آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  الإسلام و الغرب

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    قضايا فلسفية    |    المرأة و النسوية

  •     

الخلل المنهجي في محاضرة البابا

أبو يعرب المرزوقي


لما قرأت عنوان المحاضرة التي ألقاها البابا (الإيمان والعقل والجامعة: تذكر وتأمل) في إحدى جامعات مسقط رأسه، كنت أنتظر خطابا يجمع بين حميمية السيرة الذاتية وجدية المفكر الجامعي الذي وصل إلى ذروة السلطة جمعا بين رئاسة المؤسسة الروحية والمؤسسة السياسية الغربيتين التقليديتين. أربع صفات اجتمعت في الرجل (أستاذ جامعي- مفكر يتأمل الشأن الإنساني- الحبر الأكبر/البابا -رئيس دولة الفاتيكان) فكان من المفروض أن يقدم لنا صاحبها درسا نموذجيا في الموضوع الذي اختاره فيقول في جوهر الإيمان والعقل ما يعالج أزمة الإنسانية خاصة إذا زعم المتكلم أنه جاعل منهما مادة للعلم بمعناه الأكاديمي الراقي والمتحرر بمنظور الواجب من المذهبية والانحياز اللاهوتي المقيت.
لم تكن المحاضرة خطابا يوجه إلى الإنسانية لعلاج أزمتها الروحية كما قد يوحي حدا عنوانها الأولان (الإيمان والعقل) بل هي تخاطب الإنسان الأوروبي الذي حصر تاريخ العالم كله في تاريخ الكاثوليكية عنده وذلك من منطلق أزمة العلاقة بين حد لم يرد ذكره في العنوان (اللاهوت الكاثوليكي) وحد العنوان الثالث (الجامعة). إنها تعليل لما طرأ في تاريخ هذه العلاقة أساسه تصور مجتزأ يحكمه حصر العقلانية في ما أنتجه العقل اليوناني الأوروبي وحصر الإيمان في الكاثوليكية الأوروبية واستثناء كل ما لا يحقق التطابق بين هذين التصورين المشوهين من الديانة والعقلانية السويتين لاستثنائهما عقل جميع البشر الآخرين وإيمانهم منهما بدءا بالمسلمين وختما بكل المسيحيين غير الكاثوليكيين الأوروبيين فضلا عن إغفال كل من سواهم من الآدميين في الفكر فضلا عن الذكر. 
ولعل الاقتصار على مناقشة المحاضرة من حيث الشكل الأكاديمي والمنهج العلمي كاف لبيان أنها ليست كما يزعم صاحبها عملا أكاديميا فيكون الخطاب فيها لمفكر حر بل هي تعبير عن موقف منحاز لعقيدة دينية مأزومة فيكون خطاب مبشرٍ غرٍ يركب موجة الإيديولوجيا العدوانية السائدة في السياسة الدولية. لذلك فسنوجه إلى المحاضر ثلاثة أسئلة تتعلق بما يعتبر من أبجديات البحث العلمي أعني المعيار الأول والأخير في تقويم المحاضرات الجامعية.
1- فهل المحاضر يقرأ القرآن في لغته فيفهم الآية التي ظنها تأمر بحرية المعتقد وحد من مدلولها بسبب نزولها أو ظرفه أعني ضعف محمد، ضعفه الذي أكده له ثقاة العلماء ؟
2- وهل هو متأكد من العنعنة عندما استشهد بثيودور الخوري الذي استشهد بأرنلداز في تحديد نظرية الله الإسلامية فيطمئن لعلمهما وينبني عليه دليل بضدها تعرف الأشياء الصريح في محاضرته لتعليله أخذ دلالة عبارة الإمبراطور المحاصر بداية وغاية لبحثه؟
3- وأخيرا كيف له أن يزعم أنه لم يقصد إهانة الإسلام والمسلمين لمجرد أن ما استشهد به ليس رأيه الخاص بل هو رأي من أشار إليه من مراجعه في حين أنه يعلل الحد من دلالة آية "لا إكراه في الدين" بسبب نزولها ناسبا إلى نفسه استشارة ثقاة العلماء ومضمرا أن القرآن فيه آيات أخريات تفيد عكس هذه الآية بعد أن أصبح محمد ذا حول وطول ؟

