|
|
النص والتراث . دراسات قرآنية |
|
|
|
بقدر ما شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 منعطفاً سلبياً في تاريخ العلاقة بين الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، والعالم الإسلامي، بقدر ما دفعت الكثيرين إلى إعادة النظر في دور التيارات والحركات الإسلامية، ومدى تعبيرها عن الإسلام كأنموذج حضاري قابل للتعايش والاستمرار.
وفي خضم البحث عن اقترابات نظرية لاختبار الطبيعة الفكرية والحركية للتيارات الإسلامية شرعت الإدارة الأميركية في دعم العديد من مراكز البحث والدراسات من أجل التوصل إلى منهج عملي يمكن من خلاله رسم سياسات واستراتيجيات حول كيفية التعاطي مع هذه الحركات. وقد سُجلت أولى المحاولات في هذا الصدد باسم "شارلي بينارد" الباحثة بمؤسسة راند التي وضعت دراسة طليعية عام 2003 بعنوان "الإسلام المدني الديمقراطي" يراها البعض حجر زاوية مهما في الترويج لنظرية الإسلام المعتدل.
وإذا لم يكن ثمة مجال للتعليق على دراسة "بينارد" منهجاً وموضوعاً، فإن ما بني عليها يظل بحاجة ماسة إلى التعليق والتمحيص، بخاصة وأنه يبدو كما لو كان تعبيراًَ عن توجه أميركي للتعاطي مع تيارات الفكر والحركة داخل العالم الإسلامي.
فقبل أسابيع قليلة أصدرت مؤسسة "راند" دراسة شاملة حول ضرورة أن تقوم الولايات المتحدة ببناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين في العالم الإسلامي، شارك فيها بالإضافة إلى بينارد كل من أنجل رابسا ولويل شوارتز وبيتر سكيل.
وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن الصراع مع العالم الإسلامي هو بالأساس "صراع أفكار" وأن التحدي الرئيسي الذي يواجه الغرب يكمن فيما إذا كان العالم الإسلامي سوف يقف في مواجهة المد الجهادي الأصولي، أم أنه سيقع ضحية للعنف وعدم التسامح.
وقد قامت هذه الفرضية على عاملين أساسيين أولهما أنه على الرغم من ضآلة حجم الإسلاميين الراديكاليين في العالم الإسلامي، إلا أنهم الأكثر نفوذاً وتأثيراً ووصولا لكل بقعة يسكنها الإسلام سواء في أوروبا أو أميركا الشمالية. وثانيهما ضعف التيارات الإسلامية المعتدلة والليبرالية والتي لا يوجد لديها شبكات واسعة حول العالم كتلك التي يملكها الأصوليون.
وانطلاقاً من هذه الفرضية فإن الخيط الرئيسي في الدراسة يصب في منحيى ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوفير المساندة للإسلاميين المعتدلين من خلال بناء شبكات واسعة وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم لبناء حائط صد في مواجهة الشبكات الإصولية. وفي هذا الإطار تضع الدراسة ما تطلق عليه "خارطة طريق" يمكن للولايات المتحدة السير عليها من أجل خلق أجيال من الإسلاميين المعتدلين والليبراليين يمكن من خلالهم مواجهة التيارات الأصولية. وتوصي الدراسة بإمكانية الاستفادة في بناء هذه الشبكات من تجربة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق التي جرت على مدار النصف الأخير من القرن الماضي.
ودون الاستطراد في عرض الدراسة، إلا أن ثمة ملاحظات مهمة يجب الالتفات إليها من أجل التعرف على طبيعة التفكير الأميركي في ظاهرة الإسلام السياسي، واحتمالات تبني سياسات مستقبلية استناداً لمثل هذه الدراسات.
أولى هذه الملاحظات تتعلق بالجانب المنهجي والذي يمكن إيجازه في تضارب وعدم وضوح المفاهيم التي بنيت عليها الدراسة فعلى سبيل المثال تستند الدراسة إلى مفهوم "المسلمين" المعتدلين، في حين أن معظم ما ورد بها ينصرف إلى مفهوم "الإسلاميين" المعتدلين، والفارق بالطبع بينهما كبير، ويتمثل في الطابع السياسي- الحركي الذي يميز الثاني عن الأول. وهو تضارب يبدو مقصوداً لأنه جاء في إطار المقارنة بين "الإسلام الراديكالي"، وهو بطبيعته إسلام حركي- مسيَس، وهو ما يعني تعمد القائمين على الدراسة خداع القارئ خصوصاً في العالم الإسلامي بأن السياسات الأميركية التي قد تتأسس استناداً لمثل هذه الدراسة سوف تتوجه لعموم المسلمين، الذين هم بطبيعتهم معتدلون. أما إذا لم يكن التضارب مقصوداً، فالكارثة أكبر، لأنه يعني ضمناً فشل العقل البحثي الأميركي في التفرقة بين "الإسلاميين" و"المسلمين"، ما يعني ضمناً قصور وفشل أي سياسات أميركية مستقبلية في هذا الصدد.
