آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

حوارات وشخصيات  .  

  •     

المسألة الشيعية كيف يمكن علاجها؟ :رسالة مفتوحة للسيد حسن نصر الله

أبو يعرب المرزوقي


علتان تحولان دون المرء وعدم الكلام في المسألة الشيعية بعد أن استفحل الخلاف بين مذهبي الأمة الرئيسيين بفعل تأجيج الأعداء لمرض عضال أصاب الأمة منذ الفتنة الكبرى وحان أوان علاجه الجذري حتى لا تذهب ريح الأمة: 
فأما العلة الأولى فهي ما وصل إليه حال المسلمين في هذا الظرف العصيب وضرورة علاج العلاقة بين السنة والشيعة علاجا عقليا هادئا علنا نصل إلى فهم الداء فنكتشف الدواء. وهو ما كنت سأعرضه على السادة الحاضرين لندوة تقريب المذاهب التي دعيت إليها ولم احضر بسبب ما كنت أتوقعه من انحصار اللقاء في أعراض المرض السياسية من المسألة وإهمال محددات فهمهما العلمي.
وأما العلة الثانية فهي ما سمعته من رد تفوه به السيد حسن نصر الله في إحدى خطبه الأخيرة متكلما عن عالمين سنيين جليلين هما القاضي أبو بكر بن العربي وعبد الرحمن بن خلدون لم يذكرهما بالاسم لكنه لمح إليهما تلميح اتهام معتبرا رأييهما في مقتل الحسين تبريرا لجريمة زياد بن معاوية.


اتهام عالمين جليلين لا مبرر له
يعلم الجميع أنه لا يوجد بين السنة من يمكن أن يتهم بالحط من شأن آل البيت خلال كل التاريخ الإسلامي. فهم يعتبرون عليا خليفة راشدا. وهم يضعون ابنيه في المنزلة التي يضعهما فيها الرسول الأكرم. وهم ينزلون الزهراء المنزلة التي كانت لها في قلب أبيها. وهم لا يسلمون بشرعية معاوية بل هو عندهم العلامة على نهاية الخلافة الراشدة. وهم يجمعون على تفسيق يزيد. والأهم من ذلك كله أخيرا أنهم لا يوظفون آل البيت في معارك سياسية داخلية لتأجيج الحرب بين قبائل الأمة (بين آل البيت وآل أبي سفيان في قريش) أو بين شعوبها (الشعوبية بين العرب والفرس في الأمة) بل وضعوا نظريات ثورية لتحرير الأمة من أدوائها لكي تتمكن من الاستئناف السوي بعد الفتنة: نظرية عدم التأثيم التي حللها ابن خلدون في المقدمة. 
لا أحد من السنة خاصتها وعامتها أقدم على هذه التجارة لأنها خاسرة في الدنيا والآخرة حتى عند الظن بأنها رابحة في احداهما على حساب اخراهما. ذلك أنهم ينزهونهم عن مثل هذه الدنايا. وفي هذا السياق جاء كلام القاضي أبي بكر ابن العربي وكلام العلامة ابن خلدون في مقتل الحسين بن الإمام علي كرم الله وجهه. فالأول لم يقل إن الحسين قد قتل بسيف جده بل قال قتل بشرع جده. والفرق شاسع. والأمانة واجبة. على العلماء خاصة. وهو لم يتهمه بالخروج بل بتكليف نفسه ما ليس بوسعها. فلا يمكن لقاض من حجم ابن العربي أن يزل مثل هذه الزلة. لا يمكن أن يتهم حفيد رسول الله بالخروج بمعناه عند الخوارج خاصة ويزيد يفسقه السنة بإجماع علمائهم. إنما هو قد اعتبره خرج عن سنة الرسول في الدعوة ومقاومة الشر: فلو اتبع الحسين سنة الرسول في مقاومة الشر لطبق أولى القواعد أعني تحقيق شروط النجاح فيه حتى لا يعطي للشر فرصة الانتصار على الخير. لذلك فقد مر الرسول الكريم نفسه بالمراحل الثلاث في استراتيجية مقاومة الشر: بدأها بالقلب ثم انتقل إليها باللسان ليصل في الغاية إلى مرحلة المقاومة باليد بعد أن حقق شروط النجاح. 
أما ابن خلدون فهو قد فسر رأي ابن العربي بهذا المعنى الذي وصفنا فقال في إطار تبرئة الحسين رضي الله عنه مما قد يظن به من طلب للحكم معتبرا إياه قد ثار على فسق يزيد:" وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها في نفسه بأهليته وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين" (المقدمة دار الكتاب اللبناني ط.3 ص. 382-3 بيروت ص1967).
هل في هذا اتهام للحسين بالخروج وهل هو تبرير لمقتله؟ أم هو فهم لما حصل وتعليل علمي؟ أليس ذلك الشرط الضروري والكافي لتحرير المسلمين من عقدهم حتى تعود الأخوة بين فرق الأمة بعد فهم العلل الموضوعية لما حصل وتبادل العذر بين الفرقاء؟ فابن خلدون لم يبرئ يزيد بل فسقه بل أكد على إجماع الكافة على فسقه ولم يتهم الحسين بالخروج بمعناه عند الخوارج بل هو اعتبره ثائرا ضد الفسق ولم يحصر المسألة في الحسين بل هو اعتبر شيعة آل البيت من فضلاء الأمة الذين شاركوا السنة في الحكم بفسق يزيد وضرورة السعي لإصلاح شأن الأمة. ومعنى ذلك أن الأمة لم تزل عندئذ على وحدتها فلم يثر الحسين لأنه شيعي بل لأنه مسلم فحسب. أما القول إنه قتل بشرع جده وليس بسيف جده كما ورد في الخطاب فإنه يعني أنه لم يطبق سنة رسول الله في الدعوة إلى الحق التي تشترط توفير الأدوات التي تحقق الغايات: وهو ما اعتبره ابن خلدون خطأ سياسيا وليس خطأ شرعيا. 