وفي الجواب على السؤال الأول لست أشك في أن المحاضر يجهل العربية. لذلك لم يفهم أن آية "لا إكراه في الدين" تنفي كل إمكانية لفرض المعتقد، ثم هو تصورها خالية من الكلام في الجهاد الذي جعله أداة فرض المعتقد في حين أنها تشير إليه إشارة مباشرة وصريحة بحقيقته التي يمثلها أفضل تمثيل مفهوم "الكفر بالطاغوت". ولا معنى للكلام على سبب نزول الآية للتقليل من دلالتها الكلية كما يزعم المحاضر استنادا إلى من يصفهم بكونهم من العارفين:" والقيصر كان يعلم دون شك أن الآية 256 من سورة البقرة التي مفادها ألا إكراه في الدين هي من السور الأولى من عهد كان فيه محمد ذاته فاقدا للقوة وتحت التهديد كما قال لنا العارقون" (من نص المحاضرة).
لا يمكن تفسير الآية بسبب نزول ظرفي، فهي لا تنهى عن الجهاد بالنهي عن الإكراه فيه فحسب بل هي تشترط للإيمان بالله الجهاد في سبيله ضد الطاغوت، وكل من قرأ القرآن يعلم أنه خال من كل ما يمكن أن يتضمن معنى الإكراه في الدين، سواء كان ذلك قبل تمكن المسلمين أو بعده رغم تعريض المحاضر بمثل هذا الزعم. والمعلوم أن الطاغوت الذي تشترط الآية الكفر به ليكون الإيمان إيمانا صادقا نوعان: أحدهما الطغيان الروحي، وتمثله السلطة الروحية الوسيطة بين الإنسان ورزقه الروحي. والثاني الطغيان المادي ، وتمثله السلطة الزمانية الوسيطة بين الإنسان ورزقه المادي. وليس من شك في أن ذروة الطاغوت المطلق هو التحالف بين الطاغوتين وعلامته التي لا تكذب هي تبادلهما الأدوار فيصبح صاحب الطاغوت الروحي خائضا في شؤون العالم الدنيوية كما في الحروب الصليبية الوسيطة التي قادها بابوات روما ويصبح صاحب الطاغوت الزماني خائضا في شؤون العالم الروحية كما في الحروب الصليبية الحالية التي يقودها بابوات واشنطن ! والحنين إلى التوحيد بين الدورين ليس مستبعدا !

