آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

النخب والوعي السُـنَنِي :مالك بن نبي و محمد عبده: قراءة خلدونية للنهضة.

احميدة النيفر


 *من الإصلاح إلى الوعي التاريخي. 

إذا كان مولد مالك بن نبي سنة 1905، ذات السنة التي توفي فيها الإمام محمد عبده فإن أوّل ما يمكن أن يطرح من الأسئلة هو : هل تواصل مع مالك سؤالُ النهضة العربية الذي اعتنى به رجال الإصلاح الديني ؟ 
ما تبرزه لنا ابتداءً قراءة كتابه "وجهة العالم الإسلامي" في سلسلة "مشكلات الحضارة" هو هذا التموقع الفكري الذي يحرص على إبرازه حين كان يتناول مسألة النهضة التي تولّى الإصلاحيون العرب تركيزها في القرن التاسع عشر. 
في هذا الأثر المنهجي ندرك نوع العلاقة النقدية التي حرص مالك على إرسائها مع الفكر الإصلاحي. يتضح هذا في تقويمه لأبرز الوجوه الإصلاحية حين يقول عن السيد جمال الدين " إنه نهض سياسيا أكثر مما نهض فكريا وإنه اندفع بطاقته الفطرية أكثر مما اندفع بطاقته النظرية رغم أنه موهوب فكريا" (1).
يضيف بعد ذلك في مقارنة مع الإمام محمد عبده فيقول عنه: " إنه أصاب بعض جوانب مشكلة النهضة ولكنه أخطأ في تطويرها تماما" .
حين ندرس موضع ابن نبي الفكري ندرك أنه في علاقته بالمدرسة الإصلاحية يختلف مع الفريقين البارزين اللذين عالجاها طوال القرن العشرين. هو لا يتفق مع الخط السلفي الذي يهمل أيَّ تواصل مع الفكر الإصلاحي و لا يجاري أيضا ما اعتاده الآخرون من توظيف قسري لجهود الإصلاح مع نزوع تمجيدي إيديولوجي واضح.
ينطلق موقف مالك بن نبي من إقرار بأن الإصلاحيين أحدثوا هزة عميقة للضمير المسلم وأنهم في اعتمادهم اختيار الإصلاح الديني والمرجعية الثقافية الإسلامية قد وفّروا أول شروط إنقاذ المجتمعات المسلمة.
لكن هذا لم يمنعه من قراءتهم قراءة نقدية ترتكز في المقام الأول على أطروحة الزمن الثقافي ، المقولة التي تناولها في كتابه الثاني:"شروط النهضة" حيث اعتبر أننا في " العالم الإسلامي نعرف شـيئا يـسمَى الوقت لكنــه الوقـت الـذي يــنــتـهـي إلـــى عـــــدم ، ولـسنـا نعـرف إلـى الآن فكرة الزمـن الـتــي تـــتّـصـل اتـصالا وثــــيقــــا بالتاريـخ" (2) .
ما غاب في التوجه الإصلاحي هو هذا الوعي التاريخي الممسك بسيرورة الحضارة الإسلامية وبالخصوصيات التي توقف المثقفَ على العوائق الخاصة التي تمنحه امتلاك زمام واقعه الإسلامي. 
هي ذات المقولة التي سيطوّرها بعد مالك مفكّران مغاربيان معاصران هما عبد الله العروي و محمد عابد الجابري.
هذان العلمان وإن اعتمد كل واحد منهما أدوات تحليلية أكثر دقة ميّزته بتمشٍ منهجي خاص، فإنهما يَدينان بشكل واضح لمالك بن نبي حيث أولى مسألة التحقيب التاريخي أهمية عند تحليل الجهود الإصلاحية ونقدها.
لقد بدأ مالك بمسألة " مجتمع ما بعد الموحدين" ليحدد الإحداثيات التاريخية الضرورية التي تضبط مرحلة الانهيار لحضارة المسلمين وعواملها الذاتية أساسا. في مجتمع "ما بعد الموحدين" نكتشف بجلاء العجز الحضاري الذي حوّل بغداد من مركز الشرق الوسيط و القيروان عاصمة للأغالبة إلى معالم أقرب للخراب. مع هذا الاكتشاف تتوالى الأسئلة الباحثة عن الأسباب والسنن. 
بعد مالك أصبح مشروعا أن يقول العروي إن الإنسان كائن تاريخي إلا أنه لم يع تاريخيته إلا مؤخرا أي أن للوعي التارخي بداية لا بد من تحديدها.
في الاتجاه ذاته يرى الجابري أن الوعي العربي الإصلاحي يتميز باستبعاد الزمان من خلال المكان فيتعامل مع العصور المختلفة كجزر ثقافية تحضر إلى الوعي العربي حضورا متزامنا متداخلا. 
إنه جهد ركّزه العَلَمان المعاصران بعد ابن نبيّ للخروج من تداخل الأزمنة الثقافية ومن الضبابية التي تقود من المعقول إلى اللامعقول ومن اليسار إلى اليمين مما يجعل الوعي التاريخي قائما على التراكم وليس على التعاقب وعلى الفوضى وليس على النظام.
هذا بينما ندرك حين نقرأ بعض ما دوّنه الإصلاحيون -قبل ذلك- عن الإصلاح أخذهم بمقولة "السديم الثقافي" التي سادت الفكر الإحيائي خاصة والإصلاحي عامة قبل مجيء مالك بن نبيّ ثم ما تأكّد بعد ذلك من جهود العروي و الجابري (3). 
لمواجهة مثل هذه الإطلاقية، التي ميّزت خطاب القرن التاسع عشر و جزءا من القرن العشرين بل والتي ما تزال متحكّمة في فئات هامة من المعتنين بالشأن العربي العام اليوم، قدّم مالك بن نبيّ أطروحة الزمن الثقافي التي دعّمها بالمسألة الحضارية وأولوية الفاعلية الثقافية على ما عداها من العوامل التاريخية الأخرى. 
بهذا التموقع الفكري يمكن القول إن مالكا دشّن مرحلة جديدة في الوعي العربي تريد أن تضع حدّا لـتيه الفكر الإصلاحي عبر الزمان الثقافي وعلاقته اللاتاريخيه بالماضي. 