متى سيخرج حزب الله من الازدواجية

ولهذه العلة يصح القول إن حزب الله في لبنان لا يُفهم فعله إلا بالاستراتيجية المحمدية ولا يُفهم خطابه إلا بالاستراتيحية الحسينية: فيكون في شبه فصام يحول دونه والدور الإيجابي المنتظر منه في توحيد الأمة بتحرير التشيع من تهمة الصفوية ويعود به إلى حب آل البيت الخالص وعلى رأسهما محمد ومن أحب أعني كل صحابته وأمهات المؤمنين. فهو لا يقتصر على الثورة على الظلم والعدوان الذي يبني عليه دعايته وهي جزء من الترسيب الذي ينبغي التحرر منه من أجل الغايات الاستراتيجية المشروطة بوحدة الأمة بل هو يحقق شروط النجاح فيها بأسباب العلاج التي تقتضيها سنن التاريخ والكون كما يصفها القرآن الكريم وسنة جد الحسين التي اعتبره ابن خلدون ومن قبله القاضي أبو بكر بن العربي قد قتل بسبب عدم اتباعها في معركة الخير والشر: يتحالف حتى مع أمراء الحرب الأهلية في الحكومة للحفاظ على القدر الأدنى من تماسك الجبهة الداخلية ويحارب بالجمع بين منطق الكر والفكر ومنطق التخندق ردا على عدم توازن القوى بمطاولة الضعيف ماديا والقوي روحيا على العدو الذي اختار استراتيجية المناجزة لضعفه الروحي وقوته المادية. 
ما قاله العالمان السنيان حزب الله لم يقله لكنه فعله ما يفيد أكثر منه. فهو قد فهم علة فشل الحسين بمجرد أن برهن على دهائه الاستراتيجي في منازلة أخبث خلق الله تماما كما تعلمنا من السنة المحمدية التي ردت كيد أجدادهم: فالعمل الحقيقي من أجل الخير ليس مجرد الثورة على الشر بل الثورة التي توفر شروط النجاح عليه لئلا تكون فرصة تجعله ينتصر فتتكون العقد ويزداد العداء بسبب الحقد الدفين بين البشر. والمنتصر إذا كان صاحب دعوة إلى الحق لا يحقد ولا يكره بل هو يجمع بين جمال العلم ومهابة الحلم: وتلك هي أخلاق رسول الله كما تبينت يوم الفتح الأكبر فلم لا نجدها في خطاب الشحن الطائفي المليء حقدا وكراهية في المآتم التي تسمى أعيادا ؟ متى يشفى الغليل من يزيد الذي لست أعلم كيف أصبح رمز السنة رغم كونها فسقته بالإجماع ؟
وموقف الجماعة السنية من الخوارج يوم خذلوا رابع الخلفاء الراشدين هو من جنس موقف الجماعة الشيعية من فسق يزيد دلالة على وحدة الأمة. دعوة الحسين لإصلاح شأن الأمة وتحريرها من فسق خليفتها يمكن أن يحسب لهم لو لم يخذلوه عندما احتدم القتال: فالخوراج خذلوا رابع الراشدين فغضبت السنة دون مذهبية وزيد فسق فغضبت الشيعة دون مذهبية أو هكذا عرض ابن خلدون الأمر. 
وذلك هو المطلوب في تحقيق وحدة الأمة. فلا يمكن اليوم أن يحالف الشيعي أمريكا لغزو العراق بالفعل ثم يزعم محاربتهم لتحرير فلسطين بالكلام. لكن السنة لم يغيروا حكمهم في الخوارج فهم قد اعتبروهم خارجين من الإسلام لخروجهم على الخليفة الشرعي ولا يزالون على هذا الحكم: وهم الذين يهزمون أمريكا في العراق وفي فلسطين وليست دولهم المحالفة لأمريكا هي التي تقاوم بخلاف زعم دولة الشيعة التي هي نفسها الحليف بالفعل هناك والخصيم بالقول هنا. ولو كانت السنة مذهبية تعتبر عليا شيعيا لكان الخروج عليه لصالحها فأيدته. 
السنة لا ينظرون إلى الأمر بهذه العين المذهبية بل هم اعتبروهم خرجوا على أمير المؤمنين الشرعي. ولما كانوا يفسقون زيادا وينفون شرعية معاوية بمجرد اعتباره نهاية الرشد في إمارة المؤمنين فإنه لا يمكن أن يكونوا قد اعتبروا الحسين خارجيا كما يتصور السيد حسن نصر الله في تعريضه غير الأمين لرأي هذين العالمين الجليلين انتقالا من القول إنه قتل بشرع جده إلى القول إنه قتل بسيفه. ولما كنت ممن يحسن الظن بالسيد حسن نصر الله فإني اعتبر ذلك من الزلات التي تنتج عن الغفلة أو السهو. ومن ثم فهي ليست مبررا كافيا لاتهام حسن القصد ممن لا يزال عندي أحد أبطال الأمة دون منازع بل هو عندي الأمل الوحيد في درء الفتنة الطائفية ليس في لبنان وحده بل وكذلك في العراق لو قرر أن يستقل قليلا عن المرجعية التي يصعب أن تتحرر من سياسة الدولة التي قد يكون فيها رجال الدين الصادقين ضحايا للنزعة القومية في إيران كما يحصل عندنا. فمن يدري فلعل غباء بعض العرب يساعد النزعة القومية في إيران في تصديها للنزعة الإحيائية لقيم القرآن في الثقافة الإسلامية ومن ثم التخلص مما هو عربي بإطلاق قصدت السادة المشرفين على التراث الشيعي الذي هو في الجوهر إسلامي ويعتز به كل مسلم أيا كان مذهبه خاصة إذا خلصناه مما سنصف في هذه الرسالة.