أما السؤال الثاني في النقد المنهجي للمحاضرة فقد اعتمد محاضرنا الأكاديمي على عنعنه لم تعد في عصرنا مقبولة بل هي كانت دائما مرذولة بالنص الصريح حتى في مدارس عصور الانحطاط إلا بشروط التعديل والتجريح: "فعن الخوري عن أرنلداز (رضي الله عنهما !) أن ابن حزم قال لتعليل ما قال الإمبراطور بنظرية الله في الإسلام". أي علم هذا ينتهي بصاحبه المعتمد على دليل العنعنة إلى حشر كل فرق الإسلام من حيث تصورهم للذات الإلهية في تصور ابن حزم الذي لا تكاد فرقته تذكر بين فرق الكلام الإسلامي تسليما بأن ما فهمه ارنلداز في عرضه من عقيدة ابن حزم صحيح ؟ هل يقبل مثل هذا الكلام من طالب مبتدئ فضلا عن أستاذ يستمتع بذكريات حياته الأكاديمية التي مر عليها أكثر من نصف قرن فيكون منتسبا إلى المدرسة التقليدية التي عرفت بجدية التقصي وصرامة البحث ؟
وكم هو مضحك أن يتكلم المحاضر على ما أوجبته عليه النزاهة الفكرية Redlichkeit halber حينما أشار إلى ما اعتبره انحرافا وقع فيه لاهوت العصر الوسيط المتأخر عند بعض ممثلي العقيدة الكاثوليكية العقلانية مثل القديس اللطيف دانس سكوت من أصحاب الإرادوية في مقابل العقلانوية. زعم أن الإنحراف كاد يفقد اللاهوت الكاثوليكي عقلانيته باسقاطه في لاعقلانية المسلمين لفرط اقترابه من ابن حزم: : "ولنلاحظ عملا بما توجبه النزاهة العقلية أنه في العصر الوسيط المتأخر تطورت تيارات من علم اللاهوت ترفض هذا التأليف بين ما هو يوناني وما هو مسيحي" ! 
لماذا لم يكلمنا المحاضر عن الحركة الجانسينية وعن ديكارت وباسكال وجوته في موقفه من كاثوليكي عصره وهاينة في تحليل هذه الموقف وكل الذين كانوا يرون أن قدرة الله وإرادته هما صفتاه الأسمى؟ لماذا لا يهم أن المؤمن الصادق لا ينفي العقل عن الله عندما يؤمن بتعاليه عن مقولات العقل الإنساني بل يميز بين علمه المطلق وعلمنا النسبي فيرى قدرته وإرادته فوق معقوليتنا التي نتصور قوانينها قوانين الوجود؟ لماذا لا يفهم أن الإيمان الصادق ليس هو إلا التسليم بأن قوانين الوجود من اختيار الله الحر رغم قابلية التعامل معها لمنطق الرياضيات المضطر ؟ ولا يعني هذا التسليم أن هؤلاء المفكرين المؤمنين يقصدون أن عقل الله دون قدرته وإرادته بل يقصدون أن أفعاله لا يقاس بمعقوليتنا حصرا فيها حتى لا يؤلهوا الإنسان فيصبحون ببنوة المسيح لله قائلين وعلى الإكراه في الدين مدمنين تبشيرا وتدميرا. أم تراه يرى أن كل هؤلاء قد نزلوا إلى الدرك الأسفل فاقتربوا هم أيضا من ابن حزم ومن ثم من لا عقلانية الإسلام ؟ 
كيف لمحاضر ومفكر أن يعتمد على العنعنة من دون العودة إلى المصادر نفسها؟ ما الذي حال دونه والسؤال- في اعتماده على هذه العنعنة التي تلتقي بمصدريها (الامبراطور في نظرية الجهاد وارنلداز في نظرية الله الإسلاميتين) عند الخوري- عن مدى صحة تصورات مرجعه ومدى علمه بما يتكلم عليه ؟ هل يمكن لأحد له أدنى معرفة بالكلام الإسلامي أن يعتبر المدرسة الظاهرية ممثلة لعقائد المسلمين حتى لو سلمنا بأن عرض انلداز لفكر ابن حزم أمين ؟ 
وأعجب ما أعجب له تصديق المحاضر لتصديق ثيودور الخوري رأي الإمبراطور في تعليل موقف محاصريه العنيف. لم اعتبره ناتجا كما ظن الإمبراطور عن نظرية نشر الدين الإسلامي الجهادية واستثني السؤال عن دور الدوافع السياسية والاقتصادية في الصراع بين إمبراطوريتين (العثمانية والرومية) متجاورتين، الدوافع التي قد لا يكون للإسلام بها صلة حتى وإن صادف فاستعمل غطاء دعائيا في سياسة الخلفاء العثمانيين ؟ لم وافقه على إرجاعها إلى مواقف محمد الشريرة صاحب نظرية الجهاد الذي تصوره وسيلة لنشر العقيدة بالسيف، فانتقل مباشرة إلى تعليل هذا التأويل الإمبراطوري بعقلانيته اليونانية ولم استدرك المحاضر عليه بإضافة المصدر المسيحي لتفسير موقفه العقلاني ؟ أليس لأن ذلك وجد هوى في نفسيهما وكلاهما كاثوليكي لم تمت في ذهنه الذكريات الصليبية الوسيطة ونمت في نفسه أماني الصليبية الحديثة ؟
وفي الجملة هل يصح لمحاضر يزعم أنه يحاضر بصفته أستاذا ومفكرا أن يكون بهذا الحيف المنهجي فيقارن نصا دينيا مسيحيا- مجرد دعوى "في البدء كانت الكلمة"- حول العقلانية بواقعات مستمدة من التاريخ السياسي الإسلامي حول ما يعتبر منافيا لها ؟ أما كان عليه أن يقارن بين التاريخين أو بين النصين لا أن يتحيل فيقارن بين النص المقدس المسيحي والتاريخ الإسلامي السياسي؟ وهل لو قارن القرآن بالكتاب المقدس بعهديه اللذين استمد منهما دليله الأول حول التطابق بين الكلمة واللوغوس أو التاريخين السياسيين المسيحي والإسلامي هل كان يحكم حكما نزيها أي الكفتين سترجح في مجال العقلانية بمعيار العنف والقتل بلا حد ؟