*الفكر السُنَني وظهور خطاب جديد . 

كان انطلاق الفكر الإصلاحي في المجال السياسي والحضاري قائما على سؤال مركزي: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟ 
هذا السؤال كان في جانب منه تعبيرا عن وعي بالتخلّف وحرصا على ضرورة استيعاب إيجابيات الآخر. 
ضمن هذا التوجه يمكن أن نتناول جانبا ثانيا من فكر مالك بن نبي في علاقته بالتوجه الإصلاحي الذي ارتبط به وطوّره بصورة لافتة عندما حرص على الإجابة عن ذات السؤال المركزي للإصلاح معتمدا على إحدى مقولاته التي طوّرها عبر منهج جديد.
لإضاءة هذا المجال ينبغي التأكيد على أحد الأسس الفكرية للإصلاحيين ألا وهي قضية العلم التي اعتُبِرتْ أحد العناصر الأساسية للنهوض الأوروبي. في مقالة شرح الشارح للأفغاني نقرأ ما يلي : إن جهل الشرقيين أدى إلى انحطاطهم بقدر ما أن العلم ساعد الغربيين على السيطرة عليهم وما كان بمقدرة الغرب أن يقوم بالفتوحات التي قام بها بدون معارفه.إن ملك العالم ليس ما نراه من ملوك إنما هو العلم ".
أما الإمام محمد عبده فقد حدّد من جهته في محاضرة شهيرة ألقاها في تونس سنة 1903 معنى العلم فقال: " [إن الله ] يخاطب في كتابه الفكر والعقل والعلم بدون قيد ولا حدّ [أما نحن فعملُنا ] منافٍ لما كتبه أسلافنا وما تركوه من جواهر المعقولات في الكتب النفيسة المستودعة بخزائننا التي أصبحت ليومنا أكلة للسوس و فراشا للأتربة ..." (4). 
على هذا فإنه لا يكاد يخلو حديث لأحد رجال الإصلاح من إثارة هذه المقولة التي اعتُمدت مدخلا أساسيا لمعالجة انحطاط المسلمين. يقول الشيخ عبده في محاضرته بالجزائر في ذات السنة التي زار فيها تونس والتي تناول فيها تفسير سورة العصر رابطا بين مقولة العلم وما تفضي إليه من تحميل الإنسان المسؤولية و ضرورة اتخاذ الأسباب: " العصر هو الزمان الذي تقع فيه حركات الناس وأعمالهم كما قال ابن عباس ...يتوهم الناس أن الوقت مذموم فأقسم الله به لينبِّهَكَ أن الزمان في نفسه ليس ممّا يذمّ ويسبّ ...[ وأن ] أعمال الإنسان هي مصدر شقائه لا الزمان ولا المكان ..."(5). تأكيدا على نفس هذا الوعي السُنني يذهب العلامّة التونسي محمد الطاهر ابن عاشور - وهو من أشد المنافحين عن خطاب الإصلاح- إلى القول بأن " الله تعالى أنزل القرآن كتابا لصلاح أمر الناس كافة ....وأن الصلاح العمراني ... هو حفظ نظام العالم الإسلامي وضبط تصرف الجماعات والأقاليم ...ويسمى هذا بعلم العُمران و علم الاجتماع " (6). على نفس هذا المسار المؤكد أن للحضارة ثوابت ينبغي الوقوف عليها لتجاوز عوامل التعطّل يحدّد صلاح الدين القاسمي إحدى السنن المرعية للحضارة، فيعلن عن إجماع " العقلاء من العلماء قديما وحديثا على أن نهضة الأمم تتوقف كل التوقف على إشاعة العلم الصحيح بين ابنائها"( 7) .