تشخيص الداء
ما العلة إذن في بقاء الأمة ضحية للمعاناة منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم ؟ لم بقي المسلمون خلال التاريخ الإسلامي كله ومنذ وفاة الرسول الكريم منقسمين إلى عشر يحاسب الأعشار التسعة الأخرى بذنب لم يرتكبوه بل ارتكبه جدود طالبي الحساب لا المطلوب منهم لو كان يحق لنا أن نحمل الأجيال الخالفة مسؤولية الأجيال السالفة؟ من دعا الحسين واعدا إياه بالقيام بأمره ثم خذله ؟ أليس طالبوا الحساب اليوم هم خلائف أولئك الذين تخلوا عن نصرة الخليفة الرابع وخذلوا حفيدي رسول الله بعد أن غرروا بثانيهما لفشلهم في محاولة التغرير بأولهما الذي نأى بنفسه عن تفريق الأمة ليس خوفا على نفسه بل عملا بسنة جده: لا يمكن أن يمر المرء إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إلا إذا تحققت الشروط ولم يكن الضرر الذي يمكن أن يحصل أكبر من الضرر الذي يراد إزالته ؟ كل خصائص المسألة الشيعية في ضمير المتشيعين والمتسننين المسألة التي تعصف بالأمة فعلا وانفعالا كانت منذئذ كلها بلا استثناء عائدة إلى عقدة الذنب التي تولدت عن هذه الجريمة التي لطخت تاريخنا جميعا: وطرفاها من السنة حزب يزيد الذين تفسقهم السنة بالإجماع وحزب الحسين الذين تخلوا عنه وكان ينبغي تحميلهم مسؤولية الخذلان عند النزال. وإذن فالسنة حتى في ذلك الحين فضلا عن الأجيال اللاحقة من كلا الفريقين كلهم براء من جريمة يزيد على الأقل لموقفهم المبدئي من تفسيقه أما الشيعة فإن جيل الحسين ليسوا أبرياء من جريمة التخاذل الذي جعلهم يتركون الحسين للمصير المعلوم والأجيال اللاحقة لا تثريب عليها وهي بالانتقام له تقترف ذنوب الأولاد والأحفاد ولا تكفر عن ذنوب الأجداد. 
تحميل جمهور المسلمين الحاليين مسؤولية ما لا يد لهم فيه شيعة كانوا أو سنة لأن الذنوب لا تورث والمسؤولية شخصية (كل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) هو إذن نوع من الإسقاط المرضي الذي ينبغي أن يعالج لئلا تذهب ريح المسملين. ذلك أن البحث التاريخي يبين أن جمهور السنة أقل مسؤولية من جمهور الشيعة في ما حصل لحفيدي رسول الله. فهم لم يغرروا بهما ولم يسعوا إلى إيصال أحدهما إلى ما نعلم ليتخلوا عنه في معركة خاسرة بحسابات فقه الحرب الإسلامية فقهها الذي لا يحمل نفسا إلى وسعها. والغريب أن هذا الحكم يصح كذلك على يزيد الثاني أو صدام حسين: فحزبه لم يكن سنيا بل هو يعد من منظور الفقه السني حزبا خارجا عن الدين بإطلاق وعصبية حزبه المؤسسين كانت بالأساس شيعية على الأقل في البدء. ثم إن كل جرائمه كانت ضد السنة. ومع ذلك فلست أدري كيف بات صدام ممثلا للسنة التي عليها أن تدفع الحساب بديلا منه!
وهكذا فإن المذنبين ـ إن صح تحميل الذرية ذنب الأصول ـ لم يكتفوا برمي ذنبهم على غيرهم بل هم خلال كل التاريخ تحركهم إرادة الانتقام من السنة بعد تحميلهم جريرة خذلانهم لآل البيت أمام جور بعض الحكام: تلك هي المسألة الشيعية عند النظر إلى ما انجر عنها من أعراض مرضية يصورونها للعامة حبا لآل البيت وهي في الحقيقة من أدوات الترسيب المضر بالأمة. ذلك أنه لا يمكن أن يكون حب المسلم الحسين أكبر من حبه عليا أو من حبه محمدا: فلم لا يحتفل بطعن علي ولا بوفاة الرسول تسليما بأن طعن عمر أو قتل عثمان يمكن أن يكونا أقل شأنا عند من يميز بين الصحابة بغير وجه حق. 
فهل يمكن لعقلاء الأمة وحكمائها ـ ولست أشك في أن السيد نصر الله من أفاضلهم ـ أن يعالجوا هذه الأعراض بمعنيي العلاج فهما وتطبيبا فيكون العدوان الأمريكي والإسرائيلي على الجميع فرصة لتوحيد الأمة من أجل المستقبل وتحريرها من أفسد ما في ماضيها لتلتفت إلى مهماتها الجليلة في قيامها بواجبات الرسالة أعني المساعدة في تحرير البشرية والعالم من شرور العولمة ؟ إلى متى سيظل الشيعي يسعى إلى الانتقام من قتلة الحسين في حين أن قتلته الفعليين هم الذين دعوه ثم خذلوه أعني جدود أصحاب الترسيب الذي يشق وحدة الأمة فيجعل أعداءها يستأسدون عليها ؟
