آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

التقـدميـة و الوجهة المادية للتاريخ

محمد عادل شريح


يمثل المكان و الزمان مبدأي التجلي الكوني حيث يمتد الوجود الموضوعي عبر هذين القطبين أفقياً وعامودياً، و لكي يتسنى لفلسفات الحداثة أن ترسم صور مادية للكون وجب عليها أن تقدم تصوراً مادياً للمكان مترافقاً بتصور مادي للزمان، و ليس غريباً لذلك أن تكون الفلسفة الماركسية التي تمثل الفكر المادي في نهاياته المنطقية، قد انقسمت إلى فرعين أساسيين هما المادية الجدلية و المادية التاريخية.
لقد تعرضت الفلسفة المادية في رؤية الكون كامتداد مكاني لانتقادات كبيرة من خلال دراسات نقدية جدية ساهم إلى حد كبير في إثرائها مفكرين مسلمين، و يمكن القول اليوم أن هذه الفلسفة قد تقوضت أركانها إلى حد كبير في الشرق و الغرب، لكن المؤسف أن هذه المادية و أن كانت قد تراجعت كمقولات نظرية في الغرب ذاته، لكنها قد أفلحت إلى حد كبير في إزاحة التصورات البديلة للكون و حشرها خارج إطار النظرة العلمية المزعومة للعالم، و المحدودة بطبيعتها و إمكانياتها المعرفية بحيث صارت الرؤية الوحيدة الممكنة لعالم ينسجم مع هذه النظرة العلمية، هي الرؤية المادية للعالم فقط، و بالتالي فإن الفلسفة المادية قد قامت بمهمتها التاريخية و لم يكن لتراجعها كبير أثر في العالم الحديث الذي صار مادياً صرفاً في رؤيته للعالم سواء بفلسفات تدعم هذه الرؤية أو بدونها. 
المكون الآخر من مكونات التصور المادي للوجود هو الزمان المادي أو "المادية التاريخية" إذا ما استعرنا المصطلح الماركسي، و قد تمثل هذا المكون في الفلسفات التقدمية المختلفة بدأً من كوندورسيه صاحب كتاب " مخطط لوحة تاريخية لألوان تقدم العقل الإنساني" و صولاً إلى انجلز و " أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة".
إذا كانت الفلسفة المادية في رؤية الكون لم تلاقي قبولاً في الثقافة العربية الحديثة، و بقيت مخصوصة ببعض التيارات الأيديولوجية، فإن النظرة التقدمية كرؤية تاريخية قد صارت مدخلاً للفكر الحضاري و التاريخي و الاجتماعي العربي منذ ما صار يعرف "بعصر النهضة" إلى يومنا هذا حيث يصار إلى التمسك بمفهوم الزمن التقدمي كآخر معقل لأيديولوجيا الحداثة المادية، و يتم معارضته بمفهوم الزمن المتحول نحو الأسوأ الذي يولد معضلة حضارية يعجز أصحاب الرؤية الحداثية عن إيجاد حل لها.

الفكرة التقدمية و النظرة المادية للتاريخ. 
لقد تدرجت فلسفة الحداثة في نسج التصور المادي للحياة و الكون عبر محطات عديدة، كان أولها تكريس الفردية فيما صار يعرف بالفلسفة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية، و كانت الخطوة الثانية هي صياغة منهجية معرفية تناسب فردية الإنسان الحديث، فكانت عقلانية ديكارت التي نقلت العقل من فضاء الوجود " المفارق" إلى مستوى التفكر و الشك الإنساني الفردي المحض، هذه المنهجية المعرفية التي فصلت عالم المادة عن عالم الروح عبر الثنائية الديكارتية المعروفة، لتأسس بعد ذلك لإخراج عالم الروح خارج إطار المعقول عبر مقولة "كانت" عن الشيء بذاته الغير قابل للإدراك، هذا العالم الذي لم يجد الماديين بعد ذلك شديد عناء في رفضه و إخراجه من دائرة "الموجود" بعد أن خرج من دائرة " المعقول". 