ما يلفت النظر في هذه الشواهد وغيرها أن مقولة العلم عندما اعتمدتها المدرسة الإصلاحية شرطا من شروط النهضة لم تقف بها عند حدود السنن الكونية ومجال الاختراعات بل جعلتها تشهد تطوّرا في اتجاهين اثنين : 
- اتجاه أول عقلاني يقول بوحدة الأصل الإنساني و بقابلية كافة المجتمعات البشرية للانخراط ضمن خطاب جامع بينها يجعلها قادرة - من جهة- على استيعاب درجات من الرقي الفكري وقابلة –من جهة أخرى - لـــ" تطهير" جوانب من معتقداتها الدينية وإعادة النظر في قيمها الحضارية. كانت مواجهة هذا الاتجاه مع فقهاء التقليد ومؤسساتهم التعليمية والقضائية إضافة إلى مقاومة معلنة للتصوف وما ارتبط به من معتقدات تقديسية للأولياء.
-اتجاه ثان يعتمد الرابطة البشرية للعلم لينفتح بها على المجال الاجتماعي خاصة. 
هذه الوجهة ساهم فيها جانب من التيار الإصلاحي لمواجهة الخط المحافظ الذي لا يعتبر التمدن مفضيا إلى سَوْق الإنسانية في طريق اجتماعية واحدة. مؤدى مقولة العلم عند هؤلاء الإصلاحيين يجعل سبب التباين بين الأمم هو عدم الاهتداء إلى وضع حالتها الاجتماعية على أصول علمية . 
المؤكد أنه أيا كان الاتجاه الذي اتخذه الفكر الإصلاحي في خصوص قضية العلم فإن الوعي السنني الذي استقر عند النخب العربية في تعليل الانحطاط أتاح بصورة حاسمة إعادة النظر في جملة من المفاهيم الإسلامية من زاوية حاجات العصر. لذلك لم يبق هناك تناقض بين القول بنصرة الله للمسلمين وضرورة اتخاذ الأسباب الحضارية المحققة للنهوض. 
من هذا الباب جاز لنا القول بوجود وصلة بين بنية الفكر الإصلاحي وما انتهت إليه رؤية ابن خلدون(732- 808هـ/ 1332-1406) المقرّة بوجود أسباب للتمدن في المجتمع والتاريخ. 
فكما أن ابن خلدون قدم منهجية تتمثل في وقفة نقدية من الفكر السابق ولما أنتجه من المعارف وما اعتاده من طرق ومناهج فإن المدرسة الإصلاحية سلكت نفس المسلك مع المنظومة الفكرية والمعرفية السائدة في بلادها رغم أنها لم تتمكّن من تقديم إجابات للتحديات الأوروبية في الفكر والعلم. 
بالعود إلى المسيرة الفكرية لمالك بن نبي فإننا سنقف عنده على ذات الوجهة النقدية مع الوعي السُنني الذي أرساه الإصلاح في وقت كان معاصروه في المشرق خاصة قد أحجموا عن كلّ تواصل موضوعي مع نفس المنظومة خاصة بعد الصيغة التي تبنّاها الشيخ رشيد رضا.