ثاني الملاحظات، وأهمها، ينصرف إلى مفهوم الاعتدال الذي استندت إليه الدراسة في مجملها، وهو مفهوم كاشف للكثير من عورات العقل الأميركي، ويمثل سقوطاً وفشلاً ذريعاً لنظرية الإسلام المعتدل التي سعت الولايات المتحدة للترويج لها طيلة الأعوام الثلاثة الماضية وأنفقت عليها أموالاً طائلة. ولعل الأمر يحتاج هنا لبعض التفصيل، فالنظرة الأميركية لمفهوم "الاعتدال" هي نظرة انتقائية تختلف كلياً عن الرؤية الإسلامية للمفهوم ذاته. وهو ما يبدو في ثلاث نقاط، أولها أن الاعتدال بالنسبة للولايات المتحدة يعد مرادفاً لـ"الاستئناس"، أي انصراف المفهوم إلى جميع الأفراد والمؤسسات والتيارات التي تؤمن بالعديد من القيم الغربية، بخاصة الأميركية، بغض النظر عن هويتها وقيمها الذاتية. لذا لم يكن غريباً أن تضع الدراسة قائمة طويلة من التساؤلات، الأقرب للاستجواب لكل من يدعي أنه يمثل تياراً إسلامياً معتدلاً، منها ما يتعارض كلياً مع الفكر الإسلامي الأصيل كالمساواة بين الشريعة والقوانين الوضعية، ومنها ما يحتل جانباً إشكالياً كقضية الردة وحق المرء في تغيير دينه.
ثانيتها، أن معظم الأمثلة التي أوردتها الدراسة كنماذج للإسلام المعتدل التي يجب تشجيعها، لا تحظى بمرتبة مهمة في المحيط الإسلامي الواسع، بل إن العديد من الشخصيات التي ذكرتها الدراسة كنماذج لمفكرين إسلاميين معتدلين، هم أولئك الذين لا يحظون بالكثير من القبول داخل مجتمعاتهم الإسلامية ومنهم على سبيل المثال أستاذ الفلسفة المصري نصر حامد أبو زيد، والمفكر الإندونيسي عليل أبصر عبد الله الذي صدرت بحقه فتوى بالتكفير عام 2004، وذلك بغض النظر عن موقفنا من هؤلاء الأشخاص.
وكان منطقياً، والحال كهذه، ألا تأتي الدراسة على ذكر أي من أولئك المفكرين الإسلاميين الذين ينظر إليهم في العالمين العربي والإسلامي كنماذج على الاعتدال والاستنارة من أمثال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا والدكتور عبد الله النفيسي وراشد الغنوشي وصلاح الدين الجورشي وغيرهم من أصحاب الآراء والكتابات الإسلامية المتميزة.
ثالثتها، تجاهل الدراسة لأهم تيار ديني يوصف بالاعتدال في العالم الإسلامي ممثلاً في جماعة الإخوان المسلمين بفروعها المختلفة، بل على العكس من ذلك فقد وردت الجماعة كدليل على الإسلام المعتدل "المرواغ" خاصة فرعها الرئيسي في مصر.
وتتعلق الملاحظة الرئيسية الثالثة بتوصيف الدراسة ضمناً، للعالم الإسلامي باعتباره "عدواً" أشبه بالعدو السوفيتي، وذلك عندما أوصت الدراسة الإدارة الأميركية بضرورة أن تتم الاستفادة من خبرة الحرب الباردة في التعاطي مع العالم الإسلامي، وذلك في إشارة واضحة إلى الدور الذي لعبته أجهزة المخابرات الأميركية في عمليات غسل الأدمغة داخل بلدان الاتحاد السوفيتي على مدار نصف قرن. وهنا توصي الدراسة صراحة أن تكون هناك إدارة مخصصة لتجنيد وكلاء محليين "إسلاميين" في العالم الإسلامي من أجل مواجهة التيارات الراديكالية المنطقة.
أما آخر الملاحظات، فتدور حول ولع الدراسة بالتيار العلماني، وإصرارها على تقديمه باعتباره الخيار الأمثل للولايات المتحدة لمواجهة المد الأصولي. وهو ما يؤكد مجدداً قصور مؤسسات البحث الأميركية في فهم طبيعة المجتمعات الإسلامية وتقدير أوزان تياراتها الفكرية، وما إذا كان للعلمانية قبول أو سبيل للحياة في الأوساط العربية والإسلامية.
بكلمات، تثبت مثل هذه الدراسة، وغيرها، أن ثمة فجوة كبيرة بين ما تراه الولايات المتحدة كإسلام معتدل، وبين ما تراه المجتمعات الإسلامية على أنه كذلك، وهو ما يسقط عملياً أي حديث أميركي حول القدرة على التفرقة بين التيارات والمدارس الإسلامية المختلفة، ويشي ضمناً بصعوبة تحول الرؤية الأميركية للعالم الإسلامي، على الأقل في الأمد المنظور.
تاريخ النشر : 20-05-2007
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.