آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  قضايا فلسفية

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    المرأة و النسوية    |    الإسلام و الغرب

  •     

الفقهاء و الحراك الاجتماعي- الثقافي: قراءة في فتاوى الونشريسي

احميدة النيفر


. * توطئة 
يقدّم الغرب الإسلامي (الأندلس - المغربان الأقصى والأوسط – إفريقية أو تونس الحالية) للباحث في موضوع الأسرة مجالا دراسيا متميزا ذلك أنه يمثل بيئة ثقافية واجتماعية متنوعة الخصائص سمح بها بُعد نسبي عن بلاد المشرق الإسلامي و قرب جغرافي و سياسي من أوروبا كان له أثر حضاري مهمّ منذ القديم .
إلى هذا العامل الثقافي "الخارجي" يمكن أن نضيف أن الغرب الإسلامي في الفترة التي تعنينا أي قبل سقوط الأندلس: ق 9 هـ / 15 م يبدو في بنيته الاجتماعية متماسكا لا تكاد تفعل فيه عوامل التغيّر و كأنه غير مختلف عمّا يُعتقَد أنه ميّز القرون الوسيطة التي لم تكن فيها المجتمعات اندماجية بل كانت مجتمعات عصبيات يطغى عليها طابع الثبات والاستقرار. 
ما نسعى إلى معالجته في هذا البحث في اتصاله بقضية الأسرة المسلمة في الغرب الوسيط ذو بعدين:
- إنه محاولة لتحديد المنطق الفقهي الذي خضع له نظام الأسرة المغاربية خلال قرون متوالية و لهذا الغرض اخترنا مدوّنة فقهية شهيرة هي كتاب أبي العباس الونشريسي( تــ 914هــ/ 1508) : المعيار. لقد رأينا في مجلدات "المعيار المُعرب والجامع المُغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب" خاصة المجلدين الثالث والرابع مرجعا لا غنى عنه إن أردنا أن نقف على الخصائص الفقهية للمذهب المالكي في الغرب الإسلامي عند معالجة أوضاع الأسرة عامة و المرأة خاصة. 
هذا الكتاب بمجلداته الإثني عشر يعتبر عمدة مرجعية لما حواه من نوازل وقضايا طرأت فيما بين القرن الثالث والتاسع الهجريين ( 9 و 15 م ) و نشرها شيوخ المذهب المالكي في الأقطار الأربعة المغربية. ثم هو لوفرة مادته الفقهية و حرص صاحبه على بيان طرق استنباط الأحكام أصبح أثرا أساسيا ظل بعد وفاة الونشريسي لعدة قرون أداة عمل ضرورية يعوّل عليها الفقهاء والقضاة المغاربة في نشاطهم العلمي والقضائي.
- للمعيار جانب ثان لا يقل أهمية عن الأول، إنه وثيقة تاريخية دقيقة تساعد على فهم طبيعة جانب من حياة الغرب الإسلامي الاجتماعية في العصر الوسيط. ما تفيده الأسئلة المطروحة على الفقيه المغربي في غالب النوازل المعروضة يلقي الضوء عما كان يعتمل في واقع تلك المجتمعات المغاربية من مشاكل وما تطرحه تلك المشاغل من تساؤلات متصلة بالأنظمة والقيم التي يردد البعض أنها كانت ثابتة كالطود. من هذه الجهة الثانية يمكننا أن نقرأ المعيار ونتفرّس في فسيفساء نوازله على أنها تكشف غطاء الواقع، من أجل التوصل إلى وضع خطوط بيانية لجوانب غامضة أو مهملة من حياة المجتمعات المغاربية في الفترة الوسيطة.
كتاب المعيار ليس كتاب أقضية ونوازل فقهية تحيل على القواعد الأصولية و الفقهية و على منطقها التشريعي فحسب، بل هو أيضا صورة هامة للأنساق الاجتماعية في نظامها ومراجعاتها، في منطقها وتساؤلاتها، في ثباتها و حركتها. 
نظام الأسرة ووضعية المرأة في الغرب الإسلامي يمكن أن يدرس من خلال كتاب المعيار قصد التثبت من مقولة ثبات نظام الأسرة واستقرار وضعية المرأة قديما فضلا عن أنه يعطينا صورة دقيقة عن كيفية تفاعل المؤسسة الفقهية مع تلك الأنساق. 
في كلمة يمكننا أن نعتبر أن أهمية المعيار مثنّاة : إنه أثر فقهي يغطي إنتاجا معرفيا ممتدا على ستة قرون يبرز جانبا من الخصائص العلمية للمذهب المالكي في الغرب الوسيط، وهو إلى جانب ذلك صورة تفرسيّة في جانب من الحراك الاجتماعي المتصل بنظام الأسرة، ذلك المجال الذي كثيرا ما أهمله الباحثون مفضلين الاعتناء بالجوانب السياسية والعسكرية والفكرية. 
ما نريد أن نؤكّده في هذه المعالجة المركبة يسعى إلى الإجابة عن سؤال مضاعف هو: 
- هل كان نظام الأسرة في الغرب الإسلامي الوسيط نظاما تقليديا ضمن مجتمعات عصبيات مستقرة لا صلة لها بالاندماج والتطوّر ؟
- ماذا تعني سلطة فقهاء المالكية في تلك المجتمعات وهل كانت سلطة تعمل لتسييج الفهم وأنها ذات منحى ثبوتي في مواجهة ما يطرحه الواقع من مشاغل؟ 
إذا كنا في هذه الورقة لا نحسب أننا سنتوصّل إلى تفصيل إشكالية ما يدعى " مجتمعات إسلامية تقليدية" فإنه لا أقل من أن نعمل من أجل تنسيب رؤيتنا لتلك المجتمعات من خلال قراءة لنظام الأسرة ووضعية المرأة فيها.
* المرأة شجرة الغابة

ٱ سئل عبد الله العبدوسي( تـ 849هـ /1445م ) : هل يجب على الإنسان أن يختبر زوجته في عقيدتها أم لا؟ فأجاب : تُحمَل النساء المسلمات على ظاهرهن من صحة إسلامهن وعقائدهن غير أنه إذا غلب على ظنه فساد في عقيدتها فإنه يباحثها ويجب عليه تعليمها وكان بعض الفقهاء يأمر شهود عقد النكاح باختبار عقيدة المرأة عند إرادة العقد عليها لغلبة الفساد على عقائدهن". 