* معاصرة المثقف الرائد : 

تمثّلت هذه الوجهة النقدية لمالك في تطوير نوعيّ لمقولة الإصلاح بالتنظير لأطروحة النهضة التي عالجها من زاويتين متفاعلتين هما : الآخر و الذات. من جدل هذين الطرفين برزت في أدبياته ثلاث مقولات للنهضة هي:
-1-أن الغرب ليس اختيارا -2 - الإسلام دين وحضارة – 3- طبيعة المعركة بين الذات والآخر هي فكرية-حضارية أساسا. 
يمكن إبراز أهمية هذه المقولات و الرؤية التي اعتمدها مالك حين نعمد إلى تنزيلها في مجال الخطاب المعاصر الذي يخوض منذ عقدين تقريبا سجالا حادّا عن صراع الثقافات أو حوارها.
لقد كان صاحب " حديث في البناء الجديد" حاملا لتوجه رائد لأنه كان قبل عقدين، على الأقلّ ، من "هنتكتون" ونظرية "صدام الحضارات" و من " فوكوياما " ومقولة "نهاية التاريخ" رافضا القول بإحدى النظريتين على وجه الإطلاق.
الواقع الموضوعي والوعي التاريخي جعلا مالكا يرى أن الصراع قائم إلى جانب الحوار في ذات الوقت ودون انفصال. لذلك فلا عجب إن رأيناه مهتما بالحضارة الإنسانية، تقدّمِها ومصاعبِـــها، مبيّنا ما يمكن أن يسهم به الفكر والثقافة الإسلاميان لفائدة الإنسان. من جهة أخرى لا يتردد في نقد المستشرقين محددا نقاط الاختلاف معهم في تشخيصهم لما يرونه اعترى الفكر الإسلامي من علل. فعل ذلك مثلا مع المستشرق الأنجليزي "جيب" مؤلف " الاتجاهات الحديثة في الفكر الإسلامي" الذي اعتبر أن الفكر الإسلامي عاجزٌ عن التركيب مغرقٌ في التجزيء و" الذرية". 
من هذه الناحية يكون ابن نبيّ تواصلا مع ما قال به الإصلاحيون الأوائل من ضرورة الفصل نظريا وعمليا بين الثقافة الغربية ومبتكراتها التقنية من جهة وبين السياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي من جهة ثانية. 
تحقق هذا باستيعابه للثقافة الأوروبية الحديثة وقيمها إلى جانب تمثّل الثقافة الإسلامية التقليدية. أضاف إلى هذه الخضرمة المعرفية تكوينا في مدرسة فرنسية للكهرباء وهندستها أتاحت له صرامة فكرية عندما اتجه بعد ذلك إلى معالجة مشكلات الحضارة. 
مع كل هذا كان – وهو وليد قسنطينة- " مريدا " مولعا بفكر رائد الفلسفة الاجتماعية و التاريخ، عبد الرحمن ابن خلدون. 
هنا ندرك أن أضافته بالنسبة إلى الإصلاح تعدّ إضافة نوعية فتجعله من أصحاب الرؤية (visionnaire) أو كما اختار هو أن يسمّي نفسه بتواضع: " شاهد قرن". كان يعي معنى هذه الشهادة و مستلزمات خطاب أصحاب الرؤى لذلك كان يقول " كل كلمة لا تحمل جنين نشاط معين فهي كلمة فارغة، كلمة ميتة". 
