ارتباط الدين بالإنسان وكنتيجة لذلك أصالة العنصر الأخلاقي في الإنسان، ومضى بعد ذلك طه ليشق طريقا وعرا وشاقا ولكن بثقة وجدارة في نقد الموروث التراثي الأخلاقي في الإسلام وكذا للرؤية الحداثية الغربية للأخلاق، لينتهي إلى إبداع نظري لدرجة أخلاقية راقية أسماها " الأخلاق المؤيدة "، ليعرّج بعد ذلك إلى محاولة تحديد أخلاقي للهوية الإنسانية المستقبلية ومنتهيا إلى الهم المشترك بينه وبين الانشغال البنَّابيّ في توجيه عملي لتجديد الأخلاق في الإسلام ومنه إلى تجديد الفكر الديني. كما أنّ الحديث عن مرحلة ما بعد بنّابية ليس من قبيل التقليد للحداثة الغربية التي عرفت ما بعديات انقلابية، فعلى غرار ما بعديات عديدة أهمها : 1- الحداثة ـ ما بعد الحداثة ( التي تشكل انقلابا مفاهيمياً على الحداثة نفسها ) 2- ماركس ـ المدرسة النقدية (التي أعادت قراءآت ماركس ضمن واقع اجتماعي أروربي مغاير لواقع أوروبا أثناء صياغة ماركس للماركسية). إذ نجد أنفسنا أمام نوعين من البعدية هي مابعدية فكرية تتمثل في (ما بعد الفكرة أو الحداثة)، ومابعدية شخصية (إعادة قراءة للشخص أو لماركس ) ؛ على أن مالك بن نبي يحمل المشروعين ( الفكرة ) كتمثُّل فردي للمشروع الإجتماعي و(الشخص)كرؤية فردية ذاتية، واجتماع المشروعين هي حقيقة إبستيمولوجية ينفرد بها مالك بن نبي وطبيعة مشروعه تتمثل في الوحدة بين البناءين الفوقي والتحتي ضمن مشروع فكري واحد، وهو ما افتقدته التجربة الغربية ومشاريعها الفكرية والفلسفية على إبداعيتها. عندما عانى ماركس ليترجم الواقع الإجتماعي الأوروبي من أجل العدالة خرّج نقده للمشروع الرأسمالي، التذي تحول إلى مشروع سياسي اشتراكي، ورأينا الأخطاء التي أوقعت المجتمع الأوروبي في نهايات مؤلمة بما خلفته من تعفّنات على مستوى النظم السياسية والقيم الاجتماعية، وهو النظام الذي نقل إلينا فأحدث آلاما مضاعفة لما خلفته في أوروبا لكونها لم تكن موطن المعاناة الماركسي، على أن ماركس كونه حاملا لخلاصة المجتمع الأروربي لم يكن مدركا لخلاصة طبيعة الاجتماع الإنساني عندما قرّر بأنه من الممكن توحيد توزيع الثروة بين الأفراد، أما نقل الخيار الاشتراكي إلينا فقد ضاعف الآلام لعدم التوافق بين الجانبين (الخصوصية الاجتماعية كواقع) و(الطبيعة الإنسانية كنظرية)، وعموما تعد الثغرة الماركسية المتمثلة في عدم إدراكها للطبيعة الإنسانية سببا رئيسا أدى بها إلى ابتكار نظام اجتماعي لا يتجاوب والمتطلبات الفطرية للإنسان، وهو ما أدّى إلى تمفصله عن السيرورة الاجتماعية التي خالها آيلة إلى نهايات هي بالنسبة إليه حتمية. أما الحداثة كمشروع اجتماعي (وماركس جزء منها) فمنذ انطلاقه وهو يشهد بداخله تطورات مبنية كلها على النفي والتناقضات بسبب إهمالها جانب الطبيعة الإنسانية المتمثل في التمايز المتكامل بين أفراد المجتمع، فالحاضر ينفي الماضي والتجريب ينفي العقلانية والمثالية تنفي الوضعية... الخ، الأمر الذي أدى إلى ولادة علوم بأكملها داخل أطر مدرسية مثل علم الاجتماع الذي ولد بين أحضان المدرسة الوضعية (سبنسر، كونت ودوركايم) وهي المدرسة التي تبتر الزمن لتدرس الظواهر