من أجل أن تكتمل صورة العالم الحديث – عالم العقل و الطبيعة – كان لزاماً على الفكر أن يعدل ويغير في النظرة إلى التاريخ و الحركة الإنسانية بما يتناسب و محتواه الخاص . و جوهر هذا التغيير هو التالي : إن الإنسان هو صانع التاريخ و خالقه ، و لا مكان لأية قوى غيبية لتفسير حركة التاريخ، فالرأي القائل بأن القوى الفاعلة في التاريخ هي البشر أنفسهم يعد رأيا تقدميا ,يرتبط بمستقبل الإنسان و يعترف بفاعليته . أما تلك النظريات التي تعتقد بأن القوى الفاعلة هي قوى غير إنسانية ، أسطورية أو إلهيه أو طبيعية آلية فهي قوى رجعية مناهضة للتقدم" (1) .
إن الأيديولوجية الجديدة ما كان لها وهى تسعى نحو الإطلاق و الشمولية أن تقبل بفكرة إرادة مغايرة للإرادة الإنسانية كصانع للحركة التاريخية ، أو أن تقبل بفكرة انتهاء الزمان الإنساني و بداية زمان آخر ما وراء الحياة الإنسانية ، لأن هذه الأفكار من شأنها أن تقلب المعادلة رأسا على عقب ، لأنها تتناقض مع الأيمان بمركزية الإنسان ، هذا الأيمان الذي هو عصب الفكر الحديث كافة ، فالمركزية الإنسانية بعد أن تكرّست في الفكر و الوجود اكتملت على مستوى التاريخ و المجتمع بفكرة التقدم . فما هو محتوى هذه الفكرة التي أسست لمختلف الآراء و النظريات الاجتماعية و السياسية الحديثة على مختلف أشكالها و ألوانها ؟ 
قد يكون من الملفت للانتباه أن نرى أن هذه الفكرة لها من الشيوع و الانتشار لدرجة أن الكثيرين قد لا يصدقوا أنها وليدة القرن الثامن عشر فقط ،و أنها أقل أفكار هذا القرن استناداً إلى حجج و مبررات منطقية أو حتى شبه منطقية ، إنها لا تتجاوز كونها اعتقاداً إيمانياً محضاً تم التمسك به كما كما تم التمسك بغيره من المعتقدات "الطوباوية" الخيالية، و لذلك كان أنصار هذه الفكرة لاحقاً ( القرن التاسع عشر ) هم الأكثر احتفاءً بنظرية داروين في التطور العضوي - التي لا تقل افتراضية عن فكرة التقدم ذاتها – لكونها تقدم لهم أساساً يستندون إليه ، فتم اعتمادها مرجعاً في العلوم الاجتماعية و تأكيداً لمذهبهم ، و تطورت على أساسها مدرسة اجتماعية كاملة هي التطورية ( هيربرت سبنسر 1820 – 1903 ) .
ما الذي يعنيه التقدم الإنساني ؟
إن فكرة التقدم الإنساني تعريفاً هي:" نظرية تتضمن تركيباً للماضي و نبوءة عن المستقبل ، إنها قائمة على تفسير للتاريخ يعتبر البشر يتقدمون ببطء في اتجاه محمود و مرغوب فيه ، و يستنتج أن هذا التقدم سوف يستمر إلى أمد غير محدود ، و تشير الفكرة إلى أن وضعاً من السعادة العامة سيتم التمتع به في آخر الأمر باعتباره قضية العمل العظيم للأرض "(2) . 

إن هذا التعريف الذي قدمه ج . ب . بيري في كتابه ( فكرة التقدم ) يتضمن – و كما يشير هو نفسه ، النقاط الثلاثة التالية : 
1- إن فكرة التقدم تنتمي إلى نظام الأفكار نفسه الذي تنتمي إليه العناية الإلهية و الخلود الشخصي ، أي أنها فكرة إيمانية ، و هي في الحقيقة ليست سوى استبدال لفكرة العناية الإلهية ، ففي حين كانت الحياة الإنسانية تسير وفقاً لمبدأ العناية و الإرادة الإلهية أصبحت تسير وفقاً لمبدأ آخر هو قانون التقدم .
