آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

حوارات وشخصيات  .  

  •     

ردود على مقال: مصطلح التاريخ بين المفهوم الشائع والطرح القرآني

المصطفى تاج الدين


استرعى انتباهي مقال الباحثة سهام عبد الرزاق، وإذ أشكرها على رغبتها النبيلة في توجيه الفهم للتاريخ في اتجاه قرآني، فإنني مع ذلك منزعج بعض الشيء من منطلقاتها المعرفية ومآلات تلك المنطلقات في البحث التاريخي. 
ومن الواضح أن علم التاريخ مختلف في دلالته عن فلسفة التاريخ وعن التأريخ. 
فالتأريخ (بالهمزة) مفهوم عملي يشير إلى تدوين الأحداث مؤقتة حسب تسلسل زمني معين، واما علم التاريخ فهو علم له مصطلحات خاصة ومناهج معروفة، ويبقى مصطلح فلسفة التاريخ والذي يعني التفسير الفلسفي لمجريات التاريخ وأحداثه غوصا على المسببات الوجودية والمعرفية للحدث التاريخي وهنا فإن سؤال: هل يتدخل الله في التاريخ سؤال فلسفي وليس تاريخا بحد ذاته اي أن بحث الأستاذة سهام يدخل في فلسفة التاريخ (فهل وفت الباحثة بشروط الطرح الفلسفي؟) ، وإذن فإن فلسفة التاريخ جهد معرفي لتفسير الحدث لا بما هو موجود في الزمان فحسب بل بما هو إنتاج لمعرفة ما قد تشكل إطارا لتفسير أحداث سبقت وأخرى في طريقها للحدوث، وعليه فإن فلسفة التاريخ تمكننا من التنبؤ العلمي بما لم يحدث أصلا كما تمكننا من صياغة قوانين الفعل البشري داخل الزمان. 