الاجتماعية، وكأنها لا توجد إلاّ وحدها في الوجود لتنفي العوامل التاريخية والنفسية والجغرافية والسياسية وغيرها، وعلم اللغة الذي ولد بين أحضان المدرسة البنيوية على يد (السويسري فيرديناند دو سوسير) المدرسة التي تحولت إلى فلسفة تسحق الإنسان الفرد وكأن لاوجود له، ولا تراه سوى دمى تحركها أياد خفية لا فعالية لها خارج القانون البنيوي، وهذا بوجه عام، وأما الديمقراطية والحرية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان فما هي في الحقيقة إلاّ ممارسات وآليات تطبيقية لا تتطابق والمنحى الفكري العام، بل ويتناقض معه هدفها حفظ المجتمع من الانفجار وفق نزعة براغماتية، وهو ما يؤكد ما أوردناه بشأن الماركسية حول الفصل بين النظرية والواقع. تؤلف الوحدة البنائية للفكر البنّابي في جوهرها بين متابعة سيرورة المجتمع على أساس إدراكه للطبيعة الشرطية الإنسانية واحترامها، وكذا إدراك لتكامل العوامل وتظافرها لإنتاج الظواهر الاجتماعية، وبين اعتبار مدرسة أو اتجاه على أساس كونه مجرّد مقاربة تحاول معرفة بعد معين من الظواهر المدروسة على اختلافها التخصصي، أو المنهجي والموضوعي، أخيراً، وكنتيجة تأليف كل ذلك مع وحدة الفكر والممارسة. فمالك قد مارس دور الأمة الإبراهيمي عكس ماركس الذي مارس دورا معاكسا أسميه بدور(إبراهيم الأمة)، ولو جاز لنا أن نُعمِل فكر بن نبي هنا لقلنا أن ماركس قد وقف وراء المحراث، عكس مالك الذي أدرك الموقع الصحيح على اعتبار المحراث يمثل سيرورة المجتمع وبالتالي فعلى المفكر السير والتفكير بحسبها. فالطرح المابعد بنابي ينأى بشكل آلي عن الطرح المابعد حداثي لكون الروح البنابية مفارقة للروح الحداثية نفسها، ففكرة المابعد نفسها تطرح كنتاج واقعي يتحول إلى نتاج نظري ومعرفي تقوم بتوجيهه الوجهة التي تراها سليمة. وهو الأمر الذي لا يخوِّل لنا الحديث عن ملامح الممارسة ما بعد البنابية فهي ملامح ستتحدد بالتعين الواقعي لها أولا ؛ إلاّ بما هو استقراء نظري لما بعد بنابية كممارسة ثقافية وهو ما سنكرس له المبحث الموالي.
إن الحديث عن مرحلة ما بعد مالك بن نبي لا تعني تكرار الموروث الفكري البنابي ولا حتى استعمال مفاهيمه كأدوات تحليلية ولا الحديث عن ابتكارات وإبداعته ولا قراءتها ضمن ظروف مستجدة!؟ فالممارسة المابعد بنابية تقتضي أول ما تقتضي الاستيعاب النظري للمنهج المعرفي الذي صدر عن بن نبي، مما لا يعني ضرورة الإطلاع على منتوجه الفكري الخاص به، بما يمنح هذا الاستيعاب لصاحبه قدرة على التحليل والإبداع ربما بأكثر من القدرة البنابية نفسها !! وإمكانية استيعاب مالك فكريا من غير قراءة تراثه بغض النظر عن المصدر الآخر الذي يمكن من استيعاب الفكر البنابي، وهو من زاوية معينة تفسير للفكر البنابي نفسه. فمفاهيم من قبيل القابلية للإستعمار، الفعالية، وعالم الأفكار والحضارة إنما هي صياغة بنابية للحقيقة الواقعة التي عايشها بن نبي والتي توصل إليها بعد معاناته من أجل اكتشافها سواء كان ذلك بعمق تحليلي باستعاناته بمناهج العلوم الإنسانية أو نموذج توجيهي باستعانته بالقرآن، وبالتالي فالممارسة مابعد البنابية تنطوي