فأما العلاج بمعنى التحليل من أجل الفهم فهو تاريخي ويستهدف حل عقد الماضي في المستويين الحدثي وما حمل عليه من توظيف إيديولوجي في النزعات القومية التي ينبغي أن ننزه منها التشيع الصادق أعني ما يمكن أن نقول إنه المشترك بين جميع المسلمين من حب لآل البيت وفخر ببطولة الخليفة الرابع وصرامته الخلقية وصدقه في صحبة الرسول الكريم وخدمة الرسالة. وأما العلاج بمعنى التشخيص من أجل التطبيب فهو استراتيجي ويستهدف وصف الحلول التي ترجع التآخي بين المسلمين ليفرغوا إلى ما يمكن أن يأتي على مستقبل الإسلام والمسلمين إذا تفرقوا فلم يتصدوا متواصين بالحق ومتواصين بالصبر.
لكن هذين الوجهين ليسا إلا فرعين من المسألة إذ هما تابعان لأصل عميق يمثله وهم مزدوج صدر عن التوظيف الإيديولوجي الذي أفسد التشيع الصادق. فتوظيف التشيع الإيديولوجي في الصراع القومي بين العرب والفرس ثمرة لتعالي الأولين باسم الحاضر وتفاخر الثانين باسم الماضي أصبح أهم مطايا انبعاث الحضارة الفارسية في شكل رد فعل شعوبي على فعل أكثر منه شعوبية. وقد بلغ رد الفعل ذروته في السياسة القومية للعهد الصفوي في صراعه مع الخلافة العثمانية التي كانت سنية بالأساس فاكتمل في القومية بمعناها الغربي الحديث الذي أجج الصراع بين قوميات الإسلام الخمس التي يعود إليها فضل بناء الحضارة الإسلامية الكلاسيكية قصدت العرب والترك والفرس والكرد والبربر فأعماهم عن الخطر الأستراتيجي الذي يتهدد الأمة:
فأما الوهم الأول فهو وهم الخلاف العقدي ويتعلق بمنزلة الحكم في الدين إذ بات الشيعي يعتبره جزءا من العقيدة بل الجزء الأساسي ومن ثم تحول الدين إلى سياسة وأصبحت كل سياسية دينية فعادت الأمة إلى كاثوليكية ذات بابوية متخفية. 
وأما الوهم الثاني فهو وهم الخلاف الثقافي الناتج عن ترسيب ردود الفعل التي تميز سلوك كل أقلية تشعر بالغبن ترسيبا قصديا لخدمة الغرض الإيديولوجي لكأن السنة تنفي على علي كونه خليفة راشدا أو لا تحب آل البيت الحب الصادق. 
وبين أن فرعي هذا الوهم يتغاذيان: كلاهما يغذي الثاني ويغتذي منه. وبذلك تصبح المسألة الشيعية مربعة الأبعاد. فإما بعداها الأولان فيصدران عن توظيف التشيع توظيفا إيديولوجيا آل إلى الغلو في الدين وفي العداء الثقافي بين أعرق شعبين من شعوب الأمة في بناء الحضارة الإسلامية: منزلة الحكم الذي صار ركنا من الدين وترسيب ردود الفعل ترسيبا صيرها عداء ثقافيا. وأما بعداها الأخيران فينتجان عن عدم علاج الوهمين الأولين اللذين أصبحا دائين ينخران جوهر الإسلام وقيام الأمة أعني: العداء التاريخي والعمى الاستراتيجي بين المسلمين بكل فرقهم. 
ولما كان من المعلوم أن علاقة العلية تنقلب عند البحث فيها من منظور مطالب المستقبل بات من الواجب أن نقدم النتائج (مسألة الحكم ومسألة ترسيب ردود الفعل إلى أن صارت صداما ثقافيا) التي ترسبت في الوعي الجمعي على المقدمات (العداء التاريخي والعمى الأستراتيجي) لأنها أصبحت أخطر على مصير الأمة كما يبتين ذلك من تحديد طبيعة الخطر الاستراتيجي الذي يتربص بالمسلمين. لذلك فسنفحص الأبعاد على الترتيب التالي:
1- كيف صار الحكم صراعا عقديا؟
2- كيف صار ترسيب ردود الفعل صراعا ثقافيا؟
3- كيف تكثف العداء التاريخي؟
4- وكيف آل كل ذلك إلى العمى الاستراتيجي؟
5- الخطر الاستراتيجي ما هو ولم لا مرد له من دون وحدة المسلمين؟


