آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

المفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد: الحروب ألهمته "العالمية الإسلامية الثانية"

عبد الرحمن الحاج


تنازعته المفاهيم الاشتراكية اليسارية والقومية السودانية والأفريقية دون أن يتخلى عن إيمانه الفطري الختمي (من الطريقة الختمية)، ثم انتهى عام 1979م إلى صياغة رؤية جديدة للفكر الإسلامي أثارت نقاشاً كبيراً لدى المهتمين بموضوع التجديد والإصلاح الديني، هي رؤية أقرب ما تكون إلى ((نظرية)) تحاول أن تفسر كل شيء، وتعدل المفاهيم في كل شي أيضاً، أطلق عليها أبو القاسم اسم ((العالمية الإسلامية الثانية)).
لقد قطع أبو القاسم دراسته مبكراً بسبب مشاركاته السياسية ونزعته الثورية، وهو ما جعله متحمساً للثورة الأريترية، وبعد أن طردت قيادات الثورة الأريترية أصبح حلقة وصل بين القيادات في الخارج وبين العسكريين المقاتلين في الدخل، وأمام نمو الثورة وضعف الكوادر فيها اضطر إلى الاضطلاع بأدوار في المنطقة العربية على المستوى الإعلامي لإيجاد علاقات للثوار الأريتريين مع العرب، وكان ذلك سبباً أساسياً للاستقرار في بيروت وتردده إلى دمشق في منتصف السبعينيات. 
شارك أبو القاسم في عدد من التنظيمات والأحزاب السياسية السودانية، منها ((حزب الشعب))، الذي كان يلقب فيه ((الشيخ الأحمر)) بسبب ميوله الثورية اليسارية وتمسكه الإسلامي في وقت واحد! أسس تنظيم ((حسم)) في إطار قانون ((التوالي)) الحزبي في نهاية التسعينيات، كان مستشاراً في الخارجية في أبو ظبي، ومستشاراً لعدد من كبار الأمراء السعوديين، ومستشاراً للرئيس الأرتيري ((أسياس أفورقي))، وبقي مدَّة مستشاراً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن.
أصدر أبو القاسم أول كتاب له بعنوان ((الوجود القومي في السودان)) عام 1964م، عالج فيه مشكلة تنازع القومية العربية والأفْرَقة في السودان، وحلها عبر مفهوم ((القومية السودانية)) و((اتحاد القرن الأفريقي))، وأهداه للثوار الأريتريين في ((أرض الربيع الدائم))، وبموجب أفكاره في هذا الكتاب تأسست النواة الأولى لـ((الحزب القومي السوداني))، ((فانزعج منه الشيوعيون لطرحه الاشتراكي، وانزعج منه القوميون العرب بكافة فصائلهم الناصريين والبعثيين بحكم طرحه للقومية السودانية))، وبه بدأ معاركه الفكرية.
كان ذلك محفزاً له لاستكشاف الفكر القومي الثوري العربي وأبعاد الفكر الثوري القومي الأفريقي فدرس أفكار "جومو كنياتا" في كينيا، وأفكار "ميزي ريو"، وأفكار "مودبيواكيتا"، وأفكار "كوامي نيكروما"، وبنفس القدر قرأ لاتحاد قوى الشعب العاملة والبعث والناصريين والحزب الاشتراكي في عدن، (كما يقول في مقتطف من مذكَّراته)، ولكنه ما استطاع إلا أن يبقى سودانياً بوجه وعربياً وأفريقياً بوجه آخر، ولم تكن له القدرة على توحيدهما إلا بتوليفة توفيقية، فأصدر في عام 1970م كتاب ((الثورة والثورة المضادة في السودان)) ((للخلاص من الطائفية، ولتحقيق المرحلة الوطنية الديمقراطية التي تعتمد على القوى الحديثة وكادر المثقفين))، ثم في كتاب ((الأبعاد الدولية لمعركة أريتريا)) 1974م، من منظور الفكر الاستراتيجي ومشروعه في القرن الإفريقي الكبير.