على استيعاب ضمني غير مصرح به للمفاهيم البنابية، وهو ما يفترض أن النسق المفاهيمي البنابي، هو نسق مؤتلف في إطار وحدة عضوية لا تتجزأ، ولا تنفصل مفاهيمها عن بعضها البعض، والواحد منها يتوافق مع باقي المفاهيم، سواء من الناحية الوظيفية بحيث يمكن توظيفها في إطار تحليلي مؤتلف؛ أو من الناحية البنيوية من حيث تشكيلها في النهاية لنسق نظري واحد. المشاريع الفكرية المنجزة في العالم العربي ونذكر منها (نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري، من العقيدة إلى الثورة لحسن حنفي ومشروع الماركسية الموضوعية لعبد الله العروي) لا تدخل كذلك كممارسة مشاريعية ما بعدبنابية على غزارتها المعرفية وفذاذة تحاليلها؛ لكونها لا تستلهم المنهج المعرفي البنابي وركونها إلى المرجعيات المستعارة، باعتبار (مشكلات الحضارة) "مشروعا ثقافيا". كما أن البنابي الأول وهو المفكّر السوري جودت سعيد فتأتي إسهاماته المفتوحة (على بساطتها وتواضعها الفكري ) كواسطة بين البنابية وما بعدها لما لها من قدرة فكرية إستشعارية للمستقبل الفكري خاصة في سلسلة مؤلفاته " أبحاث في سنن تغيير النفس والمجتمع " وكتاب كن كابن آدم، فمن جهة كونه بنابيا بإرتباطه بالنسق المفاهيمي البنابي وأفكاره الكبرى خاصة القابلية للإستعمار، وأما من حيث كونه ما بعدبنابي هو تواضعه الفكري وتشجيعه الشباب على الإبداع. فالمممارسة مابعدالبنابية تقتضي إنتاج أنساق نظرية تستلهم الروح البنابية في تحاليلها وعمقها وكذا الغوص في القضايا محل المعالجة والبحث والتفكير فيها بالمستوى الزمني الذي تطرح نفسها به مختلف تمام الإختلاف عن المرحلة الزمنية لمالك وهي مرحلة (مابعدمالك) مفتوحة على التعقد والتشابك النوعي والكمي معا. فهي ليست أي إبداع ولا أي استلهام، فهو إنتاج ينطلق لا من همّ ثقافي مجرد بل من استشعار ذاتي للأزمة الحضارية (= الثقافية الأخلاقية) للإنسان المعاصر أو كما يعبر عنه بالقلق المعرفي، فالقضية لاتنتهي في حدود التفكير المجرّد والإحساس بوجود هوة ثقافية بيننا وبين "الغرب" تتمثل في الحاجة إلى عهد أنواري عربي إسلامي (مشروع حداثة) وجب العمل على إنباته دون توفر ظروف وضرورة اجتماعية يكون إقامة مشروع معرفي يوجهها كما حدث في الغرب ذاته، أو من الجهة المقابلة هو سعي لإحياء أفكار تستشعر أهميتها والبقاء في فلكها إلى درجة الإنقلاب عليها نفسها؛ فهي مجتمعة إن تخلصت من الإبتذال فحتما ستقع في آفة التسييس الذي يجهد صاحبه فيه نفسه من أجل الترويج لأمر في نفسه وهو ما ينسحب على كل ممارسته الثقافية، فتصبح بذلك غالقة على نفسها أبواب المعرفية للدخول في سجن الأدلجات المظلم !! وهو ما يجعل صدرها لا يتسع حتى لنقد ذاتها. أما الممارسة المابعدبنابية الأصيلة فتنتهج ممارسة ثقافية نابعة من أصالة الأزمة المعرفية المعاصرة والتي تندرج البشرية قاطبة داخلها، تنطبع في نفس ممارسها إذ يرتبط فيها انشغاله الثقافي بانشغاله الأخلاقي على اعتبار أن الثقافة ليست ترفا ولا متعة عقلية وإنما باعتبارها تكليف إلهي !!
تاريخ النشر : 03-04-2005
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.