صدرت منذ أقل من سنتين ترجمة عربية لكتاب الناقد الألماني الشهير هانس روبرت ياوس "جماليات التلقي : من اجل تأويل جديد للنص الأدبي" (ترجمة: رشيد بنحدو ،الدار البيضاء،2004) ممهورة بمقدمة من المترجم (رشيد بنحدو) يكشف فيها عن الدافع إلى إنجاز عمله بأنه جاء استجابة لرغبة المؤلف نفسه؛ إذ التقى المترجم بـ“ياوس” عند زيارته لكلية الآداب في فاس سنة 1994، وألقى حينها محاضرتين لخَّص فيهما تصوره “للتأويلية الأدبية”، وقد كانت تلك الزيارة مناسبة قدم فيها المترجم للأستاذ ياوس صورة مختزلة عن وضعية النقد الأدبي في المغرب والعالم العربي، فأبدى هذا الأخير رغبته في أن تترجم كتبه وخاصة كتابه هذا “جمالية التلقي”، مؤكدا أن ذلك لو تم سيُحدث “انقلابا جذريا” في النقد الأدبي العربي!.
قد ينظر إلى هذا الكلام الذي سطره المترجم على أنه نوع من الدعاية المشروعة للكتاب، لكن عند التأمل في مقدمة المترجم، ودراسة كيفية تلقينا للنظريات النقدية الأوروبية عامة، يتبين أن مثل هذا التقريظ ليس إشهارا للكتاب ولا دعاية له فقط، بل الأمر يعبر عن تصور نظري ينمذج مواقفنا من الإبداعات الغربية، تصور انبهاري مقلد؛ صحيح أنه لا يجب أن نراهن على التقليد من أجل إنجاز انقلابات أو تجديدات في مناهج الدراسة النقدية العربية، ولكن يجب المراهنة على الإبداع الذاتي الأصيل؛ فمناهج النقد ومدارس الفكر هي نتاج شروط ثقافية خاصة، لا يمكن استنباتها في شروط مغايرة إلا بافتعال لن يؤدي أبدا إلى أن يثمر ثمارا ذات قيمة. وقد سلف أن قلت في مقال سابق إن نظرية التلقي إضافة نوعية إلى الدرس النقدي، لكن أشرت إلى أنها تعتورها إشكالات ومآزق ينبغي الإشارة إليها وعدم الاكتفاء بهذه الكتابات التقريظية والشارحة التي تسود الخطاب النقدي العربي.
في سياق هذه القراءة النقدية واحتكاما لمنطقها، نكتب هذه السطور، من أجل ملاحظة بعض إشكالات هذه النظرية على مستوى المفاهيم وكذا على مستوى الإجراء والتطبيق. ولنركز على المفهوم المحوري لهذه النظرية، أي القارئ، الذي يرتفع عندها إلى مستوى ضامن البقاء والاستمرار للنص، حيث يرى ياوس أن العمل الفني لا يكون له البقاء إلا بوساطة جمهور.
ولنتساءل: من هو هذا القارئ الذي تدعونا نظرية التلقي إلى الاهتمام به؟
ليس بين منظّري ونقاد “نظرية التلقي” اتفاق على ماهية هذا القارئ، ففي بداية ظهور “جمالية التلقي” تبلورت هذه النظرية بوصفها علما لدراسة “تاريخ الأدب”. ومن هنا نلاحظ أن ياوس مثلا يطرح نظرية التلقي بوصفها منظورا تحليليا للتاريخ الأدبي، مستثمرا غادامير وهوسرل في صياغة مفهوم “أفق التوقع”. لكنْ ثمة إسهام آخر من داخل مدرسة كونسنتانس أنجزه آيزر الذي لم يترك “علم جمال التلقي” كمقاربة منهجية للتاريخ، بل سيحوله إلى دراسة للنص الأدبي من حيث هو علاقة تواصلية مع القارئ الفرد؛ لذا نجده يتحدث عن القارئ الضمني. ذلك لأن فعل الكتابة هو فعل قصدي يقوم على استهداف القارئ، وإحداث تأثير فيه. وفي هذا كان "آيزر" يستثمر النظرية الفينومينولوجية التي قامت منذ تأسيسها على نقد الكوجيتو الديكارتي الذي كان حسب هوسرل مغلقا وساقطا في الأناوحدية، وأن معالجته لا يمكن أن تتحقق إلا باستحضار الخاصية الأساسية للوعي بوصفه وعيا قصديا. هذا الدرس الفينومنولوجي (الظاهراتي) هو الذي وعاه آيزر وحلل به فعل الكتابة والقراءة منتهيا إلى أن كل نص يطرح نمط قراءة خاص، لذا يجب على الناقد أن يدرس ويستخلص نظام القراءة الذي “يقترحه” النص لتحقيق الاستجابات المنتظرة من القارئ. وفي السياق نفسه، يمكن أن ندرج موقف أمبرتو إيكو، في كتابه المعنون بـ “القارئ داخل النص”. فالكاتب يحس عند صياغته لنصه بعوائق لسانية وثقافية ومجتمعية تعوق انطلاقه في التعبير، لذا فالنص حسب إيكو لا يقول كل شيء ومن ثم فهو يحتاج إلى القارئ. وعلى الناقد أن يحدد نمط “القارئ النموذجي”، أو “القارئ المثالي” الخاص بالنص الذي يدرسه، وهو النموذج الذي يتوقعه المؤلف ويتمناه، ليس ليقرأ ملفوظات نصه بل أيضا مسكوتاته وما بين سطوره.