ولنأت إلى السؤال الثالث الجامع. فنص المحاضرة لم يعان من هذه الهنات الشكلية بسبب جهل المحاضر بعقيدة الإسلام أو تاريخه بل بسبب علمه بهذا الجهل وتجاهل شروط المنهج في الكلام على الإسلام. فالجهل بالمضمون لا يعفي أي أكاديمي من العلم بشروط المنهج الأكاديمي في أي عمل علمي. لا يمكن أن يجهل المحاضر أن الجهل بلغة النص مثلا يلغي حق التفسير فضلا عن حق التأويل بل ويحرمه عليه. ولا يمكن للمحاضر أن يجهل أن الإحالات مشروطة بالعودة إلى المصدر المحال عليه وأن الوسائط والعنعنة في العمل العملي لا تكفي حتى في المستوى الدراسي الأول من العمل الجامعي. 
وأخيرا فالمحاضر لا يمكن أن يجهل أن الضمائر في العلاج والاستدلال العلميين أمر خطابي يجردهما من قوة الحجة عامة فضلا عن قوة البرهان. فلا يكفي مثلا أن يقول المحاضر إن العارفين أعلموه أن آية حرية المعتقد نزلت لما كان محمد بلا حول وتحت التهديد ليضمر بشيء من المكر أن القرآن فيه كما يزعم أقوال أخرى في الجهاد نزلت لما أصبح محمد ذا قوة تجعله وسيلة لمنع حرية المعتقد أو لفرض المعتقد بالقوة:" لكن القيصر كان يعلم بالطبع أن في القرآن تحديدات حول الحرب المقدسة ولت هذه الآية في النزول". 
فهذا الكلام يضمر بشيء من المكر أن هذه "التحديدات" تتضمن فرض العقيدة بالقوة لتعلل بها موقفه من الرسول محمد رغم وجود آية حرية المعتقد. لكن العارفين من غير الذين أشاروا على المحاضر يعلمون أن هذه التحديدات كانت لحصر الجهاد في الدفاع عن حرية العقيدة أو عن المستضعفين في الأرض ضد المفسدين فيها. لذلك فإضمار المحاضر وسكوته عن طبيعة التحديدات يثبتان أنه ليس حسن النية بل وأنه سيئها. فسكوته عن طبيعة التحديدات التي ولت في النزول آية حرية العقيدة يبين أنه يضمر بقصد وروية أنها من طبيعة مقابلة للآية التي تقول بحرية العقيدة ومن ثم من طبيعة تمنع حريتها وتفرض تغييرها بالقوة. فأنى له بها، ومن هم العارفون الذين أعلموه بذلك ولماذا لم يشر إلى أي منها ولا منهم ؟ 

وفي الختام فالمحاضر ليس جاهلا بالشكليات الأكاديمية التي كانت تفرض عليه ألا يتكلم في ما لا يعلم علما مباشرا لسانا ومضمونا. إنما تعديه على الشكليات كان السبيل الوحيدة ليجد في تجاهل حقائق الإسلام ما يؤيد به موقفه من الإسلام. فليس جديدا أن المحاضر يعتبر الإسلام خطرا يهدد أوروبا. وليس سرا أنه يسعى إلى التقرب من الإمبراطور الحالي بالإحالة إلى الإمبراطور السابق.
 

 

تاريخ النشر : 11-11-2006

6141 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com