البعد الأول: وهم الخلاف العقدي في مسألة الحكم

إذا حررنا التشيع من التوظيف العقدي والترسيب المغرض لشق وحدة الأمة آل الخلاف بين السنة والشيعة في مسألة الحكم إلى المقابلة التالية التي صاغها الغزالي في فضائح الباطنية: ولاية الأمر تكون بالوصية عند الشيعة وتكون بالاختيار عند السنة. لكن التاريخ يثبت أنه لا السنة طبقت مبدأ الاختيار ولا الشيعة طبقت مبدأ الوصية. فتاريخ الحكم السني يبين أن السنة انتهت إلى الوراثة في الحكم وحصرت حكم الدين في الاحتكام إلى الشريعة التي يمثلها العلماء. وتاريخ الحكم الشيعي يبين أنها انتهت إلى الوراثة في واقع الحكم وحصرت واجب الحكم في المختفي فحصر حكم الدين في الاحتكام إلى الشريعة التي يمثلها العلماء حتى وإن كان لهم دور أكبر مما عليه الشأن عند السنة بسبب هذا الفصل بين الحكم من حيث هو أمر واقع والحكم من حيث هو أمر واجب. 
وفي الحقيقة فإن الفرق بين الفرقتين نفسه لم يبق موجودا حتى في التمييز بين الواقع والواجب. ذلك أن السنة بمجرد أن أصبحت الخلافة ملكا عضوضا قابلوا بين الخلافة الراشدة والخلافة غير الراشدة فباتوا مثل الشيعة يميزون بين الحكم من حيث هو أمر واقع والحكم من حيث هو أمر واجب. ولما كان علي رضي الله عنه أحد رموز الخلافة الراشدة فإنه يعد أيضا جزءا من واجب الحكم قبالة واقعه فيكون السني بنحو ما متشيعا لعلي تشيعه للخلفاء الراشدين الآخرين. فيزول الخلاف من أصله لو أن الشيعة لم يحصروا مثال الحكم الأعلى في أحد الخلفاء بل عمموه على الخلفاء الراشدين حتى من أجل وحدة الأمة واستراتيجية بناء مستقبلها في استئنافتها التاريخية: إلى متى نضحي بالمستقبل باسم عداوات الماضي التي أكل عليها الدهر وشرب ؟ 
كيف ينسى الفرنسي والألماني خمسة حروب بين أمتيهما – وهما أمتان- خمسة حروب اثنتان منها كانتا عالميتين ومات فيها عشرات الملاييين من أجل المستقبل ونحن-الذين ورثنا عنهم النزعة القومية المقيته- أمة واحدة لم يجر بيننا من الدم ما جرى مثله في أدنى معاركهما وليس في معاركنا لأي من جمهور الفريقين ذنب؟ فالمعركة بين السنة والشيعة هي إما بين حكام فاسدين أو بين حكام متشاطرين يريدون أن يوظفوا مثل هذه الجلائل في حساباتهم القصيرة من أجل نزعات قومية جاء الإسلام لتحرير البشرية منها والارتفاع بها إلى الأخوة البشرية بدءا بالأخوة الدينية وختما بالأخوة الخالصة. أليس من قصر النظر أن تلعب إيران لعبة الصين فتسعى إلى تلهية أمريكا بحطب حروب من أجوارها من أجل تحقيق حلمها القومي مضحية بالشيعة العربية التي هي أصل التشيع: فكل مرجعيات الشيعة لا تكون من الأسياد إذا لم تكن من عترة النبي ومن ثم فزعامتها الروحية ينبغي أن تكون عراقية أو لبنانية إذا كانت حقا روحية ودينية لا إيرانية إلا إذا كانت سياسية دنيوية. 