تكمن مشكلة مقال السيدة الكريمة في كونها تريد أن تستند إلى القرآن الكريم للخروج باستنتاج معرفي مفاده أن الله يفعل في التاريخ جنبا إلى جنب مع الإنسان بمعنى أن التاريخ فعل إنساني وإلهي في ذات الوقت. وتعاني هذه الأطروحة من مشكلتين استدلاليتين : 
أولاهما: ذات طبيعة منطقية 
فالبناء المنطقي للباحثة يقوم على استدلال في الصيغة الاتية: 
1- القرآن هو الكتاب الأكثر صدقا وامانة 
2- القرآن يقدم معلومات عن صنع الله للتاريخ
3- إذن الله يفعل في التاريخ 
لقد فات الباحثة الكريمة انها خلعت جبة العالمة وارتدت لباس المؤمنة، فمقدمتها المنطقية الأولى لا يسلم بها إلا من هم داخل دائرتها الإيمانية وكأنها تتصور إمكانية تقويم الحدث التاريخي بما هو حدث موضوعي إنساني على أساس إيماني، فهل نستطيع إقناع مؤرخي العالم بوجود موسى التاريخي او إبراهيم بمجرد سوق آيات قرآنية نؤمن يها نحن ولا يؤمن بها الاخرون؟ وإذن فإن ما نستطيع الاطمئنان إليه هو ان يكون إيماننا باحداث القرآن او التوراة محفزا على البحث التاريخي المجرد والموضوعي وبأدوات العلم الإنسانية والتي يتفق عليها مؤرخو العالم. 
وفي الإطار الإسلامي الضيق فإن القصص القرآني ينبغي النظر إليها من زاوية الإيمان لا زاوية العلم حتى يقوم الدليل التاريخي بإثبات القصص دون أن يعني هذا تشكيكا في صدقيتها التاريخية.
ولو اقتصرنا على القرآن لإثبات الحدث التاريخي لما احتجنا لحفريات ولا لبحث لإثبات وجود القصص في التاريخ الفعلي. والقرآن الكريم نفسه يحول انظارنا إلى ضرورة التنقيب والحفر في دهاليز الزمن لمعرفة ما حدث للأسلاف: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" وعليه فإن هذا الأساس التصديقي والإيماني للتاريخ والذي تدافع عنة الباحثة لا يمكن أن يتيح لنا عالمية العلم، وموضوعيته. 
ثانيتهما: ذات طبيعة كلامية او ثيولوجية: 
تعاني أطروحة الباحثة من مشكلة عقدية فلسفيا وهي الاعتقاد المضمر بثنائية الله والإنسان في التاريخ، وإذن فإن التاريخ بالنسبة إليها واستنادا إلى القرآن حسب تصورها مجال للفعلين الإلهي والبشري. ولقد فات الباحثة أن التاريخ هو موئل أفعال البشر المتناقضة (كالحروب والدعوات والدول وغير ذلك) فهل الإرادة البشرية المتعددة والمتناقضة تشير إلى مشاركة الله فيها؟ بحيث ياخذ الله حيزا ما في الفعل التاريخي فتكون الإرادة الإلهية موجودة جنبا إلى جنب مع إرادات بشرية متعددة ومتناقضة وهذا الفهم يسقط في مشكلة أنسنة واضحة للفعل الإلهي. 
ولا تحل فكرة الوجود المتزامن والتي اقترحتها الباحثة المعضلة، فما دامت الباحثة قد أقرت بوجود إرادتين مختلفتين إلهية وبشرية في صنع التاريخ فإن تزامن الأفعال الإرادية لا يلغي تعدد الزمن لأنه نسبي ومفعول فيه وهنا لن نقول بتعدد الإرادات المنشئة للفعل فحسب بل سنخرج إلى القول بوجود مقايسة بين إرادة الله وإرادة الإنسان. كما ان تزامن الوقت لا يعني وحدانيته لأن التزامن لا يلغي التعدد. 
ولحل المعضلة وتجاوز سلبية طرح الباحثة والذي يفترض وجود إرادتين منشئتين للفعل التاريخي إلهية وإنسانية، وتجاوز معضلة إلغاء إحدى الإرادتين لصالح الإرادة الإنسانية (العلمنة الشاملة للتاريخ) أو لصالح الإرادة الإلهية (الرؤية الدينية الثيولوجية للتاريخ) فإننا نقول إن ثمة إرادتين : 
إرادة كونية مطلقة تشمل الزمني ذي الأبعاد الثلاثة وغير الزمني بالمفهوم البشري ، وإرادة نسبية داخل الزمن أي أن العلاقة بين الإرادتين هي علاقة انتماء وتضمن بالمعنى الرياضي وليس علاقة اقتران ومصاحبة، وعليه تصبح الإرادات الإنسانية المتناقضة والصانعة للتاريخ داخل دائرة مطلقة اوسع وهي دائرة الإرادة الإلهية والتي يتدخل الإيمان بها لإطلاق معنى ما على التاريخ، إذا كنا نتحدث إيمانيا عن التاريخ، كما يتدخل العلم لتجاهل هذه الإرادة لأنها مطلقة من جهة ولأنها لا تتدخل في الإرادات النسبية وأكبر دليل على عدم تدخلها هو تناقض الإرادات الإنسانية وتعددها والتي لا تعني تناقض الإرادة الإلهية إلا إذا سلمنا بعدم تدخلها لكي نرفع نقيصتي التناقض والتحيز عنها. 
كما أن إدخال الله في الفعل التاريخي يضع الباحثة الكريمة امام معضلة الشر في التاريخ، فالحروب والقتل والغزو والظلم كلها شرور كتبت التاريخ وصنعته وكثيرا ما يغيب العدل لفترات متطاولة حتى يشك الناس في وجوده أصلا كما هو الحال اليوم. فهل لله دور في هذه الشرور؟ هل وعت الباحثة الكريمة الآن مآل تصورها الديني البسيط لدخول الله في التاريخ؟ 
إن الاستدلال بفعل الله للتدمير والنصر والهزيمة والوارد في القرآن ينبغي فلسفيا ولغرض التنزيه قراءته على طريقة المعتزلة في افتراض العلاقة المجازية بين الله وفعل الشر المذكور في القرآن وهنا يصير التدمير الإلهي للامم الجائرة مجازا عقليا بالمعنى البلاغي أما المعنى المباشر للفعل فهو اقترانه بفاعله البشري. 
ولنا أن نسال الباحثة الكريمة : إذا كان الله فاعلا في التاريخ إلى جانب الإنسان فأين تضعين فعله في صراع علي وعائشة ؟ أكان مع علي ضد ام المؤمنين؟ ام كان معها ضد المكرم وجهه؟ ام كان معهما معا ام لم يفعل حينها؟؟ أسئلة لن تستطيع الباحثة حتما الجواب عنها إذا ما بقيت منشدة إلى تصور لاهوتي ولا أقول إسلامي (فتصور ابن خلدون الطبيعي لقوانين التاريخ مع كونه يتصادم مع الباحثة فإنه في نظرنا تصور إسلامي) للتاريخ. وعسى أن أكون واضحا ولأختي سهام الشكر الموصول على بحثها المثير.
والسلام 
 

 

تاريخ النشر : 11-11-2006

6156 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com