2- إن التعريف يشير إلى أن استمرارية الزمن هو شرط ضروري من شروط التقدم ، ذلك لأن الفكرة التقدمية ستفقد قيمتها إذا ما افترضنا أن الزمن الذي تتصرف به الإنسانية سيبلغ حده الأقصى في فترة قريبة .إن فكرة التقدم تفترض إلغاء التصورات القيامية و قد قامت هذه الفكرة في أوروبا على أساس إلغاء الـ Eschatology المسيحية(3). إن نهاية الزمان تعني مباشرة إقرار الإرادة الإلهية كمتصرف و مدبر للحياة الإنسانية مما يفتح المجال واسعاً أمام مراجعة قاسية لن تقود إلى أقل من نفي ركائز الفكر الحديث كافة ، لأن الفكر الحديث برمته قائم على أساس إنكار العناية الإلهية و رفض المبدأ الإلهي كمبدأ أول للوجود .
3- إن المبدأ الإلهي كمحرك للتاريخ يفترض غاية تصل إليها هذه الحركة ، و هكذا فإن حركة التقدم و التطور الإنساني بحاجة أيضاً إلى غاية تسعى إليها ، غاية تحقق ( وضعاً من السعادة العامة باعتباره قضية العمل العظيم للأرض ) و هذه الغاية كما يراها التقدميون هي الفردوس أيضاً كما هو الحال عند أصحاب المبدأ الإلهي ، و لكنه الفردوس الأرضي الذي سيحققه الإنسان لا الفردوس السماوي الذي صنعه الله ، و ليس مهماً بعد ذلك كيف ندعو هذا الفردوس الأرضي ، فقد يكون جزيرة توماس مور ( يوتوبيا ) أو شيوعية كارل ماركس أو غيرها ، إنها جميعاً تسميات مختلفة للفردوس الأرضي . 
و بشكل عام فإذا ما استبدلنا مبدأ العناية الإلهية بمبدأ الحركة الصاعدة إلى الأعلى و الأمام . و إذا ما استبدلنا يوم القيامة بالزمن اللامنتهي أو على الأقل ، الذي يصنع تفاصيله و علاماته الفارقة الإنسان . و إذا ما استبدلنا الفردوس السماوي بالفردوس الأرضي نكون قد حصلنا على فكرة التقدم و أحطنا بكل معانيها .
إذا ما نظرنا إلى فكرة التقدم تاريخياً فإنها ، و كما أشرنا تعود إلى القرن الثامن عشر ، و لعل الفرنسي كوندورسيه (1743_ 1794)(4) أول من صنع من هذه الفكرة نظرية في التاريخ ، فقد تحدث في كتابه " مخطط لوحة تاريخية لألوان تقدم العقل الإنساني " عن عشرة مراحل للتطور و تقدم الحضارة الإنسانية ، المراحل الثلاثة الأولى تشكل المجتمعات البدائية ثم العصر الرعوي فالعصر الزراعي ، هذه المراحل الثلاث تنتهي باختراع الكتابة الأبجدية في اليونان ، و المرحلة الرابعة هي تاريخ الفكر الإغريقي حتى التقسيم المحدد للعلوم في زمن أرسطو .
المرحلة الخامسة و فيها تتقدم المعرفة ثم تعاني الظلام تحت الحكم الروماني . 
المرحلة السادسة و هي العصور الوسطى المظلمة التي تستمر حتى زمن الحملات الصليبية .
أما المرحلة السابعة فهي تهيئة عقل الإنسان ما قبل النهضة للثورة على الأوضاع البالية .
و المرحلة الثامنة هي ما نسميه الآن بعصر النهضة منذ اختراع الطباعة و حتى ديكارت .
و المرحلة التاسعة هي ثورة ديكارت العقلية التي تنتهي بخلق الجمهورية الفرنسية .