لكن في منتصف الثمانينات سيبرز بشكل واضح نقاش حول جدوى البحث عن قارئ مفترض بين تلافيف النص، وإهمال القارئ الفعلي المتحقق عينيا. حيث قدم "ميشيل بيكار" في كتابه “القراءة بوصفها بوصفها لعبة”. مفهوما للقارئ المتعين، أي القارئ الفعلي الذي له كينونة وجودية في الواقع، كما تقول "آني روكسيل"، وليس القارئ الضمني أو المتخيل الذي انساقت إليه أعمال "آيزر" و"أمبرتو إيكو". بيد أن هذا التصور الجديد للقارئ الذي اقترحه "بيكار"، تعوقه أيضا عوائق عدة، ومن أهمها في تقديري أنه لو اتخذناه منطلقا إلى دراسة تاريخ الأدب فإننا سنكون عاجزين عن تناول أدباء ومبدعين مغمورين، وسنكون مضطرين إلى اختيار المؤلفات التي أثارت اهتمام النقاد/ القراء، وبذلك سنغفل ثروات مهمة في تاريخ الأدب. وهذا الاعتراض يعوق أيضا التطبيق الإجرائي لمنهج التلقي عند "ياوس" و"ستانلي فيش"، وآية ذلك ماذا بإمكان منهج نظرية التلقي، بمفهوم بيكار للقارئ/ المتلقي، أو مفهوم "ياوس"، أو "ستانلي فيش" الباحث عن جماهير القراء، أن يفيدنا في دراسة أشكال تلقي نصوص وتآليف مهملة. أليس من الأولى أن ندعو هنا إلى أن نشتغل بما يمكن أن نسميه بمنهجية عدم التلقي، أي دراسة أسباب إهمال هذه النصوص؟
ثمة إذن أمام تطبيق نظرية التلقي اعتراضات وصعوبات، على مستوى الإجراء والتطبيق، سواء كان مفهوم القارئ مجردا أو عينيا.
لكن إضافة إلى هذه العوائق النظرية، يجب أن نلتفت إلى أمر مهم وهو السياق الثقافي العام الذي ظهرت فيه هذه النظرية، لكي نعي واقعها وندرك ضرورة الانتباه إلى أنها وليدة ظرف ثقافي خاص: إن نظرية التلقي هي عملية زحزحة لمركزية المؤلف تتناغم مع جوهر المشروع الفلسفي لما بعد الحداثة الذي يتحدد في نقد مركزية الذات، تلك التي نهض عليها المشروع الحداثي ابتداء من ديكارت. ومن ثم فهي في تقديري الشخصي أحد أشكال وتجليات فلسفة ما بعد الحداثة، ولتوضيح وجهة نظري هذه أقول: عندما بدأت الحداثة الأوروبية مع الديكارتية بدأت بتسييد الكوجيتو، أي تسييد الذات المفكرة. بيد أن ديكارت كان له مع تسييده للكوجيتو موقف إيجابي من الدين، لكن صيرورة تطور الفكر الفلسفي الأوروبي من بعد "ديكارت" و"مالبرانش" وغيرهما من الديكارتيين الذين كان للدين موقع داخل أنساقهم الفلسفية، ستفتح المجال نحو تسييد مطلق للذات المفكرة/ العقل، وهكذا نلاحظ أنه ابتداء من نهاية القرن السابع عشر أخذ الفكر الأوروبي ينحو منحى متطرفا في تقدير العقل الإنساني والنظر إليه بوصفه قادرا على بلوغ الحقيقة، كما كانت للثورة الصناعية ولمنتجاتها بالغ التأثير في صياغة هذا الموقف الواثق من العقل وإمكاناته على المعرفة إلى درجة تأليهه.
بيد أن هذا الموقف الواثق من العقل سيتعرض لاهتزاز كبير.بدأ في القرن الثامن عشر بالنقد الكانطي لقدرات العقل ، وتنسيب حصيلته المعرفية بحد إمكانه المعرفي بحدود الظاهر، وجعل الماهية النومينية غير قابلة للإمساك بمقولاته؛ لتظهر من بعد فلسفة ما بعد الحداثة كمشروع لنقد مركزية الذات الإنسانية. ففلسفة نيتشه هي نقد لهذه المركزية ولنمطها العقلاني، وسيكولوجية فرويد هي كذلك نقد لمركزية العقل والإرادة بإبراز مقولة اللاشعور، وفلسفة البنيوية هي تمويت للإنسان لمصلحة البنية واللغة، فمناداة "رولان بارت" بتمويت المؤلف يندرج ضمن السياق ذاته المناهض لفلسفة الحداثة.
ونظرية التلقي عندما استبعدت المؤلف تندرج هي أيضا في سياق زحزحة مركزية الذات، وعندما ندرسها يجب الوعي بالشروط التاريخية والثقافية الخاصة التي ساهمت في إنتاجها؛ ذلك أن النتاجات الثقافية لا ينبغي استنساخها؛ بل الاستفادة منها مع الوعي بكونها جاءت استجابة لحاجات وإشكالات خاصة. وبهذا الوعي تكون استفادتنا منها ممكنة، لأنها تكون بالفعل استفادة مبنية على وعي نقدي وليس تقليداً مبنياً على الانبهار.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.