لكن أحداث الحرب الأهلية في لبنان التي تفجرت عام 1976م في بيروت (التي أقام فيها) غيرت مسار تفكيره كلياً، إذ فتحت عليه هذه الحرب أسئلة وجودية أصابته في العمق، ففي مقتطف من مذكراته بقول أبو القاسم: ((كنا مجموعة من الأصدقاء والمثقفين نجتمع في شقة (...) وقتها بدأ الجيش اللبناني والطيران اللبناني بقصف مخيمات اللاجئين، وكنت انظر إلى القصف: صرخات النساء، أطفال يحرقون إلى درجة التفحم، ومن حولهم عمارات وأبنية حديثة ينظرون إليهم بالمنظار، وتلك الظروف تعتلي في نفسي بالإضافة إلى موجات لجوء من أريتريا فبدأت أفكر (...) كنت أقول: منذ أن نشأنا نقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم»، وأن الله بيده كل شيء، وأنه قادر على كل شيء، ولكن أما أنه غير موجود بهذه المواصفات، أمام المآسي التي تتعرض لها البشرية دائماً وإما أن يكون موجوداً، وأن هنالك خطأ ما في هذه الكتب الدينية؛ لأنّه لا علاقة لها بهذا الواقع نهائياً، ما هي علاقة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) بهذه الجثة المتفحمة للأطفال؟ وبهذا الفقر في العالم بآلاف اللاجئين من أريتريا إلى صحاري السودان؟ (...) كنت في تلك اللحظة أكتشف في نفسي إيماناً عميقاً بوجود الله، وهذا الإيمان لم يفارقني وظل يلازمني منذ وعيِي وإلى اليوم، لكن كان هنالك شيء آخر أؤمن به ـ وهو الذي أثار في تلك الإشكالية ـ إذ إنني أؤمن أنه رحمن رحيم، وأؤمن أنه مطلق القدرات، فإذاً أنا أؤمن به وما أراه لا رحمة فيه! وما يمنعه من التدخل لإيقاف هذه المأساة وأنا العبد الصغير البسيط أهلك يومي ونهاري لأنقذ اللاجئين ولأنقذ هؤلاء الأطفال من ضرب القنابل؟ (...) قضية الآخرة لم تكن طرفاً في الأزمة؛ فلقد كنت أؤمن بأن هناك آخرة وبعث ولكن علي أن أدخل الجنة باقتناع، أو أدخل النار باقتناع (...) فكان إن اعتزلت كل شيء وصعدت إلى الجبل في لبنان (...) لأنني كنت أمام خيار: أي إله أنا مؤمن به، كانت بالنسبة لي قضية منهج ورؤية لهذا الكون، (...) أريد حلاً لهذه الإشكالية، إشكالية استمرت أربع سنوات كأنّها أربعين سنة فبدأت أقرأ القرآن قراءة ناقد ورث النقد عن تلك الثقافة المتعمقة في الفلسفة الغربية والعربية التي غصت فيها طوال فترة خروجي من السودان في 1966م حين طردت القيادة الأريترية منه، (...) إيمان يعتور في داخلي، وتساؤل يبدو لبعض الناس في ظاهره كفر بواح، بهذا المخزون دخلت إلى عالم القرآن، (...) عبر تساؤلات بإشكاليات ضخمة حول كل المطروح دينياً، ليس على مستوى الإسلام؛ لكن حتى على مستوي الديانات الأخرى. 
حاولت حل الأزمة عبر كل القراءات الإسلامية وغير الإسلامية، لكن كانت عندي مشكلة واحدة : الحلول موجودة لكن ليست الحلول المقبولة لي))، وبعد قرابة أربع سنوات خرج أبو القاسم سنة 1979م بأطروحته الفريدة ((العالمية الإسلامية الثانية))، التي أثَّرَتْ في حركات إسلامية عديدة، منها حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، وجمعية الترقي الاجتماعي في الجزائر، وشباب الصحوة في اليمين، وامتدت لدى الباحثين في جامعة القاهرة، ثم الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وقدمت عنه فيها أطروحة جامعية بدرجة الماجستير، ثم تونس قدمت فيه أطروحة دكتوراه، تأثرت بها كثيراً ((مدرسة إسلامية المعرفة))، وعلى وجه الخصوص الدكتور طه جابر العلواني.
وفي العالمية الإسلامية الثانية يتصور حاج حمد التاريخَ الإنسانيَ عبر تأمله في القرآن على شكل حلقات آخذة في الاتساع، الأولى هي المرحلة الآدمية، حيث الصلة بين الله والمخلوق الأول مباشرة (قصة آدم) ، ولأن الاستخلاف (الهدف الذي خلق الإنسان لأجله) يقتضي الحرية، وحيث لا حرية مع حالة شهود الرقيب فإن الحضور الإلهي في سبيل دفع الإنسان نحو النضج والاكتمال لعمارة الأرض بدأ بالانسحاب، لكنه انسحاب لا يقطع مع الإنسان، بل انسحاب رافقه حضور عبر الكتب المنزلة (الوحي)، حيث بدء الرسالات الإلهية للبشر، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ البشر، هي مرحلة بدء الرسالات بدءاً من إبراهيم عليه السلام (المرحلة الإبراهيمية).
