آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

إصلاحية محمد عبده (1849 – 1905م) بعد مرور مئة عام

عبد الرحمن الحاج



. حتى وقت قريب رؤي خطاب الإصلاح الديني (وإصلاحية عبده على وجه الخصوص) على انه خطاب سلفي متدثر بشكلانية حداثية، اقرب ما يكون الى تنويرية كاذبة، وتارة أخرى رؤي على انه تنوير حقيقي يحاول مقاربة مفاهيم عصر الأنوار الأوروبي، ويحاول توطينها في تربة الثقافة الإسلامية، بحيث تبدو كما لو انها جزء من الإسلام نفسه! فلم تكن عملية الإصلاح «إلا عملية تسويغ لقيم الحاضر بإسقاط غطاء تراثي عليها، والذي يحدث عملياً ان الحاضر يفرض قيمه ويُلزم بها (...) عملية الاستلهام (هذه) هي اصلاً وابتداء عملية مصطنعة او تسويغية» (على حد تعبير بعضهم). وباستثناء بعض الدراسات التي ظهرت في السنوات الأخيرة فأنه يمكن القول ان ثمة مشكلة حقيقية في فهم خطاب الإصلاح الديني في الفكر العربي، الديني منه والحداثي على السواء. والطريف في الأمر هنا أن معظم الذين تحدثوا عن قضية الإيديولوجيا في الفكر العربي كانوا هم أنفسهم ايديولوجيين في الغالب!
لقد شكل خطاب الإصلاحية عموماً نقلة على مستوى خطاب النهضة، الذي برز مع الشيخ حسن البيطار وتلميذه رفاعة الطهطاوي وأيضاً خير الدين التونسي، إذ كان خطاب النهضة يفرز بشكل حاد بين تقدم الغرب «المادي» وتقدمه «المعنوي» ويتم النظر الى الشق المعنوي أنه في حال نقصان لدى الغرب في مقابل تمامه لدينا، فالتصورات الإسلامية الدينية هي تصورات كاملة، أليس الدين هو الرسالة الخاتمة للعالمين؟ هنا نشهد تطابقاً «بدهياً» بين «الدين» نفسه وبين «فهم الدين»، اما الشق المادي فالغرب فيه متفوق او «متقدم»، ونحن «متأخرون» في واقع الحال الذي لا يحتاج إلى برهان وجدال.
مع إصلاحية الأفغاني وعبده انتقل التفكير الى توسيع مدى الأزمة، لتطال الشق المعنوي نفسه، فأصبح مطلوباً بقوة حصول تغييرات في البنية الذهنية لتكون شرطاً للتقدم المادي وتحقيق النهوض، ان ثمة رؤية للعالم تشكلت ولا بد لدى الإصلاحية كانت سبباً في هذا التحول للخطاب، ذلك ان وظيفة رؤية العالم (التي تكون دائماً في تحول متراخ ولكنه مستمر) ان تزودنا بالإطار الذي نفهم به الأشياء وذواتنا معاً ضمن كل موحد يمنح كل تصوراتنا وسلوكاتنا التفصيلية معنى خاصاً.
الواقع ان خطاب الإصلاح الديني في جوهره محاولة تحقيق الاعتقاد الراسخ بـ «صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان»، أو «العودة الأبدية» في الانثروبولوجيا الدينية (على حد اصطلاح مرسيا إلياد)، ومحاولة العودة هذه تلخص محنة الدين مع الأزمنة الجديدة وتحديه لها، فهو خطاب يسعى للنجاة من ازمات العصر، وتبعاً للأزمات وطبيعتها، وبنية الدين نفسه، ودور «النصوص المؤسسة» فيه يتشكل خطاب إصلاحي يعكس بوضوح هذا التشابك بين العصر وبنيته الدينية الأصلية. ولأنه خطاب ملاءمة وتوافق مع العصر فإنه خطاب تأويلي بامتياز، إذ التأويل هو أساس تشكيل رؤية جديدة للدين وعلاقته بالعالم. من هذا المنظور فإن الخطاب الإصلاحي للشيخ محمد عبده ومدرسته يبدو خطاباً تأويلياً، يسعى الى «مقاصد» محددة، تُختصر في جملتها تحت «مبدأ الملاءمة» مع العصر (الإصلاح)، تأويل للرؤية الدينية التقليدية التي اصبحت بمنزلة «النص» الثاني والشارح المعتمد للنص الأصلي (الوحي)، بحيث أصبح تصور الدين وعلاقته بالعالم يمران عبرها، اذ يضع نفسها في المسافة بينه وبين النص الديني المؤسس (القرآن الكريم).
الإصلاحية ما كان بإمكانها ان تولد خطابها الجديد لو ان تحولاً في رؤية الآخر حدثت لدى مفكريها أولا، فمحمد عبده وقبله شيخه الأفغاني تواصلا مع العقل الأوروبي عبر مصادر كان لها الدور الأبرز في توجهاتهما الإصلاحية، والتي تبلورت لدى محمد عبده على نحو مركّز، فأساس فكرة الإصلاح الديني لديهما يرجع إلى اطلاعهما على تجربة الإصلاح البروتستانتي في أوروبا، عبر كتاب فرانسوا غيزو «تاريخ الحضارة في اوروبا»، الذي ترجمه صديقهما حنين نعمة الله خوري بعنوان «التحفة الأدبية في تاريخ الممالك الأوروبية» عام 1877م، الذي يقيم علاقة علية بين الإصلاح الديني والنهضة الأوروبية الحديثة. وبتصوري ان خطاب الإصلاحية الذي آمن بهذه العلية منذ تاريخ صدور كتاب غيزو لم يدخل في تحولات عميقة، وبقيت كل التطورات اللاحقة في الخطاب الإصلاحي بمنزلة ترميمات تفصيلية على هذا الخطاب العام، وهكذا يلخص عبده رؤيته قبل عامين من وفاته (أي عام 1903) الإصلاح من اجل النهضة قياساً على الغرب: «قد قام في المسيحية مصلحون يرون إرجاع الدين إلى أصل الكتب المقدسة، ويبيحون للعامة ان ينظروا فيها ويفهموها، وقد رفعوا تلك السيطرة عن الضمائر والعقول. ومنذ عهد ظهور الإصلاح (الديني) والرجوع الى اصول الدين الأولى بزغت شمس العلم في الغرب، وبسط للعلم بساط التسامح» (الإسلام والنصرانية: بين العلم والمدنية).