و لا يتحدث كوندورسيه عن المرحلة العاشرة بل يتركها للمستقبل ، و هو لا يشك بأنها هي ذلك الفردوس الذي سيصل إليه التقدم الإنساني الذي افتتحته الثورة الفرنسية(5). 
إن تقسيم كوندورسيه يمثل نموذجاً لتقسيم الحركة التاريخية عند التقدميين بشكل عام ، فهو لا يستند في تقسيمه للتاريخ و الحركة و فهمه للحركة التاريخية إلى أية منهجية علمية ، إن جل ما يسعى إليه هو إظهار الحركة التقدمية الصاعدة و أفضلية المرحلة التي ينتمي إليها هذا المفكر سواء كان هذا الانتماء واقعاً محققاً أو انتماءاً أيديولوجيا مستقبلياً ، و سوف يتكرر ذلك في تقسيمات كونت و هيغل و ماركس .
فأوغسط كونت يرى بأن البشرية مرت في تطورها بثلاث مراحل :
1. المرحلة اللاهوتية .
2. المرحلة الميتافيزيقية .
3. المرحلة الوضعية (6). 
و المرحلة الوضعية هي التي أسس لها كونت ذاته و التي هي برأيه غاية التقدم الإنساني . إن كونت يفصل مطولا سمات كل مرحلة من هذه المراحل لإظهار التفوق النوعي للمرحلة المتقدمة على المرحلة السابقة في كافة النواحي ، ثم لإظهار أفضلية المرحلة الوضعية ، و هذه المراحل الثلاث تبدوا عند كونت كمنظومات متكاملة تتميز بعضها عن بعض بأنظمة فكرية واجتماعية كما تتميز بعلومها وطرائق بحثها ، و هذا هو المقياس الأهم عند كونت.
و قد توضحت فكرة المنظومة التاريخية في الفلسفة الماركسية التي قسّمت التاريخ الإنساني إلى خمس مراحل يقابلها خمس منظومات اقتصادية و اجتماعية هي التالية :
1. المشاعية .
2. العبودية .
3. الإقطاعية .
4. الرأسمالية .
5- الشيوعية 
و كذلك فقد أكد ماركس و أتباعه بحماس منقطع النظير على أن المرحلة الشيوعية هي غاية التقدم و هي الفردوس الأرضي الذي يجب أن نستبدل به أوهام الفردوس السماوي . 
إذا كانت هذه هي النظرية التقدمية ، فما هي مآخذنا عليها ؟
أولاً : إن فكرة التقدم أو أي نظرية أخرى في الحركة التاريخية تشير و كما هو واضح من اسمها إلى حركة ، و نحن نعلم أن طبيعة و اتجاه أي حركة مرتبط بمبدأ هذه الحركة و مرتبط بغايتها ، إذ أننا لا 
نستطيع أن نطلق حكماً على اتجاه الحركة دون أن نكون حددنا مسبقاً مبدأ هذه الحركة و الغاية التي تصبو إليها ، و بالتالي فإن المبدأ الإلهي كمبدأ أول للوجود الكوني و الإنساني يفترض أن تكون أية حركة في أي اتجاه سوى العودة إلى المبدأ حركة انحطاطية لأن أي حركة تعني منطقياً ابتعاداً عن المبدأ الأول ، و أي ابتعاد عن المبدأ الأول الذي يمثل الكمال هو انحطاط و تراجع .
و هكذا فإن الفكرة التقدمية لا يمكن أن تستمد شرعيتها النهائية إلا من خلال إلغاء أو على الأقل تهميش الوجود الإلهي كمبدأ أول ، هذا الإلغاء الذي هو غاية و جوهر الفكر الغربي الحديث ، و قد سارت الفكرة التقدمية إلى هذه الغاية عبر الخطوات التالية ، فلكي تكون الحركة تقدماً و ارتقاءً لا بد من قضيتين أساسيتين : 
أ . أن نفصل الحركة الكونية عن الحركة التاريخية ، و قد قام الفكر الحديث بذلك عندما اعتبر الوجود الكوني وجوداً سرمدياً لا بداية له و لا نهاية .إن النظرية التقدمية تتحدث عن الحركة التاريخية فقط ، فالكون وجود أزلي و في نقطة ما من هذا الامتداد اللامتناهي يبدأ الوجود الإنساني متحرراً مستقلاً عن الكون ، ليبدأ رحلة التقدم اللانهائية ، بينما تقدم النظرية النقيضة للتقدم، و هي النظرية الدورية(7) نظرة شمولية لا انفصال فيها بين الوجود الإنساني و الكوني حيث أن الانتقال من دور إلى آخر يترافق و يتوافق مع تغيرات شمولية على المستوى الكوني كافة ، فالزمان و المكان في النظرية الدورية مقولات نوعية لا كمية بحتة .