هذا نص لفتوى من الفتاوى الألف التي أوردها أبو العباس أحمد الونشريسي في أحد الجزئين المخصصين لقضايا الأسرة ونوازلها. يعلّق جامع الفتاوى-وهو المتمكّن من معرفة فقهية وعقدية- فيقول : "وسأضع تأليفا مختصرا فيما لا بد للعامة من اعتقاده بعبارة بسيطة وأدلة عقلية ونقلية تدركها عقولهم" (1).
إذا انطلقنا من نص هذه الفتوى الأولى واقتصرنا على قراءة سريعة لها أوشكنا أن نثبت معنى الاستهانة بالمرأة في عالم المسلمين الذي تعتبره كتابات مختلفة نموذجا واضحا لمجتمعات السلطة الأبوية المتعالية القامعة للمرأة. لكن دراسة جملة من نصوص المعيار المتعلقة بأحوال الأسرة في الغرب الإسلامي الوسيط لا تسلّم بهذا التوجّه. يفيدنا بهذا العدد الوافر من الدعاوى التي ترفعها النساء على أزواجهن أو أقربائهن مما سجّله الونشريسي في المجلد العاشر مؤكدا أن المرأة في الغرب الإسلامي الوسيط كانت لا تتردد في اللجوء إلى القضاء لتأديب الزوج أو تطليقه (2) أو استرداد حق في الإرث أو حماية كرامتها. 
هذه النصوص التي يتجاوز عددها الثلاثين تدعونا إلى ضرورة مراجعة الأحكام السهلة التي درج على اعتمادها البعض والتي نعود إليها عند تمحيص المسألة التي اخترنا أن ندقق فيها النظر وهي مسألة الخُلع التي نعالجها في موفى بحثنا. 
إذا عدنا إلى نص فتوى العبدوسي وتفرّسنا فيه لاحظنا أنه وإن بدا متعلقا بالمرأة ونظرة الفقهاء إليها فإنه يشير – في تقديرنا- إلى أمرين آخرين لا يقلان أهمية :
- أولا في الفتوى إثارة لإحدى الأزمات الكبرى التي تعرّض لها أحد العلوم الإسلامية الأساسية والتي طالما أعجزت العلماء عن مباشرتها. ما يفيده النص السابق هو إعراض صريح عن دلالة استعصاء العقائد الدينية على عموم الأفهام وانقطاعها عما كانت تعنيه لأجيال من المسلمين من وضوح يمكّن من الربط بين السلوك والمعتقد. إنه تجاهل لتلك الأزمة و تحميل وزر ذلك التعطل على بساطة عقول النساء خاصة وما اعتدن الانسياق فيه من تقبّل للمعتقدات الفاسدة. بهذا أمكننا القول إن الخطاب الاستهجاني للمرأة في الفتوى ليس إلا موقفا هروبيا يُلْتَجَؤ إليه للقفز على مشكل لم يواجه علماء الكلام بعد أن تحوّلت العقائد الدينية إلى منظومة من المقولات التي لا يكون إنسان ما مسلما إلا عند الأخذ بها.
- لكن الأهم في هذه الفتوى هو بعدها الثاني حيث تُدرَج المرأة في صنف "العامة" الذين يحتاجون إلى عناية خاصة تجعل مسائل الاعتقاد في متناول عموم الناس. من ثم فالمرأة ليست وحدها معنية بهذا " القصور" بل هي تشترك فيه مع أطراف عديدة أخرى. نحن إذن لسنا إزاء التناظر التفضيلي للرجل على المرأة والذكورة على الأنوثة فحسب بل ضمن تراتبية إيديولجية قديمة ظلت معتمَدة وضابطة للمجتمع عبر التصنيف :- عامة - خاصة -خاصة الخاصة. ضمن هذا التقسيم الذي ساد المجتمعات القديمة ذات الاقتصاد الريعي القائم على الزراعة والتجارة يقوم الترتيب التفاضلي الثلاثي السابق لتنظيم علاقات المجتمع وضبط نسق الحياة بين المدن والأرياف وداخلها. 
ما نريد أن نبرزه هو أن الفقيه العبدوسي وكذلك الونشريسي لم يكونا في جوابهما يعبّران حقيقة عن موقف فقهي " عدائي" من المرأة بقدر ما كانا يحاولان تركيز الاختيار الرسمي للنخب العالمة إزاء ما يواجهها من معضلات فكرية وحضارية. إنه انخراط في سياق يتيح تجنّب الخوض في مجالين لا قِبَل للخاصة من أن تعيد النظر فيهما : المجال المعرفي المتصل بالعقائد الدينية و خصوصية البنية الثقافية-الاجتماعية التي تتحدد ضمنها توازنات المجتمع. هو من جهة أخرى إشارة إلى أن نظام الأسرة كان يشهد درجة من التغيّر لا يمكن لرجال الفتوى أن يغفلوا عنه كما لا يجوز لهم ألا يواجهوه.
يتضح هذا حين ننظر في نص ثان يورده الونشريسي في الموضوع ذاته، يقول: سئل عبد الله العبدوسي عن رجل وجد في عقيدة زوجته فسادا هل تجب مفارقتها؟ ويجيب الفقيه المالكي شارحا ومحقّقا : " فساد العقيدة على ثلاثة وجوه ما هو كفر بإجماع وما هو بدعة يفسَّق معتقِدُه ولا يكفَّر ومنه ما هو مختَلَف فيه، حكم معتقد الأول حكم المجوس لا يجوز نكاحها ابتداء، فالجواب فسخ النكاح بغير طلاق، وأما ما ليس بكفر بإجماع فلا يجب عليه فراقها ويجب عليه إرشادها وتعليمها ما تصلح به عقيدتها وأما ما هو مختلَف فيه فينظر إلى الزوجين فإن اتفقا على القول بعدم التكفير جاز لهما البقاء على الزوجية، وإن أخذا بالقول بالتكفير وجب عليهما الفراق لأن حل العصمة بيده وإن اختلفا فالقاضي يرفع الخلاف" ( 3).
