آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

الصدع الكبير بين "الانجراف" الثقافي والوعي المُفَوَّت.

احميدة النيفر


كان على المسلمين أن ينتظروا سنة 1139 هـ/1726 م ليشهدوا دخول أول مطبعة بالأحرف العربية ديارَهم بعد أن أعلن قاضي اسطامبول « اسحاق زادة افندي » أنه "يتوجّب شكر الله على هذا الفن البديع" مُنهيا بذلك فترة حظر طويلة شملت الطباعة وكل كتاب غير مخطوط. وأيّا كانت أسباب المنع فالمؤكد أن المسلمين الذين انتظروا ثلاثة قرون للاستفادة من هذا "الفن البديع" لم يكونوا مقطوعين عن جانب من حركية الغرب الأوروبي العلمية. لقد أثبتت الوثائق الرسمية أنّ العثمانيين أقبلوا منذ القرن الخامس عشر على تبادل تجاري واسع مع أوروبا تمثّل خاصة في اقتناء الجديد من أدوات الحرب والقتال، لكنهم مع ذلك لم يروا أيّ داع للاهتمام بالمخترعات الأوروبية المتصلة بالطباعة والنشر. أكثر من ذلك، لم تر السلطات في تلك المخترعات - عند السماح لها بالدخول- إلاّ كونها أدوات لفنّ جميل لا يختلف عمّا عهدوه من فنّ الخط و الزخرفة. فكما فاتها أن تجعل المطبعة من مقتنياتها الأوروبية في الأول فاتها بعد ذلك أن تدرك أبعادها الحقيقية والآفاق الفكرية والاجتماعية التي يمكن أن تفتحها للمسلمين.
تستوقفنا هذه الحادثة الهامّة لدلالاتها البعيدة في التاريخ الثقافي الوسيط للعالَم القديم وما اعتراه من تحوّلات حضارية كبرى ولإضاءتها أزمة مسلمي اليوم الثقافية و الفكرية . 
أولى تلك الدلالات تتعلّق بالعالم الإسلامي في مسيرته الحضارية، إنّه حقّق مع فتح القسطنطينية على يد العثمانيين ( 857 هـ/ 1453م ) نوعا من التعويض عمّا كان لحق به قبل ذلك بعقود عندما سقطت قرطبة( 633هـ /1236م) مؤذنة بأفول نجم المسلمين في الغرب الأوروبي. لكن مؤشرات عدّة تؤكد أنّ ما غنمه المسلمون في شرق اوروبا لا يعادل خسارتهم الحضارية في غربها لأن العثمانيين رغم جهودهم الكبرى ما استطاعوا إحياء قرطبة. 
في الجهة المقابلة على الضفة الأوروبية وفي ذات فترة القرن الثامن عشر كانت أولى لبنات العصر الحديث توضع مُشَكِّلةً ملامح ظاهرة ثقافية غير مسبوقة طوال القرون. إنه " ترفيع" أوروبا إلى رتبة قارّة منفصلة ثقافيا و فكريا عن آسيا وإفريقيا اللتين كانتا ملتحمتين بها فيما كان يعرف بالعالَم القديم. كانت أهم نتائج العصر الحديث ظهور صدع كبير فصل القسم الأوروبي عن مجموعته الأفريقـ-آسيوية ، حسب مقولة المؤرخ الأمريكي "مارشال هدجسون" ( Marshall Hodgson) صاحب نظرية وحدة التاريخ العالمي. لقد تمكّنت أوروبا نتيجة ثوراتها المعرفية الكبرى وما نجم عنها من تقدّم صناعي وتطبيقات علمية و تحوّلات اجتماعية وسياسية من أن تختطّ لنفسها موقعا لا يضاهى بالنسبة إلى الصين و الهند فضلا عن إفريقيا. لقد ظهر مع العصر الحديث أخدود عميق في الأرضية " الأورو-أفريق-آسيوية" التي شهدت طوال القرون حالة تواقف و ترابط سمحت بحركة الأفكار وتواصل المعرفة وتأهيلِ ثقافات الإنسان القديم بعضها لبعض. 
كان ذلك الانقلاب في المستوى الثقافي الإنساني أشبه بما يُعرف بالانجراف القارّي المعتَمَد لدى بعض علماء الأرض القائلين بانفصال قارّات المعمورة بعضها عن بعض تدريجيا بعد أن كانت متّصلة و مشكّلة كتلة واحدة .
