"نظرية المؤامرة" تحظى بالقبول والممارسة عادة في أوساط القوميين واليسار عمومًا والإسلاميين، وخاصة الذين ينشغلون بفكر الشبهات والتيارات الفكرية المعاصرة من منطلق عقائدي، وفي المقابل تحظى تلك النظرية بالنقد والسخرية الشديدة من قبل الليبراليين العرب. ويتحدث المؤيدون لها عن معلومات وافتراضات وتاريخ كامن خلف ما يبدو على السطح من أمور. بينما يتحدث الناقدون أن تلك النظرية شماعة نعلق عليها أخطاءنا، ونبرئ أنفسنا من المسؤولية، ونريح أنفسنا من عناء البحث عن الحقائق والمعلومات، ويتحدثون عن أن المصالح هي التي تتحكم بالعلاقات، فضلاً عن موقفهم التصالحي مع الآخر الغربي.
ومما لا يصعب إدراكه في هذا الجدل كله، هو أن كل طرف يتشنج في مناقشة الآخر، ووصلت المبالغات بالمؤيدين إلى حد القول: "نواقض نظرية المؤامرة: وجود المؤامرة"، كما دفعت الناقدين إلى القول: إنها خصيصة عربية، فكتب البعض (لماذا تتمكن نظرية المؤامرة من العقل العربي؟) وكتب كاتب قطري اعتاد على جلد الذات العربية واحتقارها بنبرة متعالية: لماذا - نحن ومن دون الأمم كلها - تتمكن منا - من عقولنا ونفوسنا - نظرية المؤامرة العالمية علينا؟.
إن التفكير وفق منطق المؤامرة لا يختص بالعرب وحدهم، على خلاف معتقد الكاتب المتعالم، فعلى سبيل المثال: كتاب "11-9 الكذبة الكبيرة" (نشر تحت عنوان: الخديعة المرعبة) لم يكتبه كاتب عربي، بل فرنسي اسمه تيري ميسان، وفي مقدمة كتاب "حكم أمريكا" (جامعة هارفرد 2005) الذي يركز على بحث الدور المحوري للنخب الأميركية يتحدث محررا الكتاب: ستيف فارسر وجاري غرستيل في مقدمتهما عن أن الحديث عن دور النخب الأميركية قد يُنظر إليه باستهجان على أنه انخراط في نظرية المؤامرة أو على أنه محاولة لإثارة الصراع الطبقي داخل أميركا فيؤكدان على أن منهج كتابهما بعيد كل البعد عن نظرية المؤامرة. وهذا يؤكد حجم حضور منطق المؤامرة واستهجانها معًا في الثقافة الأميركية، حتى الأكاديمية منها!.
إن هذا المنطق يكاد يشكل طريقة للتفكير، ومن ثم فهو يتوزع على مجالات عديدة، بدءًا من الكتابات التاريخية التي تضخم من أدوار بعض الشخصيات أو تفردها وتنسب إليها أدوارًا تاريخية، كما تفعل كتب التاريخ مع شخصية عبد الله بن سبأ مثلاً، وصولاً إلى المؤامرات العالمية ضد الإسلام والمسلمين، أو "الصليبية" أو الماسونية، أو أندية الروتاري، أو بروتوكولات حكماء صهيون، وصولاً إلى الحرب على العراق، وأحداث 11 أيلول 2001م واغتيال الحريري.
ومما لفت انتباهي أن لفظ "المؤامرة" أصبح مصطلحًا أو مفهومًا يتم شرحه وتعريفه، فعلى موقع وزارة الخارجية الأميركية نجد تعريفات لعدد من المصطلحات منها: (نظريات التآمر هي الاعتقاد بأن هناك قوى شريرة خفية قوية تتحكم سراً بمجرى أحداث وتاريخ العالم). وفي موسوعة ويكيبيدا على الإنترنت: (نظرية المؤامرة Conspiracy Theory ببساطة هي عدم تفسير الأمور حسب المعطيات الواقعية والمنطقية المتوفرة أو المستنتجة وتفسيرها على أساس بأنها من فعل شخص أو جهة منافسة تبقى دائما محصورة بفكرة يحملها معه في كل وقت).
ومن المؤكد أن منطق المؤامرة لا يزال يتحكّمُ في طريقة تفكير شرائح واسعة من العرب والمسلمين في قضاياهم، خاصةً القضايا السياسية التي تمس وجود المسلمين في هذه البقعة أو تلك من العالم، بل إن بعض الكتّاب يسرفون جدًّا في كيفية معالجتهم لموضوعاتهم، وسيادة منطق المؤامرة، ولا أنسى حين كنت صغيرًا وقرأت بعض كتب عبد الرحمن حسن حبنكة مثل (مكايد يهودية) أو كتب عبد الله ناصح علوان مثل (تربية الأولاد في الإسلام): كنت أخرج بشعور بالغ السلبية؛ إذ أحس بأن العالم كله يحاربني ويقعد لي كلَّ مرصد، وأن اليهود يسيطرون على العالم، وأن الماسونية هي التي تحرك الرؤساء الذين لا يَعْدون كونهم أحجارًا على رقعة شطرنج!. وما استطعت التخلص من هذا إلا لاحقًا.