ما يعنينا في تدقيق هذه النازلة هو تجاوز الإدانة السهلة التي بدت في الجواب الأول إشعارا من الفقيه أن تكفير الزوجة لا يجوز إلا في حالات خاصة محددة لا يمكن أن تنعقد معها رابطة الزوجية أصلا . 
هذا النص المحقّقُ لنوع الفساد المقتضي للطلاق أو الفسخ فيه ترجيح لما ذكرناه آنفا من وجود حراك في المجتمع و في خلية الأسرة وأن العبدوسي والونشريسي لا يصدران عن " عدائية" للمرأة بقدر ما كانا يحاولان مواجهة التساهل في التكفير الذي قد يذهب إليه من لم يتمثّل تلك الحركة في مختلف أبعادها. 
يورد الونشريسي فتوى ثالثة للفقيه محمد بن مرزوق (تــ بعد 918/ بعد 1512م ) هي دعم لما قلناه. سئل ابن مرزوق عن اختبار الزوجِ عقيدةَ زوجته فتبيَّن مثلا أنها تعتقد أن الله له جهة؟ فأجاب :" مهما فُتِح هذا الباب على العوام اختلَّ النظام فلا تحرَّكُ على العوام العقائد وليُكتفَ بالشهادتين كما قال الإمام أبو حامد" ( 4).
ما يلفت النظر في كتاب المعيار هو أنه لم يتناول قضية صحة الاعتقاد الديني إلا في القليل النادر. حصل ذلك في كامل المدونة مرتين فحسب في خصوص المسلمين: الأولى في المجلد الأول عند بحث موضوع البدعة: حقيقتها وأقسامها (5) والثانية في المجلد الأخير عند تحديد مواضع التكفير (6). أما في خصوص أهل الكتاب فإن الفتاوى المتعلقة بالحياة الدينية المشتركة أوفر عددا : 10 عشر فتاوى متعلقة بشتم الرسول و6 ست تتعلق بالارتداد و3 ثلاث بالمناظرات العقدية. 
لا شك أن طبيعة " المعيار " باعتباره مدوّنةً لنوازل فقهية وأقضية واقعية تعرّض لها العلماء المغاربة حالت دون التوسع في بحث مسائل الإيمان و الاعتقاد، مع ذلك فإن الحصيلة على قلّتها تقدّم لنا صورة ذات دلالة : مايقارب من عشرين فتوى في نوازل دينية بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، ونصف ذلك العدد فيما بين المسلمين أنفسِــهم، خمسُ حالات منها على الأقل تتصل بالمرأة وتصوراتها الدينية، وحالتان فقط تنظران في عموم التكفير والابتداع. 
كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ هل يدلّ ذلك على أن إيمان المرأة أضحى إشكالا حقيقيا؟
لا نجد جوابا صريحا عن هذا السؤال غير أن الفتاوى التي يحويها المعيار المتصلة بعلاقة المسلمين بأهل الكتاب خاصة في الأندلس تساعد على توضيح جانب من الغموض. إنها تدلّ على حالة تعايش وانسياب بين المسلمين والكتابيين، و تظهر بجلاء في مجال المأكل والمشرب والملبس وتبادل الهدايا والمشاركة في الأفراح. بذلك يمكن أن نتساءل : هل تجاوز التقارب مجال التعامل اليومي ليبلغ مدى احتلّت فيه النساء موقعا جديدا لا تخفين فيه ما يدلّ على تأثرهن بما يسمعنه من الكتابيات؟ 
إذا كنّا لا نجد في " المعيار" ما يساعد على معالجة هذه القضية فإنّ ما ذكرناه في الفتاوى الثلاثة الأولى يرجح أن غاية الفقهاء هي حجز المسلمين عن مزيد من الانفتاح على أهل الكتاب خاصة وأن بعض الملوك والأمراء المسلمين في الغرب الإسلامي كانوا في الفترات المتأخرة يجاهرون في سياستهم وفي سلوكهم ما يقوي هذا الانفتاح. 
لمحاولة التوصل إلى فهم السياق التاريخي للأسرة المغاربية في العصر الوسيط كما تبرزها فتاوى المعيار نذكر مثالين يقدمهما الونشريسي في هذا المضمار. يتعلق الأول بطلب يهودي تحبيس بيت لفائدة أحد مساجد قرطبة في القرن 7 هـ / 13 م (7) أما الثاني فهو يخص رجلا من السُنَّة أراد التزوج بصبية شيعية وخاف على نفسه بسببها الفتنة (8).
جواب الفقيه كان رافضا الطلب الأول قطعيا ومنكرا بشدة الثاني رغم تمييز شكلي بين فريقين من الشيعة. أما أهمية المثالين فهي في كونهما يرجحان- كل من جهة- أن الحياة الدينية العامة كانت تشهد انفراجا عاما ما كان للفقهاء أن يجهلوه وما كان لهم أن يرضوا عنه. ما تفضي إليه قراءة نسقية لفتاوى المعيار خاصة ما تعلق منها بالأسرة يكشف سياقا تاريخيا يتبلور فيه حراك اجتماعي يغالب ما تواضع عليه الفقهاء والمتكلمون وما قرروه من ضوابط وتحديدات. نفس القراءة تدعم ما ذكرناه من أن الفقهاء ورجال الإفتاء المغاربة لم يكونوا يصدرون عن عدائية للمرأة بل إن هذه القضية كانت في فتاواهم بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، غابة المراجعات الجذرية التي كان رجال الفقه خاصة يتاحشون الانخراط فيها.

* المدرسة المالكية و فقه النوازل.
ٱ ما تفضي إليه قراءة نسقية لفتاوى الأسرة في المعيار يدفعنا إلى إعادة النظر فيما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين في شأن طبيعة تلك المجتمعات "التقليدية". إن تجنّب المبالغة في التعميم أمر متأكد حين نتناول مفهوم " الاستقرار" في مجتمعات الغرب الإسلامي الوسيط. ما تثبته فتاوى المعيار في أكثر من موضع هو أن نظام الأسرة قد واجه بدرجات متفاوتة تغيّرا ملحوظا وأن مكانة المرأة فيه عرفت نوعا من الزحزحة لا يمكن إنكارها .