تتـــّضح صلاحية مقاربة مالك اليوم - وهو المتوفى سنة 1973- من ثلاثة أوجه: 
أوّلها أشرنا إليه حين ذكرنا أنه أرسى فكرة ترفض مقولة صدام الحضارات كما تُعرض في نفس الوقت عن دعوى حوار الحضارات. الأمران عنده لا ينفصلان، هو حوار وصدام معا، هذا هو الدرس الأول للفكر الحضاري. لكن الأهم من أي سجال إيديولوجي هو أنه لا معنى للحوار والصدام في غياب الإنسان الحامل لروح وفكر يجعلانه قادرا على الحوار والصدام. من هنا جاءت عنايته بتحليل شروط النهضة ومسألة القابلية للاستعمار. 
ثانيا كان يرى أن الحضارة الغربية أصبحت حضارة عالمية فلا بد من الإفادة من منتجاتها قصد الوصول إلى ندية يمكن بها مواجهة السياسات الغربية المعادية للمسلمين. 
هذه الندّية ، ليست ثأرية -كما يذهب إلى ذلك دعاة أستاذية العالَم- لكنها رهان على أهمية الخصوصيات الثقافية والروحية ضمن أي توازن استراتيجي. مثل هذا التوجه يتجاوز بأشواط الواثقين من أن التحكم في الحوار أو الصدام يعتمد على العناصر العسكرية و السياسية والاقتصادية فحسب.
ثالثا يرى صاحب "مستقبل الإسلام" أن هذا المستقبل لا يتأتّى إلا بصياغة منظور معرفي ومنهجي بديل أشدّ تجذّرا في الواقع المحلّي و أكثر تكاملا مع الفكر الإنساني لأننا نعيش حضارة واحدة تفرض تحولات عالمية شاملة. 
لذلك يصبح الإشكال: أتـتحقق هذه الصياغة المفضية إلى ولوج جديد في التاريخ الحديث بذهنية حضارية " بـِـكْر" مُعرضة عن العالَم أو بهويّة ثقافية " أصيلة" لم تقع إعادة تركيبها؟
من ثم جاء الجهد البنائي فكانت " الظاهرة القرآنية" إعادة لتركيب الخصوصية الثقافية العربية بما أتاح ظهور " ميلاد مجتمع" على أنّه يمثّل القيمة المضافة لشعوب عديدة في العالَم القديم ( 9) . 
هذا هو رهان مالك بن نبيّ قبل أن يظهر الحديث عن النظام العالمي الجديد وقبل أن تبدأ العولمة بثلاثة عقود. أمكن عدّه صاحب رؤية لأنه كان مدركا بوعي الحاجةَ إلى عالم جديد أي نمط جديد من الحياة ورؤية محددة للوجود. أما تنميط الشعوب والثقافات فهو مشروع آيل للفشل لكونه يتجاهل أهم عناصر بناء الحضارة وهو عنصر فعالية الإنسان وقدرته على المساهمة والإضافة، وهي الفعالية التي لا يمكن أن تقطع مع خصوصياته.