البعد الثاني: وهم ترسيب ردود الفعل
ومثلما أن التوظيف الصفوي للتشيع قد أفسده فإن الرد القومي العربي على الصفوية قد أفسد العروبة وهو لحسن الحظ لم يمس السنة لأن القومية العربية بزعم أصحابها علمانية. لكن ما أفسد السنة هو توظيفها السلفي: فطلب النقاء العقدي الذي هو محمود تحول إلى حرب على التشيع والتصوف دون تمييز حتى بات دفاعا عن الأموية. وفي ذلك خروج عن الموقف السني النزيه. وبذلك فإن فعل الترسيب القصدي لآثار الخلاف أخرج المقابلة بين الواقع والواجب عند الفريقين أخرجها عن بعدها الموجب فأضفى عليها من السلبية ما جعل الخلاف يزداد حدة. فقد أصبحت المقابلة مقابلة بين واقعين ينتجان عن شطر الخلافة الراشدة نفسها. فأصبح الراشد الوحيد هو علي وفسق الثلاثة الآخرون عند الشيعة. ثم جاء رد الفعل السني فعمم الرشد حتى على الأمويين كأن الأمر يتعلق بشفاعة الخليفة الثالث في بني أمية بخلاف ما أجمع عليه علماء السنة. 
وطبعا فحصر الرشد في علي يكذبه علي نفسه: لا يوجد نص واحد اتهم فيه علي الخلفاء المتقدمين عليهم بعدم الرشد حتى لو تصورناه أكثرهم رشدا. وتعميم الرشد على الأموية يكذبه كل علماء الأمة من السنة. وبذلك يتبين أن الوهم الثاني هو الذي يغذي الوهم الأول فيحول دون زواله الفعلي الذي بينا بل هو يعمقه. وهذا الوهم هو الذي يجعل الوصية تصبح وراثية بالمعنى العضوي للكلمة وليست بالمعنى العقدي كما يقتضي ذلك القرآن وجوهر الثورة المحمدية. وهو الذي يجعل الخلافة تصبح وراثية بنفس المعنى في أي أسرة مسملة استبدت بالحكم!
فبدلا من وصية "والأرض يرثها عبادنا الصالحون" وهو مبدأ يوحد كل المسلمين لإجماعهم عليه إذ فيه يكون شرط الوراثة صفة من صفات الإيمان أصبحت الوراثة في آل البيت فيكون شرطها صفة من صفات النسل (آل البيت) أو في أي بيت مسلم فيكون شرطها صفة من صفات قوة العصبية المغتصبة للحكم. 
وهذا أيضا ينفيه علي نفسه ويجمع على عدم سلامته كل علماء الأمة. فلنفرض أن عليا كان أول من تولى الخلافة أفكان ذلك يعني أن غيره من الصحابة لم يكن أهلا لأن يتولاها من بعده فتكون حكرا على ذريته ويبقى علي مع ذلك إسلامه محمديا ؟ ما الفرق عندئذ بين النظام الإسلامي والنظام الملكي في كل المجتمعات القديمة ؟ عدم قدرة أي شيعي على الرد المقنع على هذا الشك يجعله يغالي فيفترض أن النبي لم يوص لعلي فحسب بل أوصى بالإمامة لعلي ولعقب علي: فيكون الحكم حقا إلهيا وليس كما يضع الإسلام مبدأه في سورة الشورى" وأمرهم شورى بينهم". أما الاغتصاب بقوة العصبية فالسنة حتى بعد القبول به تعتبره أمرا واقعا بديلا من الفوضى لكنها لا تضفي عليه الشرعية المطلقة: فهو وراثة مقبولة رضا بالمفضول في غياب الفاضل وليست وراثة مبدئية.
وإذن فالمغالاة في الوصية ليست إلا رد فعل وقع ترسيبه القصدي بالاعتماد على الشعور بأن عليا قد أبعد عن الخلافة ثلاث مرات وأفسدت عليه خلافته في المرة الرابعة. والتاريخ يبين أنه لا السنة ولا الشيعة بقابلتين للاتهام في ذلك: فقد عادت قوانين السياسة إلى العمل بعد تعطلها المؤقت بفضل نور النبوة في حياة النبي. وهذه العودة هي التي تفسر التدرج في فقدان مؤسسة الخلافة المبنية على الشرعية الدينية وحدها القدرة على حكم المسلمين والعودة إلى الشرعية المستندة إلى العصبية. وهذا أمر موضوعي ليس لأي من الفرقتين ذنب فيه. وفهمه يساعد على بلسمة الجراح. 
لكن تطور رد الفعل وترسيبه القصدي حوله إلى موقف تكفيري لمن يتهم بإبعاد الخلافة عن علي أعني الخلفاء الراشدين الثلاثة المتقدمين عليه ثم عائشة أم المؤمنين بل وكل الصحابة الذين بقوا على الحياد فلم يتشيعوا لأولوية علي في الخلافة أو لم يعتبروا ذلك حتى لو سلمنا بصحته مدعاة لإشعال الحرب بين المسلمين: وذلك ما ابتدع التنابز بلقبي الروافض والنواصب. ذلك أن المشكل ليس هو في وجود مثل هذا الردود وترسبها بل هو في جعلها جزءا من العقيدة لتأسيس البعد الأول: جعل الحكم جزءا من العقيدة وحقا إلهيا بخلاف ما تقول كل آيات القرآن الكريم فضلا عن كون هذا الزعم لو صح لكان الإسلام نفسه أمرا لا معنى له إذ ولاية الأمر بالإرث العضوي هو جوهر اليهودية وبالسلطة الروحية للإمام هو جوهر المسيحية فتفقد الثورة القرآنية علة وجودها. 
وحتى يتم البناء كان لا بد لأعداء الأمة الذين يغالطون التشيع الصادق أو حب آل البيت من أن يطيحوا بمبدأ وحدة الأمة فيضربون وحدة القرآن الكريم باتهام جامعي القرآن والزعم بأن القرآن الذي بين أيدينا ليس هو القرآن الذي نزل على محمد. وهذه التهمة ليست مسألة جزئية بل هي جوهر التوظيف السلبي لمحبة آل البيت أعني توظيف هذا الحب من أجل القضاء على الإسلام نفسه: أسطورة قرآن فاطمة. ولعل تعمق الترسيب والتجييش العقدي والطائفي إلى حد العزوف عن تسمية المساجد بوظيفتها كما هو الشأن عند جمهور المسلمين واعتبارها حسينيات ومن ثم إضفاء طابع المذهبية عليها هو الغاية التي ليس بعدها غاية خاصة بعد أن اكتمل الأمر فلم يبق يوم عرفة واحدا عند الفريقين!



البعد الثالث: العداء التاريخي بين الفرقتين.