وراء هذا وذاك فإن الخطاب الفقهي المالكي في جدليته مع ذلك الواقع كان بطبيعة خصائصه من جهة، وبحكم ذلك الحراك من جهة ثانية قد توصّل إلى أن يكتشف لنفسه موقعا حريّا بالدرس، لأنه يكسب رجال المدرسة المالكية صبغة "القوّة الرخوة" التي تتيح لهم موقعا وسطا يتيح قدرا من التنازلات لا تخِلُّ بوظيفته االرقابية للتوازن الاجتماعي السياسي. 
إن استعراضا لبعض الفتاوى الواردة في المعيار يساعدنا على فحص هذا الموضوع: 
"شرط الرجل على نفسه لامرأته أنه متى تزوّج عليها فأمرُها بيدها فالشرط لازم عند مالك"( 9).
"الرشد تُحمَل عليه البنت المدخولُ بها بعد مضي السنة أو أكثر باعتبار ما يظهر من حالها"(10).
"البكر الصغيرة تدعي أنها أجبرت على الزواج ....يفسخ نكاحها "(11).
"سكوت الأخت الصغيرة بعد موت أبيها عن أخيها الكبير ...لا يسقط حقها" (12).
"منع الحمل جائز للمرأة بأن تضع وقاية في رحمها ..كما يجوز العزل بإذنها" (13).
"الحامل تعتبر كالصحيح في تصرفاتها ووصاياها وهي عند الطلق كالمريض" (14).
"إسكان المرأة زوجها في دارها ثم تطالبه بالكراء ، القول فيه أنه لا كراء عليه…"(15).
ليس من قصد هذا السرد القول بأن المجتمعات الوسيطة كادت أن تندرج في نظام أسريّ حديث. من العسير اعتماد هذا الرأي لكن تجاوز التنميط السهل يجعل الرؤية تتعدّل في خصوص المجتمعات التقليدية التي يُظَنُّ أنها جامدة وفي خصوص علماء المدرسة المالكية الذين يُعتَبَرون سلطة مرجعية قامعة. إذا تجاوزنا هذا التبسيط فإننا لا بد أن ندرك أن المجتمعات المسماة بالتقليدية كانت مجتمعات مفتوحة بحكم حراكها الضروري وبحكم حدّ أساسي من عقلانية الفقهاء في تقديرهم المتواصل للحدود ما يتاح لهم أن يفتوا به. 
ما تكشفه بعض فتاوى المعيار يدلّ على تفهّم وتمثّل لواقع لا تتوقف حركته، من ذلك هذا النص للقابسي الذي يجيب فيه عمن تزوج بمائة دينار عينا يقول : "الصداق في الصدر الأول كان كلُّه معجلا ثم أُحدثت تفرقة فجُعل فيه معجل قبل الدخول ومؤجل لسنين معلومة ثم صار المؤخر إلى أن يكون باقيا إلى بعد الدخول يِحِلُّ له على عاداتٍ صارت للناس فيه وزيادات عن أجل التأخير ...(16) .
هذا الاستعداد لتفهّم تغيّر الأنظمة الاجتماعية وإن لم يبلغ درجة وعي يسمح بتحولات نوعية في نسق المنظومة فإنه كان قابلا لتنزلات عديدة ولكنها محدودة . هذا ما يجعلنا نجد في المعيار نصوصا أخرى أقلَّ عددا لا تتردد في التصريح بمواقف لا تخلو من محافظة. نذكر من ذلك مثالين. 
الأول فتوى زواج القيسي بالبربرية: سئل أبو محمد عبد الله العبدوسي عن رجل تاجر صالح الحال ظاهر النجابة...ينتسب قيسيا خطب امرأة من أوربة من قبائل البرابر إلا أن أهلها من نسل الخطباء كان بعضهم يخطب بمدينة تازا من أهل الخير...تزوجها برضى منها وموافقة أخ لها بالإيصاء وجعل لها من المهر أكثر من مهر مثلها فقام بعض إخوانها ممن ليس بالوصي، وادّعى أن الرجل ليس بكفء لها ... وأراد فسخ النكاح هل يردّ النكاح؟ يجيب الفقيه: الكفاءة عند ابن القاسم هي الحال والمال وبه القضاء وعليه العمل فكفاءة الزوج صحيحة معتبرة وإذا اعتبرنا النسب فهو من قيس وقيسٌ عربٌ وهي تنتسب إلى أوربة وهم بربر والعرب أفضل من البربر فهو كفء نسبا وإن اعتبرنا المال فهو أكفأ منها كما وصفتم ثم إن الذين شهدوا بعدم الكفاءة أجملوا وجه ذلك ...فالواجب استفسارهم عن وجه عدم الكفاءة ....و النكاحُ ماضٍ(17).
أما المثال الثاني فهو يؤكد إغضاء بعض الفقهاء عما يلاحَظ من تواصل المعاملات القائمة على عصبيات ترفض الاندماج رغم ما يؤكده تطوّر الأوضاع من حرص على تجاوز ذلك: 
هو رجل تزوج أَمَةً فأنِفَ بعض أهله من ذلك وقال له طلِّقها وأنا أكتب لك كتابا بمائة دينارفي نكاح امرأة إذا بدا لك النكاح فطلّقَها وكتب عليه كتابا وأقام نحو ثلاثة أعوام لا يتزوج ثم أُعتِقَت الجارية ونُكِحَت ثم طُــلِّقتْ وأراد الأول ردّها وقد مات الذي ضمن المال. يجيب ابن زَرْب ( تـ 381/991) : لا شيء له من مال الضامن لطول المدة"(18). 
السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف أمكن لفقهاء المالكية أن ينجحوا في علاقتهم مع أوضاع اجتماعية تنزع إلى حركة لا تتوقف ؟
للإجابة عن هذا السؤال ينبغي التذكير بخصوصية المدرسة المالكية : 
استقر مذهب مالك بن أنس ( تـ 197/ 795) في الغرب الإسلامي رغم التباين الشديد بين أحوال تلك البيئات ورغم أنه كان مواكبا لمذهبين آخرين هما مذهب الأوزاعي الشامي ( تـ 157/774) في الأندلس ومذهب أبي حنيفة النعمان (تـ 150/767 ) في إفريقية والمغرب الأقصى في أطوار أولى (19). ما يذهب إليه عدد من الباحثين أن غلبة هذا المذهب إنما يرجع لاعتبارات سياسية(20) . لكن هذا العنصر السياسي على أهميته لا يمكن أن يفسِّر وحده غلبة هذا المذهب على الغرب الإسلامي شمال الصحراء الكبرى وجنوبها. ما نراه أولى بالعناية هو ما انفردت به المدرسة المالكية من كثرة الأصول مقارنة بما عند المذاهب الأخرى (21). هذه الكثرة أفسحت مجالا أوسع للتخريج بما وفّر للإفتاء أدلة صالحة يختار منها الفقيه أصلحَها.