الغرب مجملاً لم يُر في منظار عبده إلا من خلال الدين، وعبده في كل حال عالم دين، فليس غريباً ان تأسره هذه الرؤية، وعلى رغم ان مكتبة محمد عبده تشير الى وجود اسماء كبيرة من عصر الأنوار الأوروبي وما قبله، من أمثال عمانؤيل كانط، وهربيرت سبنسر، وجان جاك روسو، جيل سيمون، وأرنست رينان، وغوستاف لوبون، وفرانسوا غيزو، وغيرهم، وخصوصاً صديقه المستشرق الانكليزي ولفرت بلنت (1840 - 1922)، إلا ان هذه الأسماء لم تكن هي التي صاغت رؤيته للآخر، بقدر ما كانت هذه المراجع بالنسبة الى الشيخ محمد عبده طرقاً كاشفة لملامح النهضة الأوروبية ومساراتها التي أفرزها الإصلاح الديني، انها أشبه بالدليل الإرشادي المتخصص الذي يشرح له امتدادات فكرة النهضة بناء على التنوير الديني منها بالتثاقف او التفكر أو التحاور الفلسفي العميق.
لكن تمام الرؤية الإصلاحية لا تكتمل الا مع صورة المسلمين، التي تبدو وفق المنظار نفسه كالحة تدعو للشفقة، وبحسب تعبير عبده نفسه: «لم أرَ كالإسلام ديناً حفظ أصله، وخلط فيه جنه، ولا مثله سلطاناً تفرق عنه جنده، وخُفر عهده وكفر وعيده ووعده، وخفي على الغافلين قصده، وإن وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خشارة (الرديء وما لا خير فيه) من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا نسبهم بسببه، وقالوا: نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأمن الرأي من صحة الحكم»، لقد استسلم أهل الإسلام الى الدعة، فوقعوا في الجمود في كل شيء، من اللغة الى العلم الى النظام والاجتماع الى الشريعة ذاتها بله العقيدة، فمجالات ممارستها في التعليم والتعلم. انها حالة انحطاط شاملة، مركزها «الجمود».
صحيح ان اصلاحية عبده آلت في تلامذتها الى التحلل الى عناصر حداثية (متمثلة في أفكار قاسم أمين ولطفي السيد وسعد زغلول وغيرهم) وأخرى سلفية (متمثلة في شكل خاص في السيد محمد رشيد رضا)، لكن ذلك لا يعني انها انتهت بعودة توفيقية عبده الى أصلها، فقد بقيت روحية الاصلاح الديني متوقدة، وبقية هناك دوماً من يحمل جذوتها (مصطفى عبدالرازق، والمراغي، والشلتوت، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وأبو زهرة... وغيرهم)، غير ان الشيء الذي كان يتغير دوماً هو بعض جوانب رؤية العالم في كل مرة، لكنها جوانب لم تؤثر في جوهر الرؤية العميق للعالم. 
لكن تحليلات إصلاحية عبده (وشيخه الأفغاني) وأصول أفكارها ظلت بالغة التأثير كما هي الى اليوم، وقد طاولت الفكر العربي الإصلاحي الحداثي ذاته، فبدعة «القياس التاريخي» أو المقايسة على المسار الأوروبي التاريخي للنهضة ابتدأها خطاب الإصلاحية، وهي الى اليوم لا تزال للتفكير الحداثي العربي في النهضة، وذلك على رغم أن مسارات الفكر الحداثي (في «ما بعد الحداثة» تحديداً) انتهت الى نقض المفهوم التقدمي للتاريخ في شكل قاطع.
ثم إذا كان الحداثي العربي قد استأثر بالمقايسة التاريخية من تركة إصلاحية عبده فإن الإصلاحي الديني الذي تخلى كلياً عن هذه المقايسة والسير على الخطى اللوثرية منذ مالك بن نبي (الذي تحدث عن مشكلة حضارة) مروراً بعلي شريعتي (في كتابه: الأمة والإمامة) وحتى اليوم، في مقابل ذلك احتفظ خطاب الإصلاح الديني بمنطق الإسقاط الذي مارسه عبده في تفسيره للقرآن (جزء عم، وتفسير المنار)، ورسخت هذه القاعدة بقوة مع تفسير سيد قطب «في ظلال القرآن»، ولعلها لاقت صدى خاصاً لدى الإسلاميين فهي الأداة الأكثر تأثيراً في إشاعة إيديولوجيا دينية مفارقة للخطاب الديني التقليدي.
 

 

تاريخ النشر : 10-12-2005

6373 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com