ب . لا بد من اعتماد مبدأ آخر للحركة التاريخية عوضاً عن المبدأ الإلهي و هذا ما حصل بعد الانقلاب الإنساني في عصر النهضة و الذي تعزز في عصر التنوير . لقـد عبّر المادي الفرنسي 
ديدرو عن هذا الانقلاب بالشكل التالي : " إن وجود الإنسان هو الذي يضفي أهمية على وجود الأشياء الأخرى . لم لا نجعله مركزاً عاماً . الإنسان هو الحد الوحيد الذي يجب أن ننطلق منه "(8) 
و هكذا نرى بأن الفكرة التقدمية ليست غريبة عن جوهر الفكر الحديث ، إنها استكمال لذات الغاية ، غاية إلغاء المبدأ الإلهي للوجود ، إنما على المستوى الاجتماعي و التاريخي ، إنها تكريس للمادية على مستوى التاريخ و ليس غريباً بعد ذلك أن نرى أن الماركسية قد أطلقت على نظريتها الاجتماعية اسم المادية التاريخية .
ثانياً : إننا لنعجب أشد العجب عندما نرى أصحاب فكرة التقدم يتحدثون عن حتمية هذا القانون و هيمنته على الحياة الإنسانية . إنه يبدو و كأنه القدر الذي لا مفر منه ، يقول أوغسط كونت واصفاً حتمية التقدم و التطور ما يلي : " يحرك القانون الأعلى لتقدم الفكر الإنساني كافة الأشياء و يهيمن عليها ، فهو يعتبر الإنسان كأداة ، و نحن غير قادرين عل التخلص و الإفلات من تأثير هذه القوة المستقلة عنا و السيطرة على عملها ، كعجزنا عن تغيير قوة الدفع الأصلي التي تسيّر كوكب.نا حول الشمس . الآثار الثانوية وحدها تخضع لسيطرتنا و ترتبط بنا ، و كل ما نملكه هو إطاعة هذا القانون ( سعادتنا الحقيقية ) و الخضوع له و معرفة الوقائع و تحليل المسيرة التي تفرضها علينا ، فلا نكتفي بالاندفاع الأعمى "(9) . 
إن نسبة القدرية و الحتمية التي أضفاها كونت على قانونه الأعلى لا تقل عن قدرية و حتمية المصير الذي كان ينتظر أوديب عند سوفوكليس ! و لكن إذا كان الإنسان هو الذي يصنع التاريخ و الحركة التاريخية ، فما الذي يجعل من قانون الحركة التاريخية مستقلاً عن الإنسان و مهيمناً عليه ، فمن المفهوم أن تكون الإرادة مهيمنة و مسيطرة على الإنسان إذا ما كان مصدرها فوق إنساني ، و لكن بعد أن أصبحت هذه الإرادة نابعة من الإنسان ذاته ما الذي يبقيها مهيمنة و مسيطرة و فوق الإنسان لتتحكم بمصيره ؟! 
إن تحويل الإرادة الإلهية إلى فكرة إنسانية ( فكرة التقدم ) لا بد إلا أن تخلق مثل هذا التناقض ، الذي تبدى في الفكر الغربي الحديث بنظريات تتحدث عن حتميات جغرافية و أخرى عن حتميات عرقية و ثالثة عن حتميات اقتصادية … الخ .