ذلك ما جعل تلاميذ مالك يدركون أن اختلاف النزعات والاوضاع ووفرة الحراك الاجتماعي لا يمكن أن يحقِّقَ لهم تنظيم حياة الغرب الإسلامي العامة والخاصة إلا إذا استندوا إلى نفس ذلك الواقع المتشابك المتحرك ليجعلوا منه سندا في انفرادهم بالمرجعية الفقهية. لقد استمدت المدرسة المالكية حيوية من تجدد الحياة في آفاق الغرب ولم يعتمد فقهاؤها التمشي الذي أقبل عليه الحنفية المتمثّل في أهمية الجهد التنظيري الذي يتعالى بتجريده على الأحداث ومعانيها. 
منطق المدرسة المالكية كان متجها إلى أنّ سير الحياة المركّبة لا يمكن أن يخضع لقواعدَ مقرَّرَة تُستنبَط استنباطا منطقيا عبر منهج آليّ لا يعبأ بمصالح الناس وأعرافهم أي بنسق الحياة نفسِها. 
منطلق هذا المنطق الذي أمكن به تجاوز شَرَك القياس سيُعرَف عند الفقهاء بـــ"كثرة الأقوال في المذهب المالكي" ابتدأ منذ عصر مالك بن أنس نفسِه؛ فقد كانت له آراء مختلفة في بعض المسائل كما روي عن تلاميذه في بعض النوازل روايات مختلفة لم تُرجَح واحدة على أخرى.
أهميّة منهج المدرسة المالكية في الغرب الإسلامي الوسيط في إدراكها لما للواقع من شأن ولذلك برز عندها فقه النوازل الذي يتيح تعددا للآراء ناتجا عن الاختلاف في تقدير ما تطرحه الحياة اليومية من تساؤلات. هذا بينما ستكون معضلة الفقهاء المتأخرين خاصة هو نظرهم إلى ذلك الواقع على أنه أمر ثابت لأنه ليس الواقع التاريخيّ بل "الواقع ـ المثال" الذّي لا يمكن تجاوزه.
إذا عدنا إلى نصوص المعيار ونظرنا فيها للوقوف على ما تعتمده من منطق منظومة الفقه المالكي من جانب وما تراعيه من النسق المجتمعي المنظِّم للأسرة من جانب ثان تجلّت لنا خطورة بعض المسلَّمات التي يمكن أن تُعتَمَد في التعامل مع مفهوم الشريعة عامة و الفقه والفقهاء خاصة وفي النظرة إلى تجارب التاريخ الاجتماعي.
لعل أفضل نموذج يمكن أن يساعدنا في هذا الغرض هو موضوع الخُـــلع الذي احتلَّ حيزا مهما في المجلد الرابع من مدونة الونشريسي.
ما تفيدنا به أولا الفتاوى الأربعون التي أوردها صاحب المعيار عن مسألة الخلع يبيّن أن هذا الإجراء الذي لم يرد فيه سوى نص قرآني واحد ونص نبوي واحد (23) كان معمولا به في الغرب الإسلامي الوسيط بصورة لافتة للنظر. لكن ما يعوق هذه المسألة من أن تعبّر عن كامل أبعادها الاجتماعية والحضارية هو النظر إليها على أنها مجرد قسم من نوازل الطلاق أحيانا أو ضمن مسائل الأيمان والشروط أحيانا أخرى. بذلك فهي تكاد لا تُدرَس إلا على أنها من العقود المنضوية في قسم المعاملات وهذا يدعمه أن الخُلع له رسم مرقوم وعليه شهود وله عوض إلزامي يكون عينا ويكون منفعة ويكون دَيْنا. إذا اقتصرنا على هذا الجانب فالخلع شبيه بالبيع، إذ يعدّ عقد معاوضة بين المختلعة أو الزوجة وبين زوجها الذي خالعها وقَبِِــل أن يفارقها ببدل منها يحصل عليه.
لكن الخُــلع سواء اعتبرناه طلاقا أو فسخا فإن له واجهةً اجتماعيةً وحضاريةً بالغة الأهمية لأن الحالات التي يعرضها الونشريسي عن النساء اللواتي تفتدين أنفسهن بما تبذلنه لأزواجهن عديدة و متنوعة.
نذكر في هذا المستوى الأمثلة الثلاثة التالية :
-1- رجل خالع زوجته بأشياء ذُكرت في رسم الخلع عدا مُضَرَّبَة حبَسَتها لنفسها دون سائر أسبابها ومكّنته من الأسباب بمحضر الشهود وتفرقا على تبرئة الذمم.... ثم ردّ بعض الأسباب للمرأة وحبَس بعضها ...فهل يحكم له بتمليك جميع تلك الأسباب وتجبر المرأة على ردّ ما أعطاها من الأسباب ؟ الجواب ليس للمطلق أن يستردّ شيئا من الأسباب التي ردّها على مطلقته... (24 )
-2- سئل ابن رشد عمن اختلعت منه امرأته بكاليها وأسقطت مؤنة حملٍ إن ظهر بها وما تحتاج إليه إلى فطامه ...وأشهدت على نفسها بذلك عدولا من الشهود ثم قامت على الزوج وأثبتت أنها عديمةٌ أيلزَم الزوجُ النفقةَ على الحمل؟ جواب الفقيه إذا ثبت عدمُها وعسرها لزم الزوجَ الإنفاقُ عليها ويتبعها بما أنفق عليها إذا أيسرت (25).