وفي تحليل هذا المنطق، طرح البعض ثلاثة أشكال له، هي: الاستهداف، والاستدراج، والتشكيك. فالاستهداف يؤكد أن العرب (أو المسلمين) مستهدفون من جانب القوي الخارجية أو أنه لن يسمح لهم بأن يصبحوا دولا مؤثرة سياسيا أو متطورة اقتصاديا أو متقدمة تكنولوجيا، أو قوية عسكريا. وبالرغم من أن هذا لا يمكن نفيه بالمطلق وعليه شواهد تاريخية، فإن هذا المنطق في التفكير يتصور أن العلاقة بيننا وبين الآخرين هي علاقة صراع فقط وبالتالي فلا تقبل التنافس أو التفاوض، وأن العلاقة هي بين نحن وهم فقط.
وهذا النمط من التفكير يغيب عنه ما هو سائد في دراسة العلاقات الدولية من أن العلاقات هذه محكومة بالمصالح، وكل دولة تسعى لتحقيق مصالحها، ولو على حساب الآخرين، وأن أي تهديد لمصالحها يعتبر تهديدًا لها، ومن ثم فهي تضغط أو تخطط أو تسعى لإزاحة هذا التهديد. وأن الإطار الحاكم للعلاقات ليس الصراع فقط، فهناك نمط من العلاقات التنافسية التي تتوسل بأدوات عديدة منها الضغوط ومنها المفاوضات، ومنها الصراعات السلمية، ومنها الوصول إلى حلول توافقية قائمة على تحقيق مصالح للطرفين، والأهم من ذلك هو أنه لا يمكن تبسيط تصور العالم إلى نحن وهم فقط!.
ومما لا شك فيه أن قدرنا وضعنا في منطقة حيوية واستراتيجية بالنسبة للعالم، وهذا جعل من منطقتنا محط أنظار العالم، وساحة للصراع والتنافس على المصالح كنا نحن ضحاياها.
وفيما يخص شكل الاستدراج، فتتمثل فكرة هذا النمط في وجود مخطط أعدته دولة كبرى في العادة لإيقاع طرف يقف في مواجهة مصالحها العليا في المنطقة العربية في وضع معقد وذلك وفقا لمجموعة من الخطوات التي يتم بموجبها استدارجه إلي حيث يمكن التمكن من اصطياده أو الإجهاز عليه, وذلك وفقا لأسلوب الكمائن المعروف في العمليات العسكرية. والمثال الأبرز لهذا هو حرب الخليج الثانية، لكن سواء اتفقنا مع هذا التحليل أم لا فإن هذا التحليل يتجاهل أهم عامل في المشكلة وهو موقف صدام حسين نفسه، فإذا كانت أمريكا تآمرت عليه واستدرجته لدخول الكويت فأين مسؤوليته هو؟ وهل كان فاقد الإرادة والاختيار هو ومستشاروه وجيشه؟
النمط الثالث والأخير هو التشكيك، والمثال الأبرز له هو أحداث سبتمبر، وفي الغالب يستند هذا النمط إلى عدم الثقة بالطرف الآخر، ويعتقد بكذبه، كما أنه يميل إلى الاعتقاد دومًا بأن ما يبدو على السطح يخفي وراءه أشياء كثيرة.
إن رفض منطق المؤامرة كطريقة للتفكير هو مسلك علمي، لكن ذلك لا يعني أن كل أحداث الواقع تجري بطريقة منهجية، كما أن رفضه لا يعني السذاجة بحيث إن تلك الحوادث تقع بعفوية وطبيعية، إلا أن البحث في تفسير الأشياء تفسيرًا علميًّا يحتاج إلى جهد وبحث ومعرفة دقائق الأمور، والقدرة العقلية على التحليل والتركيب، وغير ذلك، وهذا لا يتوفر لكثير من الناس، مع وجود الحاجة الملحة لدى كل إنسان لتفسير ما يجري من أحداث، وخاصة ما يغمض منها، وفي هذه الحالة تشكل "نظرية المؤامرة" حلاً تفسيريًّا يمتلك القدرة على تفسير كل شيء، بيسر وسهولة، يغطي العجز عن كل ما سبق. فإذا كان هذا يتم في وسط إعلام حكومي يتستر على أكثر مما يعلن، وفي ظل غياب ثقة بالآخر الحكومي أو الخارجي، ومع انعدام المعلومات وتضارب التفسيرات المعلنة تصبح نظرية المؤامرة هي الحل الأنسب. وأحسب أن عدم وجود اعتراف بعلم اسمه السياسة لدى العامة مما يؤدي إلى هيمنة منطق المؤامرة في التفسير.
إنه مما يجب التيقظ له، أن رفض منطق المؤامرة كمنطق تفسيري للأحداث والوقائع لا يعني نكران أن هنالك تخطيطًا وتدبيرًا يحركان كثيرًا من الأحداث السياسية والتاريخية، يجب الوقوف عليه ومعرفة دقائقه، ولا ينبغي أن يفترض بالآخرين أنهم يستهدفون الخير العام للبشرية، ففكرة المصالح الخاصة هي التي تحرك سياسات الدول. إن التخطيط مُجردُ أداةٍ تتحكم في أهدافها وفي غاياتها المنطلقات العقَديّةُ والفلسفية الأساسية لمن يستخدمها في جميع الأحوال. وينبغي ألا نلوم الآخرين على أنهم يخططون لحماية مصالحهم التي قد تضر بنا، بل علينا أن نلوم أنفسنا لأننا لا نخطط لحماية مصالحنا. وقد قالت العرب قديمًا: "استأسد الحمل لما استنوق الجمل"، للدلالة على أن استصغار الإنسان لنفسه إنما هو الخطوة الأولى في طريق خوفه من الآخرين ورؤيته لهم أكبر وأقوى بكثير مما هم عليه في الحقيقة. وهو المعنى الذي جاء به القرآن حين قال: (فاستخفَّ قومهُ فأطاعوه).
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.