* " المريد" الخلدوني : 
إذا كان مالك بن نبي قد ضرب صفحا عما ذهب إليه بعض تلاميذ الشيخ محمد عبده حين قالوا بوجود إشكال في العقلية الغربية وضمن البناء الثقافي الغربي نفسه فقد كان يريد تجنب المعالجة التبريرية.
مثل هذا الموقف الدفاعي عن الذات كان عنده عائقا عن النهضة ليس للأسباب التي ذكرناها آنفا فقط بل لأنه اختيار يقطع مع ما انتهى إليه الفكر العربي الإسلامي في أرقى مراحله، مرحلة الإبداع الخلدوني.
لقد ذكر صراحة في أكثر من موضع من تآليفه هذه الوشيجة الفكرية التي تربطه بأطروحة العمران البشري لكنه لم يتوقف عند ذلك الحد وما كان له أن يفعل.
مرة أخرى نعود إلى تموقع مالك الفكري. إنه في حرصه على التواصل مع الفكر الحضاري ونظرية الدورة الحضارية بمختلف أطوارها لابن خلدون لا يتردد في الانفتاح على فلاسفة غربيين محدثين كان لهم باع في فلسفة الحضارة.
كان يعيد بهذا التمازج والتركيب قراءة الفكر الخلدوني في ضوء المستجدات المعرفية و الحضارية الحديثة. 
إنّه " المريد" لكن من نوع آخر، أخذ عن " شيخه" لكنه تابع " شيوخا آخرين" وتجاوز الأول دون أن ينسى سبقه. 
هذا التموقع النقدي جعل مالك بن نبي يرفض أن يستغرقه وضع محدد؛ يحرص أن يعيش على مشارف أكثر من فكرة وأكثر من عصر وذلك بالربط بينها رغم ظاهر التباين والتباعد. لذلك جاز أن نعتبره رجل " الحدود"، ذلك الذي يريد تخطّي الحواجز الحضاريّة والتاريخية قصد إرساء جسور بين عوالم مختلفة : الشرق والغرب ، أوروبا والعالم العربي الإسلامي، الإيمان الديني والفكر النقدي، المحافظة والحداثة.
لعل هذا التموقع الحدودي هو العنصر - الأساس الذي يفسر لنا جانبا هاما من غربة مالك الفكرية في المشرق العربي بل وحتى في ربوع المغرب في حياته وبعد وفاته. 
هو ذات العنصر الذي جعله لا يشاطر فكر سيد قطب والمودودي لكونهما يدينان كل جلوس بين عالمين ويرفضان التركيب بينهما ثم تجاوزهما. 
ذات الاختيار جعله مفكرا ممجوجا لدى التحديثيين المغاربة الذين رأوا فيه كاتبا " تلفيقيا" هو أقرب للترميق(Bricolage) منه إلى الثورة. 
مع كل ذلك كان ابن نبيّ متمثلا للرؤية الخلدونية المقوّضة في نهايتها للتفكير الخرافي. 
هو في نظرته إلى ابن خلدون أقرب إلى مقولة " فهمي جدعان" القائلة إن الأزمنة العربية الحديثة بدأت مع مقدمة ابن خلدون وليس مع مدافع نابليون. ليس بمعنى أن ابن خلدون اصطنع وأبدع العصور الحديثة بل أنه حضّر وأعدّ للعصور الحديثة. بفضل هذا الوعي العقلي أمكن لصاحب المقدّمة إدراك تلك القطيعة بين العالم القديم والعالم الحديث، بين أفول العمران الإسلامي وبين بداية عصر جديد.
بعده بقرون، كان مالك بن نبيّ يقول في أواخر أيامه لأهم من يسعون إلى لقائه: إننا في فترة خطيرة تقتضي تغييرات ثورية فإما أن نقوم نحن المسلمين بالتغيير في مجتمعاتنا وإما أن تَفرض علينا طبيعة العصر تغييرات من الخارج كما هو حاصل الآن ( سنة 1972) في اليمن وظفار وغيرهما لأن هذه هي روح العصر" .
ثم يواصل فيما كان سمّاه " وصيّته" : " إن المشاكل العالمية ليست ذات طابع اقتصادي وليست ذات طابع سياسي إلى حدّ كبير ولا ذات طابع اجتماعي لأن المشكلات التي عالجها الفكر الماركسي في متوسط القرن التاسع عشر حُلَّت الآن ...المشكلات التي ستواجه العالم هي مشكلات نفسية ، هي بإجمال حيرة النفوس وشعورها بعدم الاستقرار رغم التمتع بجميع الضمانات الاجتماعية. ...أما مشكلاتنا نحن فهي اقتصادية اجتماعية"( 10). 
يختم بعد ذلك وصيّته بقوله : " إن نجاحنا في المعركة العالمية سوف تكون بقدر نجاحنا في معركتنا الداخلية".
هذه الرؤية الاستشرافية تجعلنا- حين نقرأ كتب مالك- ندرك الخصائص الثلاث الكبرى لهذا المفكر : - جدوى التموقع النقدي - الديناميكية البنائية للآخر - أهمية الفكر الرابط بين العوالم، الرافض للحدود في مجالي المعرفة والإبداع. 
من هذا الأفق اختار مالك أن يقرأ النهضة حسب الرؤية الخلدونية وهو ذات الموقع الذي انخرط فيه من قبل شيخه الأول ابن خلدون حين قال في نهاية القرن الثامن " إن دولة الإسلام العربي درست وان العصر القادم للأتراك العثمانيين".
لم يكن للشيخ ولا لمريده بعده علم بالغيب لكن وعيهما وتمثّــلهما روح الزمان جعلهما يدركان- كلٌ من موقعه- أنهما على مشارف نقطة تحوّل أساسية ستتضافر الأوضاع الموضوعية بعد ذلك في تجسيدها بشكل حاسم. 
تلك هي أهمية النخب وتلك هي مسؤوليتهم أمام مجتمعاتهم. إنها مهمة الوعي و استشراف روح الزمان بالتحرر من العَرَضي الظاهر و بالارتفاع الفكريّ إلى مستوى الأحداث الإنسانية. 