-3- تفاقمت الأمور واختلفت الأهواء بين عبيد الله بن محمد الأزدي وزوجته راقي بنت الفقيه أبي الوليد يونس الكلاعي بعد بنائه بها فأسقطت له جميع ما كان أمهره لها من كالئ وعلى أن صرفت له جميع ما كان أمهره لها في كتاب صداقها من دور وجنات وأرضين ..وعلى هذا الإسقاط المذكور ملّكها عبيد الله أمر نفسها وانفردت راقي بجميع الثياب المقبوضة منه ..ثم أثبتت راقي أنه كان يضرُّ بها ضررا لا صبر عليه للمسلمين فهل يصح عقد المباراة؟ الجواب إذا ثبت عقد الاسترعاء بالضرر ..وجب للمرأة الرجوع على زوجها بما وضعت عنه وصرفت إليه بعد يمينه...وأنها لم تباره بما بارته به إلا لتتخلص من إضراره لها ...(26) 
هذه الأمثلة وغيرها تثبت أن الخُــلع لم يبق مقصورا على فئة ميسورة الحال تستطيع نساؤها أن تعتمد على ما لديهنّ من مال وجاه في مباراة أزواجهن. ما تدل عليه نصوص المعيار هو أن الخلع كان معروفا ومعتمدا في جهات مختلفة من الغرب الإسلامي وفي فئات اجتماعية متنوعة بل إن الونشريسي يثبت في أكثر من مسألة أن البادية الإفريقية كانت هي الأخرى تعرفه (27). 
ثانيا إلى جانب هذا الضرب من الطلاق الخُـلعي يحدّثنا الونشريسي عن عقود زواج نُصَّ على شرط يمكّن الزوجة من تطليق نفسها دون مباراة أو فداء. إذا كانت هذه النوازل التي تملّك المرأة أمر نفسها تطرَح على الفقيه تساؤلاتٍ تتصل بنوع الطلاق المترتّب على التمليك وبحدود مبادرتها تلك فإنها تُــثبت تغيّرا نسبيا في طبيعة مؤسسة الزواج وفي مجال تصرف المرأة في حق نفسها. من هذه المسائل التي يوردها صاحب المعيار نذكر حالتين: 
- تطوّع رجل في عقد نكاحه لزوجته بتمليك أمر نفسها متى تزوّج عليها بغير إذنها ورضاها ثم بعد مدة أراد أن يتزوج الثانية فبادرت وأشهدت على نفسها أنه متى تزوج عليها من فلانة فقد أخذتْ بشرطها المذكور فتراجع الزوج ثم عاد بعد وقت وطلب من زوجته أن تشهد أنها رجعت عن ذلك الإشهاد وأبطلت حكمَه على أن تبقى على شرطها تقضي به متى أحبّت. يجيب القاضي اليزناسني الفاسي مذكرا بقول مالك والليث وعامة أصحاب مالك بأن الزوج ملزَم بطلاق الأُولى ( 28).
-رجل فوّض طلاق امرأته إليها، ثم إن المرأة حلفت بالطلاق وحنثت هل يلزم زوجَها الطلاق أم لا ؟ يجيب ابن عرفة (تـ 803/1400 ) معتمدا على ما ورد في المدونة من أن الطلاق على الرجال والعدّةُ على النساء (29 ). 

* الهوية تشكُّل متواصل.
ٱ مثل هذا التذكير رغم ما يحمله من دلالة ضيق الونشريسي ومن قبله ابن عرفة وغيره بما أفضت إليه بعض أحوال الأسر المغاربية عموما والأندلسية خصوصا من تغيير لم يؤد مع ذلك إلى تحامل على النساء أو التشديد في الفتاوى التي يجيبون بها.
أكثر من ذلك فقد واصل الونشريسي في مدونته اعتماد التمشي المذهبي للمالكية الذي يستند إلى أقوال مختلفة في المسألة نفسها. من ذلك أنه في فتوى اليازنساني السابقة يثبت أن مالكا وعامةَ أصحابه يفتون بضرورة طلاق الزوجة الأولى أي أن رغبة الرجل في الجمع بين زوجتين مرفوضة ثم يضيف:" وخالفه أشهب وقال الطلاق باطل .." ثم يختم بقوله "والعمل واجب بقول الجمهور" (30). في نفس هذا الاتجاه نجد المعيار يقرر أن من أصل مذهب مالك مراعاةَ الخلاف وأنه يمكن في بعض النوازل الأخذ بالقول الشاذ في المذهب (31). هذا ما نجده واضحا في أكثر من مناسبة وبعبارات متنوعة كأن يفتي السيوري في مسألة فيقول : لا شيء عليه فيضيف الونشريسي: وقال ابن عرفة فيها نظر، يريد على مذهب ابن القاسم ...( 32).
إذا أضفنا إلى كل هذا اعتماد العرف في حالات كثيرة من قضايا الأسرة المغاربية يأكد لدينا ما يعتبره البعض مفارقة المدرسة المالكية التي طبعت الحياة الاجتماعية في الغرب الوسيط والمتمثلة في انفراد بالمرجعية الفقهية و التشدد إزاء كل مخالفة للمذهب مع قبول واضح بتعدد الآراء ضمن المذهب نفسه. 
هذه المفارقة نجدها وراء النزعة الحمائية التي تبناها شيوخ المذهب منذ القرن الثالث الهجري / العاشر الميلادي والتي بدأت بمقاومة خط ابن وضّاح (تـ.287 /900) وبقيّ بن مخلَّد (تـ. 289 /901 ) إثر عودتهما من رحلة علمية بالمشرق و حرصهما على تجاوز المعارف الفقهية المعتمَدة بالأندلس. كان يمكن لهذا الخط "الإصلاحي- السلفي" المعتني بدراسة الأحاديث النبوية وأسانيدها و عللها والعامل على إرساء تنظيرات كلامية و أصولية لا عهد للمغاربة والأندلسيين بها أن يشكّل منافسة جدية لهيمنة المذهب المالكي بمنحاه العملي. لكن تضافر جملة من العوامل بعضها اجتماعي وبعضها سياسي داخلي وخارجي أدى إلى تراجع نهائي للخط الإصلاحي بتحالف شيوخ المذهب مع مؤسسة الإمارة زمن حكم الحاجب المنصور (371-392/981-1002) خاصة. تلك النزعة الحمائية المنغلقة التي دفعت بالخطاب الفقهي الذي كان يقوم على جدلية المحافظة والتجاوز إلى إعتماد بُعد جديد ثالث ستزداد أهميته تدريجيا هو بعد الإقصاء الذي سيقع الالتجاء إليه بحجة مقاومة البدع والأهواء.بذلك واجهت الشخصية المغاربية مرحلة سقوط الأندلس وما تلاها من أحداث كبرى انتهت بمواجهة الحداثة الأوروبية بهويّة دينية لا تختلف في ظاهرها عما كان سائدا من قبل. 