ما أتاحه الصدع الثقافي الحديث لأوروبا هو تنكّر شبه نهائي لما كان يعرف مثلا في القرون الوسطى بالتواصل المعرفي (Translatio-Studiorum ) و الذي تمّ بفضله تبادل فكرّي وعلميّ لم ينقطع بين الشرق و الغرب الأوروبي متيحا لهذا الأخير جانبا من أسباب نهضته. 
بهذه القطيعة اختلّ التوازن القديم الذي كان يرتكز على" ترسيمة" تتكامل فيها الأقسام الثلاثة المكوّنة للعالم القديم. من ثم أصبح من الممكن لتيارات عنصرية و نظريات حمائية كارهة للأجانب أن تتبنّى قراءة مُجتَزَأَةً لتاريخ الغرب الأوروبي على أساس أنّه في تحديد هويته الثقافية- الحضارية لا يدين لأحد إلا للأصول اليونانية –الرومانية التي يضيف إليها البعضُ النسقَ اليهودي- المسيحي. بهذا التمشي الانتقائي أمكن لأوروبا أن تتعملق بينما تضاءل شأن الباقين إِنْ لم يضمحل. 
أخطر ما في هذا التحرّف في رؤية العالَم أنه مكّن نخبا وشعوبا من أن تعتبر نفسها محورا مركزيا للتاريخ والتقدّم فلا تقيم للآخرين وزنا على اعتبار أنّهم لم يكونوا- في أفضل الحالات- سوى بوادر هامشية لا أثر لها في الحراك الرئيسي العام الذي ترى نفسها ممثِّــلة له وفاعلة فيه بجدارة. 
في المستوى السياسي الاجتماعي عرف التشكّل الأوروبي مع العصر الحديث تناميا للنزعات القومية في غالب دوله.تمثّلت أبرز سمات هذا التوجه في إيلاء حماية الأرض القومية وقدسية حدودها الجغرافية أهميّة قصوى إلى جانب حرص على تماثل عناصر مجتمع كل دولة بالتضييق على الأقليات والتشديد على ما يمكن أن يشجع الاختلاف والتعدّد. بذلك تميّزت سيرورة هويّة الغرب الأوروبي في العصر الحديث بحركتين متزامنتين: ابتعاد عن فضائه الثقافي القديم و إعلاء من شأن الشخصية القومية وتحصينها بشكل حادّ ممّا ولّد صراعات داخلية و أشعل نار نزاعات و حروب أوروبية مدمّرة. 
بالعودة إلى العالم الإسلامي في القرن 12 هـ / 18م ، لحظةَ ولوج الطباعة إليه، فإنّنا لا نكاد نقف على ما يدلّ على تقدير السلطة العثمانية طبيعة التحوّلات التي كانت تعتمل في أوروبا المجاورة. لم يكن في سياسة اسطمبول أو في خطابها ما يدلّ على استيعابها حاجة المسلمين إلى تواصل مع تطلّعات عالمه الثقافي القديم بجزئيه الآسيوي والإفريقي فضلا عمّا كان يتحقّق في أوروبا التي توالت حركتها نحو النهضة. ظلت سياسة الأمبراطورية العثمانية توسعيّة غازية طوال القرن 10هـ /16م ثم دفاعية انكفائية في القرون الموالية. لذلك لم تغادر في الحالتين رؤيتها الوسيطة للعالَم في حين كان انجراف أوروبا عن مجموعتها الثقافية القديمة تدشينا للعصر الحديث بتموقع جديد وتحولات اجتماعية سياسية هائلة. تلك هي المفارقة الكبرى التي عاشها جزآن متجاوران من العالم القديم، جزء يولد من جديد وجزء يذوي ويندحر.