ثالثاً : تمتاز الفكرة التقدمية - و منذ ولادتها في القرن الثامن عشر – بارتباطها الوثيق بما يسمى بالمركزية الأوروبية Euro- centrism و أن جميع المفكرين التقدميين يرون بأن البشرية تتقدم في مراحل تطورها نحو نموذج واحد مهما اختلفت تفاصيله ، نموذج غربي كما رأينا عند كونت و ماركس ، وكذلك فقد كان هيغل يعتبر أن المرحلة الثالثة من تطور البشرية ( المرحلة الجرمانية ) التي تمثلها الدولة البروسية في القرن التاسع عشر هي أعلى مراحل التطور البشري إنها مرحلة الكمال . أما عالم الاجتماع الأمريكي (بارسونس )(10) فهو يرى بأن هيغل قد تسرع باعتباره الدولة البروسية تجسيداً للكمال و أن هذا الكمال قد تجسد الآن في الولايات المتحدة الأمريكية التي يرى فيها بارسونس المجتمع الرائد Society leader الذي يجب ينسج على منواله .
و قد أعاد الباحث الأمريكي المعاصر (فوكوياما)(11) صياغة هذه الفكرة من جديد في مقالته المشهورة ( نهاية التاريخ ) حيث يعيد الحياة إلى الفكرة الهيغيلية حول نهاية التطور و يرى في النظام الليبرالي و نظام السوق الذي تمثله الحضارة الغربية الحديثة ، مرحلة الكمال الذي لا يمكن أن تتجاوزه الإنسانية في تطورها و أن التقدم يمكن أن يكون في إطاره فقط .
إن ارتباط الفكرة التقدمية بالمركزية الأوروبية يجعل العديد من ممثلي ثقافة الاغتراب في بلادنا عاجزين عن تقديم ، بل و حتى عن تصور إمكانية أن يكون هناك طريق آخر غير الطريق الغربي ، لأن الطريق الغربي هو طريق التقدم و كل ما سواه فهو رجعي !! .
رابعاً : هناك جانب آخر لا بد من التوقف أمامه و هو حقيقة الإنجازات التي حققتها الحضارة الغربية الحديثة ، فرب قائل يقول أليست هذه الإنجازات دليلاً واضحاً على التقدم ؟
إن الحضارة الغربية الحديثة بكل ركائزها و مظاهرها ، قامت على أساس من إلغاء المبدأ الإلهي للوجود و تثبيت المادة و الفهم المادي عوضاً عنه . لقد أشرنا إلى أن التقدميين الأوائل كانوا يرون أن التقدم هو تقدم للعقل ، و ليس غريباً أن نرى تقدم العقل ( بمفهومه الحديث ) قد أعطى ثماره في إنجازات مادية ( الصناعة الحديثة ) ذلك لأن العقلانية الحديثة لا يمكن أن تقود إلا إلى المادية ، و ليس غريباً أن تقوم حضارة مادية بتحقيق إنجازات مادية ، فالمادة هي المجال الذي يمكن للفكر الحديث أن يحقق فيه ذاته ، إنها الحقل المناسب لنمو مثل هذه البذور . و لكن السؤال الأهم هو التالي : ما هو موقع المادة في مراتب الوجود ؟ و هل تقود الحضارة المادية بإنجازاتها الضخمة و العديدة الإنسان في الاتجاه الصحيح الذي يحقق الغاية من وجودة و يعطى لهذا الوجود معنى؟ إن الجواب هو لا و بالتالي فما هي القيمة الحقيقية لكل الإنجازات المادية للحضارة الحديثة بالمقياس الكلي و الشمولي للوجود الإنساني؟ 
لقد فقدت فكرة التقدم في الغرب بريقها و وهجها الذي كانت تمتلكه في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر ، بعد أن لعبت دورها في استكمال رسم الصورة المادية للوجود ، إلا أن الفكرة التقدمية لا زالت شديدة الانتشار في بلادنا و هي في الحقيقة ليست إلا اسم بديل للطريق المؤدية إلى نمط الحياة الغربية الحديثة مهما اختلفت التسميات .