كان التواصل المذهبي باديا و كأنه لم يمسسه تغيير ما، لكن بنية الخطاب الفقهي كانت قد عرفت تحوّلا نتيجة ما طرأ على النسيج الثقافي من تعديل في بعض قيمه المركزية مما أضعف قدرة المذهب على المواكبة التي كانت لشيوخه من قبل. لقد تراجع المنحى العملي عند جانب منهم لتحلّ محلّه صرامة لا صلة لها بتلك الصبغة التي عُرِفوا بها، صبغة القوة الرخوة. لدى هؤلاء لم يبق الواقع- التاريخي دافعا إلى حركة ينبغي أن تراعى فيها المصالح والأعراف بل أصبح مجالا للانحراف عن الواقع- المثال السالف الذي لا يمكن تجاوزه لأنه في نظرهم يحقق الاحتفاظ بحياة اجتماعية مطردة للأمة (33). 
جانب آخر من شيوخ المذهب فَقَد هو أيضا الحسّ التاريخي وانغمس في شرَك التقليد القياسي فلم يع قوّة منطق فقه النوازل وأهمية تعدد الآراء وما يتطلبه هذا التعدد من ثقافة فقهية وأصولية مقترنة بنظام معرفي متجدد. هذا النوع كان يثبّت ما ظهر من أزمة بدأت في فترة حكم المأمون العباسي ( القرن الثالث هـ / التاسع م ) واستفحلت في السادس لتنتهي في القرن التاسع الهجري إلى عجز البنية الفكرية للفقيه عن الإنتاج و التجدد و هو ما سماه المقريزي ( تـ 845هـ/ 1441م ) انفصام الشريعة عن السياسة(34). 
لكن هذا لم يمنع أطرافا ثالثة من أن تدرك أن الهوية الدينية والثقافية ليست ذاتا متعالية أو جوهرا فردا بل هي تشكُّلٌ متواصل و موصول بالتحولات الفكرية والاجتماعية عبر نظرة للحياة والعالم. 
هذه الفئة من رجال الفقه المغاربة المحدثين على قلّتها أدركت أهمية الحركة الثقافية- الاجتماعية التي تخلّلت العصر الوسيط ضمن دوائر التفاعل مع الحياة ومعالجة مشاكل واقعه واستوعبت نظرية المقاصد الشرعية خاصة عند الشاطبي ( تـ 798هـ/1395م ). هؤلاء أدركوا بدرجات متفاوتة أن مقصد الشريعة مصالح العباد اعتبارا وتحقيقا وحفظا وأن منطق الأقدمين الأوائل وروح اجتهادهم كانت في هذا الاتجاه. 
هذا ما جعل رجالا مثل علال الفاسي أو محمد الطاهر ابن عاشور يعملون على أساس أن سياسة التشريع "تقرير وتغيير" فانخرطوا في مشاريع تغيير لتطوير القوانين وفاتحين مجال مواكبة الحضارة الحديثة بعيدا عن التماهي المستحيل مع الأنساق الثقافية المغايرة. 
إنها استعادة لجدلية الفقه المالكي المعروفة : المحافظة والتجاوز قبل أن يقتحمها البعد ثالث الإقصائي الذي أفقدها الحسّ التاريخي مما أعجز شيوخها عن التحررّ من النظام المعرفي القديم. 
مثل هذه العودة إلى الجدلية القديمة أتاحت اصلاحاتٍ في مجال نظام الأسرة بتونس الحديثة وبالمغرب الأقصى لا ينبغي إغفالها. لكنها على أهميتها تظل مرتبطة بشروط الوعي التاريخي القديم أي أنها لا تستطيع أن تحقق المعاصرة التي تعني التحاما بشروط الوعي العالمي الحديث وما يفرضه من تطوّر نوعيّ في بنية المجتمعات الاجتماعية والفكرية.


* الهوامش.

1. المعيار [3/88] المعيار [3/88] أحمد بن يحيى الونشريسي ، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب ، خرجه جماعة م الفقهاء بإشراف د محمد حجي ، دار الغرب الإسلامي بيروت ط1 1401/1981
2. المعيار انظر المجلد العاشر ص 237: دعوى المرأة الطلاق على زوجها وإقامتها شاهدا توجب حلف الزوج فإن نكل طلِّقت عليه. 
3. المعيار [3/87-88]
4. المعيار [3/87]
5. المعيار [1/352-358-...51]
6. المعيار : 12/74...79] نص الفتوى هو : التكفير يكون بثلاثة أمور : ما يكون نفس اعتقاده كفرا كإنكار الصانع وصفاته وصدور ما لا يقع إلا من كافر وإنكار ما علم من الدين بالضرورة.
7. المعيار ج 7 ص 65
8. المعيار 3/300-301 ، نص الفتوى : لما سئل أبو اسحاق التونسي عن الزواج بفتاة شيعية أجاب الشيعة على ضربين منهم من يفضل علي على الصديق فهذا لا ينكح إليه ويبين له سوء مذهبه حتى يرجع ومنهم من يفضل عليا ويسب غيره فهؤلاء لا تحل مناكحتهم وهم بمنزلة الكفار .
9. المعيار ج 4 /100.
10. المعيار ج 9/523.
11. المعيار ج 3/82-83
12. المعيار ج 9/612.
13. المعيار ج 4/235.
14. المعيار ج 5/189-9/530.
