. . لتاريخ مصطلح الوسطية ـ الذي خصصنا له مقال «انبعاث الوسطية وتجاذباتها» ـ مغزاه في فهم الوسطية كما هي متداولة اليوم؛ إذ يتجاوز هذا التاريخ مجرد ظروف وأحداث سياسية، ليكون تاريخاً لتغييرات أصابت الوعي الجماعي نتيجة للأحداث التي ولدت هذا المفهوم. وفي شكل أدق، فإن هذا المفهوم ما كان إلا وليد تغييرات بنيوية حصلت في الوعي الجمعي في صدد رؤيته للعالم، وما كان ممكناً أن يصبح هذا المصطلح (الوسطية) متداولاً ولا جماهيرياً لولاها، كما أنه لا يمكننا أن نحدد مدلوله اليوم من دون معرفة واضحة بملابسات ولادته.
في الخمسينات احتدم الصراع الأيديولوجي بين اليسار القومي والماركسيين من جهة (التقدميين)، والإسلاميين (الأخوان في شكل خاص ربما) الذين كانوا يطلقون عليهم (الرجعيون)، وابتداءً بالانقلاب الناصري مطلع الخمسينات على الأخوان والتنكيل بهم من دون رحمة واحتدام المعركة الأيديولوجية والسياسية على السلطة والمعرفة بدأ يسود شعور عام باستهداف الإسلام كدين، وأسس هذا الشعور العام لانتشار فكرة الثورة (التي زرعها اليسار وحصدها علقماً) والعنف المضاد، أو «الجهاد» ضد الظلم في القطاعات الشابة المتدينة، لكن هذه الفكرة ما كانت لتأخذ تأثيرها وإلهامها وتحفيزها وتتحول إلى فعل ووقائع وأحداث لولا إعدام سيد قطب (1966)، والانفجار الطائفي في سورية (1978- 1982)، ثم الثورة الخمينية الإيراينة (1979). عقداً ونصف عقد من الأحداث التي ضغطت على الذاكرة الجماعية إلى حد بدا فيه العنف الثوري الموجّه إلى أنظمة الداخل مقبولاً، إذ اختلط الاستعصاء السياسي باستهداف الدين ذاته، فخرجت حركات إسلامية تعلن «الجهاد»، ولكن المآلات التي انتهت إليها تلك الحركات والاحباطات التي مُنيت بها والخسائر التي تكبدتها شعوب الأمة خلال بضعة عقود أورثت «قناعة» كاملة بأن العنف الثوري لن يقود الأمة إلا إلى مزيد من انسداد الأفق والخسائر والفظائع.
ما بين الحلم القومي العربي المنهار الذي دغدغ لأكثر من عقدين شعورَ غالبية الشعوب العربية، وإحباطات العنف السياسي، والحرص على المشاعر الدينية بدأ وعي الجماعة مقتنعاً بجدوى العمل السلمي الذي يضمن إلى حد ما سلامة الدين والروح، ويقبل العزوف عن السياسة، ما لم تكن الفرص في العمل السلمي متاحة، ولنقل إن ثمة قنوطاً من المجال السياسي الذي احتكرته الديكتاتوريات (اليسارية وغير اليسارية أيضا)ً، وذلك في ظل إيمان مطلق بأن هذا الاستعصاء السياسي هو محصلة تآمر خارجي عالمي (يوصف تحديداً بأنه «صهيوني صليبي») قديم على الشعوب المسلمة، وعلى دينها، إنه المؤامرة الكبرى ضد الإسلام، والذين شهدوا تلك الحقبة يذكرون كيف تكاد تُجمع الكتابات التي نشرت بين فترة نهاية الستينات ونهاية الثمانينات على حصول هذه المؤامرة وتحميها المسؤولية الرئيسة (وليس من الصعب بعد ذلك أن يقود هذا المخيال الجماعي إلى فكرة «الجهاد العالمي» ضد قوى الاستكبار والظلم الذي دشنته القاعدة في نهاية التسعينات بولادة «الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبية» (1998) بعد أن فقد المجاهدون في أفغانستان حلمهم بالدولة الإسلامية (النموذجية) التي قاتلوا من أجلها عقب التحرير)!. ما بين مؤامرة كبرى على الإسلام وإحباطات العنف الثوري في ذلك الوقت، ثمة إيمان نشأ، فحواه العمل السلمي والكف عن الانشغال بالمجال العام والحرص على «الدعوة» لإيقاظ الضمير المسلم والحفاظ على ديمومته، ومن الطبيعي والحال هذه أن يلقى كتاب القرضاوي «الصحوة الإسلامية: بين الجحود والتطرف» (1982) (الذي أسس لمصطلح الوسطية) إقبالاً منقطع النظير، ويصبح بمنزلة دليل عملي شعبي لشباب الحركات الإسلامية وجماهير المتدينين؛ فقد لامس رؤيتهم الجديدة للعالم، وبهذا فهو يكتسب أهمية تاريخية فضلاً عن أهميته الفكرية.