لكن ما يلفت النظر في الحداثة الأوروبية أنها وإنْ انطلقت من " قطيعة" ثقافية وفكرية فإنها سرعان ما أدركت حاجتها إلى التمدد والتوسّع ممّا دفع بها إلى العودة إلى عالمها القديم لكن بصورة أخرى. لقد كان المشروع الاستعماري الغربي في جانب منه تعبيرا عن استعادة لعلاقات الارتباط القديمة لكن في سياق هيمنة واستعباد. الأهمّ أنّ هذا الوضع لم يطل به الزمن إذ تأكد الأوروبيون بصورة تدريجية أن الشعوب المستعمَرة في آسيا وإفريقيا وإنْ خضعت إلى مشروعهم التوسّعي و استفادت منه جزئيا فإنّها لم تكن منقادة له بالكامل. هذا الرفض للاستقالة التامة كان دالاّ على أن ذلك القاع الثقافي القديم ما زال قائما وأنّه لا يتيح تجاهل علاقات الارتباط و التواقف أو التلاعب بها. 
أمّا العثمانيون فإنّهم - رغم جهود إصلاحية عديدة -كانوا في إعراض كامل عن أهمّ ما أثبته العصر الحديث. كان خطاب القيادة العثمانية أمبراطوريا كأنه يردد في ثقة كاملة ظاهر قول الشاعر العربي: "السيف أصدق أنباءً من الكتب" رغم وضوح الأدلة على تداعي الأمبراطوريات. كان الخطاب وثوقيا لا تزيده الأيام إلا صرامة لاعتقاده أن الأمجاد الماضية تكسبه مناعة و أنّ ما تراكم من ثروات هائلة وحضارة باهرة يعفيه من إدراك الدرس الأوروبي الحديث المثبت أهميّةَ " القطيعة" في صياغة التاريخ من جهة وحتميةَ الانفتاح على الآخر وقبولَ ما يفرضه من مراجعات من جهة أخرى.
لقد استعادت الدولة العثمانية لقب الخلافة الإسلامية مع السلطان سليم الأول أوائل القرن 10هـ /16م لكنها لم تتجاوز في ذلك نوعا من الترميز الباهت الذي لم يولّد خطابا جديدا يدلّ على تحوّل في رؤية الذات ورؤية الآخر.
كان هذا التحرّف الآخر في رؤية العالَم هو الذي أعجز العثمانيين عن بناء مشروع للمسلمين يكونون فيه موصولين ثقافيا مع العالَم الحديث وليس في مواجهته. 
لقد غشّى الواقع الأمبراطوري الوسيط إمكانيةَ رؤية ما يحدث بجواره ثم استفحل الأمر عند حصول الانقلاب السياسي في القرن 13هـ/19م مع جمعية "الاتحاد والترقّي" وحزب "تركيا الفتاة". لقد ظهر شرخ في الذات الثقافية انطلق من تركيا ثم تعمّق في كامل العالم الإسلامي عبر تحديث قسري غير موصول بالتراث وبالمؤسسات التقليدية و غير ساعٍ لإعادة قراءة لحظات التأسيس الأولى وما اتصل بها من روابط تلك الذات بالعالم القديم. 
هذه أهمّ الدلالات الثقافية لحادثة دخول المطبعة البلاد الإسلامية بتأخير كان مقداره ثلاثة قرون، تأخيرٍ ندرك إلى اليوم آثاره في وعي مفوَّت لا يتيح مصالحة المجتمع مع نفسه ومع عصره.
لتجاوز هذا النوع من الوعي غير المُجدي ينبغي تحديد طبيعة الإشكالية في عالم المسلمين بطرح سؤالين: 
-كيف يمكن تجاوز المواقف الدفاعية التي تعتبر أن التراث المنجَز له كامل القدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة؟ 
-كيف يتأتّى تأهيل الثقافة الإسلامية في حين أننا نواصل الإعراض عن اعتبار الإسلام في لحظة التأسيس كان تواصلا وقطيعة في آن واحد، تواصلا مع السمات الأساسية لقيم الإنسان وسيرورة التاريخ في العالم القديم وقطيعة أسست لرؤية جديدة للعالَم والحياة والمجتمع؟
بذلك تبرز معضلة الثقافة والفكر لدى مسلمي اليوم بوجهيها: وجه الخصوصية التي لا معنى لها إنْ لم تُتَرجَم ضمن فاعلية في التاريخ ووجه العالمية التي تقتضي مراجعة جديّة للنظريّة التي تستبطن عنفا مدمّرا والقائلة إن الإصلاح لايكون إلاّ ذاتيا في مضمونه و أدواته و آفاقه. 
 

 

تاريخ النشر : 02-12-2006

6311 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com