|
|
التجديد والنهضة . إتجاهات الإصلاح |
|
|
|
. تأتي هذا العام مئة سنة على وفاة الشيخ محمد عبده، الذي توفي عام 1905 . وقد بدأت جهات عربية وأوروبية وأميركية تعد لمؤتمرات بمناسبة هذه الذكرى. ويعمد أكثر الواعين إلى مراقبة مسار الإصلاح بعد محمد عبده، ولماذا فشل (في نظر البعض) أو تحوّل باتجاهات إحيائية. وقد رأيتُ دائماً أن الإحيائية الأصولية ما كانت أبداً استمراراً لإصلاحية عبده، بل هي قطيعة معها. وقد استندت في ذلك دائماً إلى أن إشكالية عبده وزملائه وتلامذته كانت كيف نتقدم، بحسبان أن ذلك هو ما ينقصنا أو ما يحول بيننا وبين أن نكون أنداداً للغرب نستعصي على هيمنته واستعماره. ومحمد عبده ليس بدعاً لهذه الناحية، فهذه كانت وجهة نظر رفاعة الطهطاوي أيضاً، ومنذ كتابه الأول (1831): تخليص الإبريز. بيد أن الفرقَ بين عبده والطهطاوي (الذي عرفه عبده في القاهرة عام 1867 عندما جاء للدراسة في الأزهر) أن الأخير ما كان يرى ضرورة للإصلاح الديني، بل الضروري تجاوز التأخر في الصناعة والتجارة والزراعة، أما الدين فلا يشكو من شيء حتى يحتاج إلى إصلاح. ولا ندري ماذا كان رأي الطهطاوي (ت 1883م) في احتلال البريطانيين لمصر، أما عبده فقد كان رافضاً في البداية، ونُفي وتعذّب من أجل ذلك، كما يصيب أي مصري يغادر أرض الكنانة - ثم اتبع نهجاً آخر لا يجعل من مقاومة الاحتلال أولوية عكس ما كان شأن معاصريه في الحزب الوطني مصطفى كامل ومحمد فريد. وعلى أي حال، فإن إشكالية الإحيائية الإسلامية التي تفجرت في حقبة ما بين الحربين هي الحفاظ على الهوية، ومكافحة التغريب: وهذا يعني عكس ما كان يقصده عبده تماماً. فقد كان الرجل مؤمناً بفكرة التقدم الغربية، وعاملاً بكل وسعه على نشر المعارف الحديثة، ومتحركاً في قضايا المرأة، وفي الشأن العام، وفي إصلاح الأزهر، وفي إنشاء الجمعيات من أجل نشر الوعي الحديث، ومن أجل طباعة المؤلفات التراثية القيّمة. لكنه ومرة أخرى مثل الطهطاوي، وسائر النهضويين من حيث عمق إيمانه بالتربية. ومن هنا كان عمل هؤلاء جميعاً على إقامة النظام العام للتعليم، الذي يعتبر الطهطاوي رائده إلى حد بعيد. ولا ننسى أن محمد عبده، عندما جاء إلى بيروت منفياً، اهتم أول ما اهتم بكتابة لائحة إصلاحية للتعليم في الامبراطورية العثمانية. وقد نبّهني الصديق الدكتور رضوان زيادة إلى أن نهضويي عبده يدعون إلى الإصلاح، في حين يدعو مفكرو الهوية الإسلاميون والقوميون إلى الإحياء والتجديد. وهم يقصدون بذلك إلى أن النهوض ينبغي أن يكون ذاتياً داخلياً لتعلقه بالهوية والخصوصية. وهذا فارق أساسي، وهو تابع لما ذكرتُهُ من قبل من أن إشكالية أولئك: التقدم، وكيف يتحقق، في حين يريد الإحيائيون صوناً للهوية من طريق الاجتهاد والتجدد الذاتي. وهناك مسألتان تتصلان بالإصلاح. الأولى ماذا كان يعنيه عبده به، وبخاصة ما تعلق منه بالدين. كان عبده مفتي مصر، ويطمح ليكون شيخاً للأزهر، لكنه لم يستطع، بسبب كراهية الخديوي عباس الثاني له، ووجود معارضة قوية من شيوخ الأزهر الكبار له أيضاً. وما شرح هو في أي من كتبه القليلة برنامجه للإصلاح الديني، لكنه كان يريد تجاوز المذاهب الفقهية التقليدية، وضرب سلطة الشيوخ في الأزهر بحسبان أن الإسلام ليس فيه رجال دين. لكننا لا نعرف ماذا كان سيستبدل بالمؤسسة التي كان يراها فاسدة «ومتخلفة» ومرائية للخديوي. والذي نعرفه أن الأزهريين من تلامذة عبده توصلوا إلى السيطرة على الأزهر في ثلاثينات القرن العشرين من خلال الشيخ المراغي ونخبته، وقد تبنّوا وساعدوا الدولة على تبنّي كل أطروحات الإمام تقريباً. لكنهم عندما فعلوا ذلك كانت الظروف قد تجاوزتهم، وسيطر الإحيائيون (الإخوان المسلمون) في الشارع، وفي المؤسسات، وصار «الإصلاح» عاراً وليس ميزة، إذ اعتبره كثيرون تغريباً وغزواً ثقافياً. ويبدو أن محمد عبده الذي لم ينجح كثيراً في إصلاح المؤسسات، اتجه للإصلاح الفكري من خلال: إنشاء مجلة المنار التي حملت الدعوة الإصلاحية لسنوات لا بأس بها (في العام 1911 كانت ما تزال تقول بالدستور)، وفي الدين قبل الدولة. ومن خلال إلقاء دروسه في التفسير التي اشتهرت في ما بعد بسبب نشرها في مجلة المنار باسم: تفسير المنار. ومن خلال فتاويه باعتباره رجل الفتوى في مصر، وهي الفتاوى التي لم تتقيد بالمذهب الحنفي ولا بفقه المذاهب. ويريد كثيرون التركيز على جدالاته مع فرح انطون، وعلى كتابه: رسالة التوحيد. ولرسالة التوحيد أهمية ولا شك، لأنها كانت تريد التجديد في العقيدة الأشعرية. وهي العقيدة التقليدية عند أهل السنّة. وجدالاته مع فرح انطون حول طبائع الدين والإسلام والنصرانية مهمة أيضاً، لأنها تكشف عن حدود تسامحه، وعن تحديداته للهوية. والطريف انه هو وجمال الدين الأفغاني ما كانا في وعيهما العميق أن يعتبر الأوروبيين مسيحيين، بخلاف اعتقادهما في المسيحية الشرقية. ولذا ما كان عبده متسامحاً مع المسيحية بقدر تسامحه مع العلمانية الغربية، وربما كان لمسألة التبشير اثر سلبي لهذه الجهة. لكن ومرة أخرى ما كان المبشّرون من المسيحيين العرب أو الشرقيين. وقد زايد السيد رشيد رضا بعد وفاة عبده لهذه الناحية، بيد أن الأمر تركّز على مجادلة المسيحية الغربية بتياريها البروتستانتي والكاثوليكي. وكانت لمدرسة المنار توجهات في ذلك خدمت قضية الحوار بين المسيحية والإسلام. على أن الأهم من رسالة التوحيد، ومن الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، دروسه في التفسير. وهي تتضمن عدة أفكار أساسية كانت شائعة في عهد الإمام، لكنه أعطاها مشروعية الإفتاء: القرآن كتاب العقل والمنطق، والقرآن يقول إن الكون وعالم الإنسان يقومان على أسس وقوانين لا تتراجع ولا تختل، وأهمية الإسلام تتجلى في إقامة مدنية تتوافر لها شروط البقاء، ونظام الحكم في الإسلام مدني، أي أن الإسلام لا يملك نظاماً دينياً للسلطة، والتشريع يمكن استنباط الكثير من أصوله وقواعده من القرآن وبالعقل. وهذه العجالة لا تفي نهج عبده النهضوي في الدين حقه. لكن هناك المسألة الثانية المطروحة اليوم، ولا نستطيع معرفة رأي عبده الواضح فيها: الأولوية للإصلاح الديني أم السياسي؟ عبده كان مفتياً لمصر. ومن الطبيعي أن يهتم بإصلاح الفكر الديني والمؤسسات الدينية. لكن في الوقت نفسه كان عضواً في مجلس شورى القوانين، أو ما يُعرف بالمجلس التأسيسي، وما كان منتخباً لكنه كان يملك صلاحيات. وكان له رأي واضح في النظام الخديوي، وفي الدولة العثمانية. وكان يتعامل مع لورد كرومر إيجاباً وسلباً. ولذلك فلا ينبغي أن يغرّنا لعنه للسياسة، ولا حملته على عُرابي عندما عاد من منفاه. علة رجل الدين في نظر عبده الجمود، أما علة رجل السياسة فالجهل وعصبية المصالح. ولذا فالأرجح انه كان يرى في البداية أن المهم ألا يعتقد رجل العمل العام أن الإسلام عقبة في طريق التقدم. ثم اعتبر أن المؤسسة الدينية هي العقبة في طريق نهوض الإسلام، وليس للإسلام مشكلة حقيقية مع الدولة، باستثناء سطو الخديوي على الأوقاف. ويذكر تلامذته مثل قاسم أمين وسعد زغلول أنه كان يشجعهم على العمل السياسي، وعلى إنشاء الأحزاب. والمؤسف انه توفي قبل إنشاء الحزب الوطني (1906)، وحزب الأمة (1908). وآل عبد الرازق (مصطفى وعلي) وهما من محبيه، يقولان انه كان متعاطفاً مع حزب الأمة، الذي تطور إلى حزب الأحرار الدستوريين. بيد أن الراجح انه ما كان لينتمي إلى أي حزب، ليس بسبب موقعه الرسمي، بل بسبب إصراره على أن يكون للجميع، ونعرف أن مصطفى كامل تهجم عليه، لكنه لم يرد. لكن، مرة أخرى: إصلاح ديني أم إصلاح سياسي؟ أم هما معاً؟ الأرجح انه كان يرى اقترانهما، لكن الإصلاح السياسي تقدم وصار الطريق واضحاً، بينما لا يزال الإصلاح الديني في خطواته الأولى، ولذا فهو يتطلب جهوداً اكبر. مئوية محمد عبده، باعث على اهتمام جديد بالنهضة ومصائرها، وبضرورات الحاضر وبأهمية الإصلاح الديني في مكافحة الأصولية المقبضة، والتشدد المشكل.
تاريخ النشر : 26-11-2005
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.