الهوامش
-1- وجهة العالم الإسلامي، تر. عبد الصبور شاهين، دار الفكر دمشق 1980. 
-2- شروط النهضة، دار الفكر دمشق ط 4 – 1987. 
-3- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة بيروت 1995. – محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1980. 
-4- راجع المنصف الشنوفي في مصادر عن رحلتي الأستاذ الإمام إلى تونس مجلة الحوليات التونسية عدد3/1966 ص ص 71-102) و انظر تاريخ الأستاذ الإمام ج 1 ص 896.
-5- تفسير جزء عمّ، من تفسير المنار ط 1 – 1355-1936 مطبعة المنار.
-6- انظر المقدمة الرابعة لتفسير التحرير والتنوير الجزء الأول الكتاب الأول ط الدار التونسية للنشر سنة 1969ص 38.
-7- صفحات من تاريخ النهضة العربية في أوائل القرن العشرين / تح. محب الدين الخطيب.
-8- مذكرات شاهد القرن، دار الفكر دمشق ط2- 1984. 
-9- الظاهرة القرآنية، أول إصدار كان بالغرنسية سنة 1947 ، ترجم إلى العربية ، دار الفكر دمشق 1972. 
-10-مجلة المعرفة التونسية وصية مالك بن نبي ، عدد 8 السنة الثانية 1395-1975، ص ص19-31 .
 

 
 


تاريخ النشر : 13-07-2006

6527 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com