القضية الأساسية بالنسبة للفكر الإسلامي على وجه الخصوص هو أن لا يكتفي بنقد الزمان التقدمي فقط، بل الأهم من ذلك أن نبدأ في صياغة فلسفة إسلامية حقيقية للتاريخ تنطلق من مبدأ الإرادة الإلهية في التاريخ كحقيقة كبرى لا يمكن تجاوزها، و هذه دعوة لكل المفكرين لمواجهة هذا التحدي الكبير للفكر الإسلامي المعاصر.
-----------------------------------
1) حسن محمد الكحلاني، فلسفة التقدم، مركز الإسكندرية للكتاب، الإسكندرية 1997، ص 39. 
2) ج.ب. بيرى، فكرة التقدم. تر: عارف حذيفة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1988، ص 36.
3) Eschatology : فرع من علوم المسيحية يهتم بنهاية العالم و ما يرلفقه من أحداث و ظواهر، يقابله بالعربية مفهوم آخر الزمان و علامات الساعة. 
4) هو جان أنطون نكولا كوندورسيه Condorcet( 1743- 1794) مفكر و سياسي فرنسي، عضو الأكاديمية الفرنسية منذ عام 1785 ، شارك ديدرو و لاميتري في كتابة الموسوعة. 
5) انظر: ج. ب. بيري ، فكرة التقدم. مصدر سابق، ص 198.
6) حول قانون الحالات الثلاث عند كونت، انظر : فاروق عبد المعطي، أوجست كونت، مؤسس علو الاجتماع الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت 1993. ص 21-23.
7) النظرية الدورية : و هي نظرية شاملة في الحركة الكونيـة و التاريخيـة كانت سائدة فـي الحضارات القديمـة و الوسطى و أكثر ما تبدو وضوحاً في الديانات الشرقية و خاصة الهندوسية . و هذه النظرية ترى بأن الحركة الكونية تمر بأدوار متعاقبة يتضمن كل دور منها أربعة مراحل سماها أفلاطون بالعصور الأربعة : الذهبية و الفضية و البرونزية و الحديديـة ، حيث يمثل العصر الذهبي حالة الوجود المثلى التي تنحدر عبر المراحل المتبقية لتصل إلى النهاية التي هي بدورها بداية دور آخر جديد . و هذه الأدوار جميعاً هي مراحل في الدورة الكلية الشاملـة التي تبدأ من نقطـة الوجود الأولي لتعود إليها في النهاية و بذلك فإن الحركة في النظرية الدورية ذات بعدين اثنين فهي انحطاط لكونها تبتعد عن المبدأ في نقطة البداية و هي في ذات الوقت تقدم ارتقاء لأنها تسير باتجاه المركز في نقطة النهاية .
8) من المفكرين المسلمين الذين تحدثوا في النظرية الدورية ( البيروني و إخوان الصفاء ) ، أما من الفلاسفة الحديثين فقد اقترب أرنولد تويني و اشبنغلر في فهمهم للحركة التاريخية من النظرية الدورية .
9) ج . ب . بيري ، فكرة التقدم . مصدر سابق ، ص 159 .

10) جان لاكروا ، أوغسط كونت .تر :منى النجار الرافعي ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ،1977 . ص10 .

11) بارسونس Talcott Parsons ( 1902 – 1979 ) عالم اجتماع أمريكي ، عمل منذ عام 1927 في جامعة هارفرد و في عام 1949 أنتخب رئيساً للجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع .

12) فوكوياما Fukuyama (1921 ) عالم اجتماع أمريكي معاصر من أصول يابانية ، اشتهرت مقالته التي كتبها عام 1990 (نهاية التاريخ) و التي جاءت بمثابة إعلان انتصار للأفكار الليبيرالية الديموقراطية الغربية على خلفية الانهيار الشيوعي في أوروبا الشرقية . أنظر : فوكوياما ، نهاية التاريخ . النص و ردود ، تر : يوسف إبراهيم الجهماني . دار الحضارة الجديدة . بيروت ، 1993 . 
 

 

تاريخ النشر : 30-05-2006

6403 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com