الجميع متفق إذن على عدم رشد خلافة معاوية وعلى فسق زياد وعلى حب آل ألبيت وعلى انتماء الجميع للقرآن الذي نزل على محمد: فكيف يمكن أن يوجد عداء تاريخي بهذا الحجم بين الفرقتين السنية والشيعية ؟ كيف يكون التشيع واحدا في موقفه من السنة في حين أن السنة لها موقفان من التشيع أحدهما هو موقف جمهور السنة الذين لهم ما وصفنا من المشاعر إزاء آل البيت ومغتصبي الحكم من بين أمية ؟ أليس للتشيع نفس الازدواج فيكون لهم بنو أمية أعني ما يوصف بالتوظيف الصفوي للتشيع ؟ لم لا ينأى التشيع الصادق عن هذا التوظيف؟ لماذا لا نفسر الأشياء بأسبابها فنفهم أن الخلاف ليس بين جمهور المسلمين سنة وشيعة بل هو بين مغتصبي الحكم في كلا الحزبين ؟ كيف يمكن أن يكون الجمهور السني حبه لعمر لا ينفي حبه لعلي ويكون الجمهور الشيعي بالعكس من ذلك لو كان فعلا صادقا في انتسابه إلى الإسلام فيعتبر الحبين متنافيين ؟ أليس لأن الصفوية نجحت مع جمهور الشيعة بتواطؤ من علماء المذهب في ما فشلت فيه الأموية مع جمهور السنة لرفض علماء المذهب التواطؤ ؟ 
وأخيرا لم تخلى السنة على رمزية حصر الخلافة في قريش ولم يتخل الشيعة على حصر الإمامة في آل البيت لو كان القصد تعيين وراثة الأرض لصالح المؤمنين وإناطة ولاية الأمر بأي مؤمن تختاره الأمة لهذه المهمة ما ظل محافظا على شرع الله الذي يستمد منه شرعية حكمه ؟ أليس لأن ابن خلدون يقول بهذا الرأي خلال كلامه على نظرية المهدي وتشكيكه في نظرية الجفر اعتبر معاديا للشيعة في حين أنه كان يبحث عن الحل الذي يحرر الأمة من العداء بين السنة والشيعة ليعيد إلى الأمة وحدتها بعد أن أدرك ما يحيط بها من خطر ومكر سيء ؟
وحاصل القول إن العداء بين السنة والشيعة ليس له أصل مذهبي حديثا وإنما هو وليد الشحن الطائفي الناتج في عصرنا عن التوظيف القومي الفاعل من قبل الصفوية وراد الفعل من موقف المغلوب عند أصحاب القومية العربية لعدم انتساب العرب القوميين إلى الإسلام فضلا عن السنة بمقتضى تصورهم للعلمانية المتأثرة بالجاكوبينية الفرنسية. وهو عديم الأصل المذهبي قديما كذلك لأن الفرقتين تشتركان في حب آل البيت ولا تختلف به الشيعة عن السنة إلا بتوظيف هذا الحب توظيفا يعكس علاقة الفعل ورد الفعل إذ يعد التشيع راد فعل من موقف المغلوب لما كانت الخلافة الأموية تحكم بموقف شعوبي عربي وليس بقيم الإسلام. 
فإذا حررنا الجمهورين من غلو القوميتين عادت السنة والشيعة إلى فرق طفيف في تأويل مبدأ رمزي يتمثل في حصر الخلافة في من لهم نسب الرسول سواء كان من الدائرة الضيقة لأسرته المباشرة أو في الدائرة الموسعة لقبيلته. فيكون العباسي والشيعي والأموي كلهم منتسبين إلى موقف تأويلي لرمز تحرر منه الفقه السني منذ أن بات أمر الحكم غير مقصور على الرمز وحده فأصبح من الضروري أن يقدم شرط القدرة عليه ومن ثم عمم مبدأ الحكم على كل المسلمين وينبغي أن يتحرر منه الفقه الشيعي حتى يصح قول الرسول الكريم في الرعاية العامة فعلا وانفعالا: ينبغي أن يسقط شرط القرشية فيصبح بوسع كل مسلم أن يتولاه بشرط الأهلية مع القدرة وهما شرطان لا يضمنهما إلا مبدأ الانتخاب والاختيار لا الوراثة العرقية.



البعد الرابع: والعمى الاستراتيجي لقيادات الأمة.