ومع أن مصطلح «الوسطية» حظي باحتضان واسع في تلك الفترة، وبدأ على الفور يتجه باتجاه الجمهرة، إلا انه لم يكن يحظى كثيراً باهتمام النخبة العالمة، بقدر ما حظي باهتمام الدعاة الكبار وأتباعهم، ولكن مع أحداث أيلول/سبتمبر 2001 بدأ اهتمام النخبة المفكرة أو العالمة في العالم الإسلامي بالوسطية على نحو غير مسبوق، فظهرت المنتديات الدولية عن الوسطية، ونشأت المؤسسات المختصة بالوسطية الإسلامية (تأسس مثلاً «منتدى الوسطية للفكر والثقافة» عام 2002، كما أُنشئ «المركز العالمي للوسطية» في دولة الكويت عام 2004، بمرسوم أميري)، وبدا أن الوسطية قابلة للتحول إلى مشروع فكري واعد، أضف إلى ذلك أن معظم الكتابات التي ظهرت عن الوسطية (في العربية على الأقل) أُلِّفت بعد هذا التاريخ، وهذا يعني - في ما يعنيه - أن التطرف الديني السياسي الذي انتقل من المجتمع المحلي إلى المجتمع الدولي وأصبح مفزعاً للعالم وتضرر منه المسلمون بشدة كان محفزاً لاستلهام مفهوم الوسطية والاستنجاد به مرة أخرى، ليكون معنى الوسطية في هذا الإطار من السياق التاريخي العام هو الوقوف في وجه التطرف.
أهمية مفهوم الوسطية ليست في الجمهرة التي يتمتع بها وتجعله ملهماً وحسب، بل أيضاً في ما يتضمنه من معنى التسامح والقبول بالاختلاف والتعامل اللين والعقلاني والرفيق مع مفاهيم الدين، لقد كانت هذه المعاني ولا تزال تشكل أساس مفهوم «الوسطية» وتعبر بدقة عن لحظة تشكله وبدء تأثيره وإشعاعه للروح الإصلاحية الخلاقة للجماهير المسلمة، ولكن التحري المفهومي الاصطلاحي الذي اعتمد على الأساس اللغوي قاد المفهوم إلى ما لم يكن مجهزاً له أو مقصوداً به من قبل.
لقد كان المعنى الأساس الذي ولد مصطلح الوسطية لأجله، هو الابتعاد من التطرف والاقتراب من العقلانية والواقعية النسبية، بهذا المعنى الوسطية هي مسافة من الموقف الأيديولوجي، إنها مسافة من رذيلة واحدة في الأساس، هي التفكير الفكروي (الأيديولوجي). والمسافة الأخرى من الأيديولوجيا ليس تطرفاً، بل منتهى العقلانية، والتسامح في الاختلاف واستيعاب الآخر.
ولما كان التعريف اللغوي للوسطية يستند غالباً إلى المعنى الحسي، فقد كان موقع «بين» الشيئين (الرذيلتين) هذا المعنى اللغوي قد أدى إلى دفع تفسير الوسطية باتجاه «البينية»، أي التركيز على معنى البقاء على مسافة متساوية من طرفين (هما رذيلتان)، مع أن المعنى اللغوي أيضاً يمكن أن يشير إلى الوسطية باعتبارها الشيء الخير مطلقاً سواء بين رذيلتين أو رذيلة واحدة. البينية ليست ذات معنى، الأهم هو «الخيرية». وقد أفضى هذا التركيز على البينية إلى الوقوع في مشكلة تحديد موقع الوسط، وسمح هذا بالتنازع على تحديد الموقع بحسب انتماء كل امرئ وتوجهه المذهبي، وفي خاتمة المطاف أوشك مصطلح «الوسطية» أن يفقد البوصلة التي وجدت معه منذ البداية، أعني مواجهة التفكير الأيديولوجي، ولسوء الحظ فقد أصبح مرتعاً خصباً لهذا النمط من التفكير.
بمجرد أن أصبح المصطلح بهذه الرخاوة المفهومية واتسع نطاق تداوله في شكل غير مسبوق، فقد شجع هذا على نشوء خطاب نقدي للوسطية، بل على الدخول في مواجهة فكرية معها من كتاب وباحثين يعتبرون إصلاحيين وتجديديين! فمن جهة أوقع التفسير البيني للوسطية في شراك ثنائيات لا أول لها ولا آخر، والسعي للوقوف على مسافة بينية تجمع بين هذه الثنائيات بأي شكل كان، وهو أمر يعني دخولاً في جدال غير قابل للحسم، جدال «يتم فيه النقاش حول ذلك القدر الذي تم الجمع بينه من الطرفين، أو ذلك الشكل من الجمع، أو البحث في أي المجموعتين تم إخضاعه للآخر؟ أو ما الذي تم قسره ليدخل في الآخر؟ أو هل تم فعلاً الجمع مع بقاء جوهر الطرفين من دون تحوير أم تم تحوير الطرفين عينهما ليمكن الجمع من خلال طرف ثالث جديد مفارق للطرفين وإن كان فيه شبه بهما؟ فهل فعلاً الوسطية على هذا تشكل حلاً؟ فالدخول في منطق الثنائيات نفسه أساساً هو دخول في منطق تبسيطي ذي منحى توفيقي، أليق بالمنطق الدعوي، وليس مسلكاً معرفياً.
متاهة «البينيَّة» هذه في جملة العاديات التي مرت على مصطلح الوسطية، ونتائج معارك التجاذب ولدت كتابات وتفسيرات للأحكام الشرعية تحت اسم الوسطيَّة تتسم تارة بالتشدد السلفي, وأخرى بالسطحية التي تصل حد السذاجة تحت عناوين عصرية وربما حداثية أيضاً.
بالنسبة إلينا، فإن الشيء الذي يمنح الوسطية جدارتها لتكون مفهوماً ملهماً هو تخليصها من متاهة «البينيَّة» ذاتها، وإطلاقها؛ حيث ولد معناها في مواجهة التفكير النضالي للعودة إلى التفكير العلمي، ومن العماء الأيديولوجي إلى بصيرة المعرفة، ومن مطلقات الأيديولوجيا إلى نسبية الحقائق، ومن الفراغ المعرفي إلى نضج العلم، هذا يجعل الدفاع عن الوسطية دفاعاً عن العدل، وعن منطق التعقل والتسامح والاعتراف بالقيم الفاضلة وممارستها في شكل عملي وشامل.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.