آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  قضايا فلسفية

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    المرأة و النسوية    |    الإسلام و الغرب

  •     

فلسفة الصفح وسياسات الذاكرة: المسألة الثقافية حساسيات وأخطار

رضوان جودت زيادة


يبدو المشهد الفلسفي اليوم مشغولاً بمفاهيم الصفح والتسامح والعدل، أو بما يسمى المفاهيم التأسيسية لمرحلة العدالة الانتقالية كفترة تدشينية لكل أمةٍ تمر في شكلٍ ما من أشكال الحرب الأهلية أو النزاع والصراع الداخلي بين مكوناتها السياسية أو الاثنية أو الطائفية أو القومية، فهي بوابة لا بد من المرور بها لإعادة تأسيس مفاهيم الدولة الحديثة على أسس ديموقراطية وتعددية كما جرى في جنوب أفريقيا وشيلي والبيرو. ولذلك يبدو جاك دريدا مشتغلاً في السياسي ولكن من زاوية الفيلسوف اذ هو يتساءل في معنى الصفح، وهل هو ممكن؟ وما هي حدوده؟ بالنسبة الى دريدا في حوار له عن (المصالحة والذاكرة، ترجمة حسن العمراني) ليس هناك حد للصفح ولا مجال معه للقياس، ولا مكان فيه للاعتدال، فالصفح ليس ولا ينبغي أن يكون طبيعياً ولا معيارياً ولا تطبيعياً، عليه أن يظل استثنائياً وخارقاً في احتكاك مع المستحيل، كما لو كان يقطع المجرى العادي للزمنية التاريخية.
وحتى تتسنى لنا مقاربة مفهوم الصفح ذاته، فإن ذلك يقتضي منا ضرورة البدء بالاعتراف بأن هناك ما لا يقبل الصفح. ولكن، أليس هذا حقاً هو الشيء الوحيد الذي يستحق الصفح، فإذا لم نكن مستعدين للصفح الا على ما يبدو أنه قابل للصفح، وهو ما تطلق عليه الكنيسة «الخطيئة غير المميتة» (أي ما يدخل في اطار الصغائر) فإن فكرة الصفح نفسها سوف تتبخر، واذا كان هناك شيء يتطلب الصفح فإنه سيكون مجسداً في ما تسميه اللغة الدينية «الخطيئة القاتلة»، الأمر الأكثر سوءاً، الجرم أو الأذى الذي لا يقبل الصفح، من هنا تنشأ المعضلة التي يمكن وصفها في صيغتها الجافة والقاسية التي لا ترحم: يصفح الصفح فقط عما لا يقبل الصفح. ليس في وسعنا أو قل ليس علينا أن نصفح، بل ليس هناك صفح – هذا اذا كان أصلاً موجوداً – إلا حيث نقف أمام ما لا يقبل الصفح. معنى هذا ان الصفح يجب أن يعلن عن نفسه كما لو كان المستحيل ذاته. لقد فتح باب الجدل على مصراعيه، في فرنسا، إثر صدور قانون 1964 الذي يقضي بأن الجرائم ضد الانسانية لا ينطبق عليها مبدأ التقادم، لكن المفهوم القانوني لمبدأ اللاتقادم ليس بأي حالٍ من الأحوال مكافئاً للمفهوم غير القانوني الذي اعتدنا تسميته «ما لا يقبل الصفح»، فقد صرّح جانكليفتش في نص سجالي بعنوان «ما لا يقبل التقادم» بأنه لا يجوز، بأي شكلٍ من الأشكال الصفح عن الجرائم التي ارتكبت ضد انسانية الانسان، وبصورة مماثلة، يقول هيغل، وهو واحد من أعظم من اتخذوا من «الصفح» و «المصالحة» موضوعاً للتفكر، بأن دائرة الصفح تتسع لتشمل كل شيء عدا الجريمة ضد الفكر، أي ضد القدرة على المصالحة التي يتمتع بها الصفح. لكن، ما المقصود تحديداً بمعنى الصفح؟
بالنسبة الى دريدا، ان الخلاف حول حدود الصفح ينعكس بشكلٍ ما على الاشكالية النظرية لماهية الصفح ذاته، ولذلك يبدو ضرورياً بالنسبة له حيازة الصفح على معنى. ويتوجب على هذا المعنى أن يتحدد على أساس الخلاص والمصالحة والفداء والتكفير عن الخطأ وحتى الضحية.
فبالعودة الى جانكليفتش فإنه يعتبر الى أنه متى لم نعد قادرين على معاقبة الجاني «بعقوبة تتناسب مع جريمته»، ومتى صار العقاب، تقريباً، بلا أهمية، فإننا نكون أمام ما «يتعذر التكفير عنه»، بل يصفه بـ «ما لا يغتفر» وهو الوصف الذي أخذه شيراك في ما بعد ليصف الجريمة التي ارتكبت ضد اليهود تحت حكم فيشي. وفي النهاية فإن جانكليفتش يشرط الصفح بشرطين، هما: أن لا بد للصفح من أن يظل امكانية انسانية، والثاني هي أن هذه الامكانية الانسانية لا بد من أن تقترن بإمكانية العقاب، ليس المقصود بذلك الانتقام، الذي يعتبر الصفح غريباً تماماً عنه، وانما العقاب طبقاً للقانون، اذ تقول حنة أرندت في هذا الصدد: «العقاب قاسم مشترك مع الصفح يتمثل في محاولته وضع حد لشيء يمكن أن يستمر، في غياب التدخل، إلى ما لا نهاية. ومما له دلالة بالغة، أن الناس عاجزون عن الصفح عمن لا يقوون على معاقبته وعاجزون عن معاقبة ما يظهر أنه ممتنع عن الصفح».
وهو ما يرتبط في شكل وثيق بمفهوم الجاني والضحية، فالبعض يشرط الصفح بتوبة الجاني وعلنيتها، وعليه أن يصلح نفسه، ويطلب الصفح، وأن يتغير وفقاً لذلك بموجب التزام، بحيث لا يصبح هو الشخص ذاته الذي اقترف الجرم أو الخطأ، لكن دريدا يعقّب، هل يستقيم اذاً وفقاً لذلك أن نتحدث في هذه الحالة تحديداً عن الصفح؟ سيغدو الأمر صفحاً ولكن ليس عن الخطيئة، اذ ينبغي، على العكس من ذلك أن نصفح عن الخطأ وعن الجاني بما هي كذلك، بحيث يظل كلاهما، بصورة لا تقبل الانعكاس، تماماً كالشر، محتفظاً بقدرته على العودة مجدداً، في شكل لا يقبل الصفح، بلا تحول، ولا تحسن، ولا توبة أو وعد، فالصفح يجب أن يتوجه الى ما يقبل الصفح، انه الصفح بلا قيد أو شرط.
 



تاريخ النشر : 07-05-2006

6365 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com