لكي نفهم كيف ورطت أمريكا إيران ينبغي أن ندرك أن كل ما يعتبر من أخطاء أمريكا الاستراتيجية في العراق هو من عناصر الخطة التي تريد أن تورط الفرس والعرب في حرب لا تبقي ولا تذر. فبعد أن أوهمت إيران بأنها غير مدركة لخطتها في توريط أمريكا هي ذي بدأت تظهر عناصر الخطة: إنها تسعى لتوريط السعودية ومصر فتدفع إلى نسخة ثانية من الحرب العربية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات. أدرك استراتيجيو أمريكا أن أنجع الوسائل لتحقيق ما فشلت فيه الحرب الأولى أو عدم الوصول إلى السلطان المطلق على العالم الإسلامي ليست شيئا آخر غير الإعداد للحرب الطائفية. وتوريط إيران لا يمكن أن يكون إلا بتحميلها مسؤولية كل ما يجري للسنة في العراق ثم التهويل من الخطر الشيعي على المنطقة كلها لكي تستفز النعرة الطائفية المقابلة بدءا بمتطرفي السنة وختما بكل السنة. لذلك فالوقوع في أحابيل هذا المخطط سواء كان من الفرس أو من العرب هو ما يمكن أن يوصف بالعمى الاستراتيجي: فلا يمكن لأمريكا أن تسيطر على الخليج بضفتيه من دون إضعاف حماته فيهما أعني الفرس والعرب. 
ولا يمكن لها أن تضعفهما بقوتها الذاتية لامتناع ذلك بالذات خاصة إذا اتحدت الضفتان ثم لكون وجود الأمريكان غير المطلوب من أحد الطرفين لحمايته من الطرف الثاني يصبح عامل توحيد ليس له مثيل. لا بد إذن من إيهام العرب بأن إيران صارت قوة عظمى بل وإيهام الإيرانيين أنفسهم بذلك حتى بات بعض حكامهم يتصور نفسه قادرا على تحدي أمريكا باقتصاد هزيل لا يساوي فيه الدخل القومي الخام رقم أعمال شركة متوسطة فضلا عن كون ميزانية الدفاع الأمريكية تساوي عشرة أضعاف هذا الدخل. جعلوا الإيرانيين يقعون في نفس الأخطاء التي وقع فيها العراقيون: ألم يقولوا إن جيش العراق هو خامس جيش في العالم ؟ وهاهم الآن قد وصلوا إلى جعل رئيس إيران يتصور بلاده قادرة على محو إسرائيل من الخارطة: أي إنهم جعلوه أفضل داعية لحربهم على إيران وعلى المسلمين كلهم بإيهامه أن قنبلته حتى لو حصلت يمكن أن تخيف من يملك ملايين منها. وبدلا من السعي الجدي لتوحيد المسلمين حتى يصبحوا قادرين على المنافسة الحقيقية في مجال شروط النهوض الفعلي ومن ثم حماية ثرواتهم المادية والروحية ها نحن نتحول إلى شعوب متناحرة لخدمة مقاصد العدو البعيدة بسبب ما أصاب نخبنا من عمى استراتيجي ليس له مثيل.


البعد الخامس: الخطر الاستراتيجي الذي يتربص بالمسلمين.

ونأتي الآن إلى الخطر الاستراتيجي المحدق بالأمة ودار الإسلام. فهذه الدار يستعمرها حاليا عملاقان ويتربص بها أربعة عماليق. وإذا لم نتحد حتى بأقل أشكال الاتحاد متانة قصدت نوعا من الكومنوالث الاقتصادي والثقافي فإن الكماشة ستخنق المسلمين قبل منتصف القرن الجاري. فأما العملاقان اللذان يستعمرانها فهما الولايات المتحدة وإسرائيل. وإسرائيل عملاق ليس بالعدد ولا بالعدة بالمعنى المادي بل بسلطانها على من لهم العدة والعدد. فهي بنخبها في الغربين الأدنى (أوروبا) والأقصى (أمريكا) تسيطر على أدوات القوة الخمس أي الإعلام والاستعلام والمال والثقافة والعلم وهي بهما تحرك أداتي السياسة الدولية الظاهرتين أي الدبلوماسية والعسكرية الغربيتين. ولا ينبغي أن ننسى علاقاتها بمن سيصبح من عماليق المستقبل القريب قصدت الهند والصين وأوروبا المتحدة وروسيا وقوى أمريكا الجنوبية الصاعدة: فكل هؤلاء يخطبون ودها لعلتين لما عندها مباشرة ولما يمكن أن تسرقه لهما مما عند الغرب من أسرار علمية وتقنية.
وأما العماليق الأربعة الذين يتربصون بالعالم الإسلامي فهم العماليق المحيطون به إحاطة حبل المشنقة بعنق الغافلين. فدار الإسلام يحيط بها من الغرب الاتحاد الأوروبي وروسيا ويحيط بها شرقا الهند والصين. وقريبا سيصبح التنافس على دار الإسلام بين المستعمرين الحاليين (إسرائيل وأمريكا) والمترشحين لاستعمارنا: أوروبا المتحدة وروسيا والهند والصين. كل هؤلاء أكثر حاجة لما في أرض المسلمين من أمريكا. فهي تريد ما عندنا لتصمد أمامهم في حين أنهم هم يريدونه لكونه ليس ضروريا للانفراد كما هي حال أمريكا بل للوجود العادي. كلهم أحوج للطاقة الإسلامية من أمريكا. ومن لم يفهم ذلك يصح أن يوصف بالأعمى استراتيجيا: التكاثر البشري وتناقص الثروات يؤدي ضرورة إلى عودة البشرية إلى ما كانت عليه القبائل البدائية من حروب على الماء والكلأ. الفرق الوحيد أن البشرية أليوم ستضيف إلى الماء والكلأ الطاقة والغذاء. وكلاهما خزيتنها الكبرى في دار الإسلام التي هي أقل بلاد الله كثافة سكانية وأكثرها ثروة بحرية وطاقية.
ولما كانت بالضعف العلمي والتقني والنمو الاقتصادي الهزيل التي نعلم بات من الواضح أن العالم الإسلامي سيستعمر من جديد وتتقاسمه العماليق إذا لم نسارع إلى الاستعداد بدءا بتوحيد الجهود في المعركة العلمية التقنية والاقتصادية والدفاعية. ومن شروط ذلك التحرر من حزازات الماضي على الأقل بالمستوى الذي فعلته أوروبا حتى يصبح لنا دور في تشكيل عالم الغد وحتى لا نكون ذبيحة العرس الدولي في تقاسم العالم الذي بدأ منذ سقوط الاتحاد السوفياتي.
والله ورسوله أعلم وهو الهادي إلى الصراط المستقيم والسلام.
 

 

تاريخ النشر : 10-02-2007

6905 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com