15. المعيار ج 8/290. وانظر أيضا فتاوى دفن الزوجة في مكان القول فيه لعصبتها لا لزوجها –1/319-320 و الزواج ببكر ...فللزوجة ميراثها وصداقها-3/233 و زواج بكر من رجل ظهر أنه من أهل الفساد 3/272...117 و زواج الرجل بالمرأة التي أشهد أنه طلّقها ....لا يجوز 4/116-117...117 و زواج الصغيرة والكبيرة ...جائز3/6-10...118 وريع أخذته امرأة من زوجها ....فهي أحق به10/430...112 و دعوى المرأة أن بعض ما شورت به ...القول قولها إن لم يكن هناك عرف معلوم3/122...108 و خصام الزوجة والزوج 3/304...102 و زواج المرأة التي غاب عنها زوجها غيبة طويلة ....فإنها لا تحدّ 3/37...118 و شرط الزوج لامرأته في عقد النكاح أن الداخلة طالق البتة...النكاح يفسخ 3/141...132 و شورة المرأة وما تحمله فيها من ثياب باسم الزوج يرجع فيه للعرف ...وإلا فالقول للمرأة أنه عارية 3/346...145 و صداق الزوجة الذي زاد فيه الزوج لا يجوز الرجوع فيه ...4/399...146 و طلاق المرأة إذا أقامت بينة بأن زوجها يعرّضها للفساد بعد مراعاة الشروط المطلوبة 3/134-135...176 و فسخ النكاح بغير طلاق إذا تبين بعد العقد على الزوجة أنها مجوسية وإن اعتقدت ما ليس بكفر فلا يطلقها3/87... 189 .
16. المعيار ج 3/153-161.
17. المعيار 3/84-85 وانظر أيضا نصوص فتاوى أخرى مثل * زواج غير الكفء يردّ وإن رضيت به الزوجة3/114...118 الزوج إنما يجب عليه الإخدام إذا اتسع حاله...لمنصبها وحالها3/119...118و الزوج يطلب منه إحضار زوجته ...مع بقاء الزوجية حلف وبرئ 10/313...118 و شرط الزوج لامرأته ألا يتسرى عليها فتزوج فالزواج صحيح 3/405...132
18. أدخل أسد بن الفرات المذهب الحنفي إلى البلاد التونسية وكان له حضور بالمغرب الأقصى حسب ما رواه السلاوي في كتاب الاستقصاء ج 1ص 60.
19. يعتبر ابن حزم الأندلسي أن مذهبين انتشرا في بدإ أمرهما بالرياسة والسلطان الحنفي بالمشرق ( أبو يوسف في العراق ) والمالكي بالأندلس ( هشام ثم الحكم بن هشام) ---الموطأ الأسدية المدونة .
20. الأصول عند أبي حنيفة هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف وعند الشافعية الأربعة الأولى فقط يضيف المالكيون إجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة وسد الذرائع 
21. الأصول عند أبي حنيفة هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستحسان والعرف وعند الشافعية الأربعة الأولى فقط يضيف المالكيون إجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة وسد الذرائع.
22. ابن القاسم تـ 191/806 سحنون القيرواني تـ 240/874- مالك لم يجب إلا على نصف المسائل الثلاثين ألفا التي طرحها عليه ابن وهب 197/811.
23. انظر الآية 229/ من سورة البقرة ..."فلا جناح عليهما فيما افتدت به" و انظر البخاري والنسائي حديث ابن عباس عن امرأة ثابت بن قيس بن شماس التي التي جاءت الرسول تريد الانفصال عن زوجها فقال لها الرسول : " أتريدّين عليه حديقته ؟ قالت نعم فطلب من ثابت أن يطلقها. 
24. المعيار ج4/427-428.
25. المعيار ج4/4
26. المعيار ج4/6.
27. المعيار 4/92.
28. المعيار ج 4 /100
29. المعيا ج4/427-428.
30. المعيار ج4/100
31. المعيار ج4/320
32. المعيار ج4/283.
33- ثم جاءت كارثة سقوط بغداد على يد المغول فاعتبر الفقهاء أن وحدة المسلمين في الوقوف وراء النظام الاجتماعي الذي تحميه المذاهب القائمة وضرورة إغلاق باب الاجتهاد( 231/6 إقبال). كان خراب بغداد نكبة فادحة أفضت إلى خوف مهووس على مستقبل الإسلام وكانت خشية رجال الفكر من المحافظين وقوع انحلال آخر فركزوا جهودهم كلّها على أمر واحد هو الاحتفاظ بحياة اجتماعية مضطردة للناس جميعا فأنكروا تجديد أحكام الفقه( تج. 174).
34-** حققت الإصلاحية تجاوزا للفقيه عن طريق تجاوز البنية الفكرية التي يعتمدها وهي البنية التي واجهت عاملين اثنين أحدهما اجتماعي- سياسي والآخر ثقافي- تقني. لشرح هذا التحول ينبغي التذكير بأن الفقه الذي كان له إنتاج ضخم في مختلف المدارس الفقهية بدأ يشهد تراجعا واضحا منذ القرن السادس الهجري لينتهي مع القرن التاسع إلى انفصام بين الشريعة والسياسة. لقد عرف التاريخ السياسي والثقافي تقلبات منذ القرن الثالث الهجري وبالخصوص مع حكم المأمون العباسي كان المستهدف الرئيسي فيها المحدثون والفقهاء. تأكدت هذه التحولات بظهور السلطنة في مواجهة الخلافة ثم بقيام رجال السيف بمواجهة رجال القلم. هذا التطور التاريخي استمر قرونا لكن بعض العلماء ادركوه نذكر من أهمهم أبن عقيل الحنبلي ( 513هـ ) حين تحدث عن تجاوز السياسة للشريعة .
-35- الشرعية التي تناولها بعض كبار العلماء القدامى مثل الجويني ( 478هـ) والغزالي (505هـ) وعزالدين بن عبد السلام ( 664هـ) وأبو اسحاق الشاطبي صاحب الموافقات ( 798هـ). من ثم بدأ الاهتمام النسبي بنظرية المقاصد [ الشريعة مقصدها مصالح العباد اعتبارا وتحقيقا و حفظا./ حق النفس ، الدين ، العقل، العرض أو النسل ، المال أو الملك]
-36- المقاصد بن عاشور /- الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور من كتاب المقاصد/// ورغم امتلاكه لملكة نقدية متميزة في تحليلاته لأصول الشريعة ومقاصدها. كانت رؤيته للسياسة منحصرة في التصورالتراثي الفقهي. هو يرى أن أصول سياسة الأمة ضبطتها الشريعة والقوانين " التي بها رعاية الأمة في مرابع الكمال والذود عنها أسبابَ الاختلال" ص 123. 
 



تاريخ النشر : 24-05-2005

6654 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com