كان الهدف الرئيس هو تحقيق قدرة الإنسان على الاستقلال والحرية، مع الحفاظ على إيمانه بالله، وبسبب العلاقة المباشرة بالله ثم انسحابها ورجوعها بشكل خوارق للعادات (معجزات) جعل القعل الإنساني يقع في فريسة الإحيائية (تصور الحياة في الجماد والطبيعة)، وأدى به ذلك إلى توليد واختراع ديانات وثنية، كافحت النبوات للتخلُّص منها بإجماعها التأكيد على تنزيه الإله أولاً من التجسيد والإشراك بالغير. في الحلقة الثالثة من التاريخ الإنساني ـ حسب أبو القاسم حاج حمد ـ تكميل عمل النبوات في دفع النضج الإنساني قدماً وتحقيق استقلال الإنسان، وتبدأ هنا مرحلة أطلق عليها (المرحلة الإسرائيلية)؛ في هذه المرحلة يمثل الحضور الإلهي فيها نوعاً من الحضور المكثَّف عبر النبوات المتكررة لبني إسرائيل والعقاب المقابل لهم على تاريخهم السيء في التعامل مع رسالات الله ﴿قتلهم الأنبياء﴾، وكانت هذه المرحلة خاتمة الوعي الإحيائي للإنسان، حيث تمهَّد الطريق أمام حقبة جديدة هي حقبة الرسالة الخاتمة، وبدء العالمية، فقد وصل الوعي الإنساني إلى درجة متقاربة من التفكير والوعي بالغيب والطبيعة، مما جعل الرسالة الخاتمة تدشيناً لختم النبوة، فقد حققت النبوات أغراضها، وأصبح التفكير الإنساني عموماً يستند إلى رؤية أوسع من الحس، وقادرة على بناء تصورات ومفاهيم مجرّدة غير قابلة للمس الحسي.
هذه المرحلة العالمية الأولى في التاريخ الإنساني تتحقق عبر محطتين، الأولى عبر امتداد الرسالة النبوية الخاتمة (الإسلام) على رقعة العالم القديم عالم الديانات غير الكتابية (الأميين)، والثانية عبر امتداد الديانات الكتابية (اليهودية والمسيحية)، غير أن هذا الامتداد والظهور يقوم بطبيعة الحال على الصراع مع بقايا الحقبة ما قبل الأخيرة، وتحديداً الإسرائيلية، فالعالمية الأولى للإسلام تحققت بعد أن مرّت بصراع مع الفساد الإسرائيلي في جزيرة العرب (يهود الجزيرة العربية) وإجلائهم منها، والعالمية الثانية ستقوم على أساس شيوع الفساد الإسرائيلي الكبير الذي سيعمُّ العالم ـ حسب رؤية أبو القاسم ـ كما توضحه سورة الإسراء ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾، ولا ينتهي هذا الصراع إلا بظهور الإسلام على الدين كله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾، وهكذا فإن مسار العالم سيمضي وفقاً لهذه الرؤية باتجاه انهيار مفاجئ لهذا العلو الإسرائيلي يعقبه ظهور كاسح للإسلام يفتتح عهداً جديداً للعالم هو العالمية الإسلامية الثانية، فثم عهد من الله بأنه ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
هذا التصور للتاريخ الذي جمع فيه حاج حمد بين مفاهيم متناقضة: إحداها ماركسية تاريخانية (الجدل الصاعد)، والأخرى إيمانية صوفية، لكن أبو القاسم يجد أن صناعة تراث العالمية الثانية للإسلام يبدأ منذ اللحظة الأولى لوعيها، أي الآن، ومقتضى ذلك عنده هو القطع الكلي مع تراث العالمية الأولى، بوصفه تراثاً لاهوتياً امتصَّ كل إرث الوثنيات التي خلفتها أثناء امتداده على أراضيها، وهي التي كانت سبباً في عَطالة الحضارة الإسلامية وتدهورها عند عتبات جغرافيا الأميين. ولم تتغير أطروحة أبو القاسم بعد إعلان الحرب على الإرهاب، لكنه أصبح يفكر جدياً أن يتحول فكره باتجاه يمثلّ فيه فلسفة دينية عالمية، ربما رغبةً منه هو الآخر في تجاوز خطابه إلى عالميته الثانية، ربما لأنه لم يلق الرَّواج الذي يرجوه له في الإطار المحلي.
وتأسيساً على رؤيته في العالمية أصدر كل ما كتب بعد ذلك (ما عدا كتاب ((السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل)) عام 1995م)، توفي أبو القاسم في 20 كانون الأول 2004م وخلف من أطروحته في مطلع التسعينات كتاباً عن ((منهجية القرآن المعرفية)) أُلف خصيصاً للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، (طبع بطبعة محدودة التداول)، وكتاباً عن ((السعودية))، و دراسة بعنوان ((الإسلام ومنعطف التجديد)) عام 2003م، ثم كتاباً ((الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن)) عام 2004م، ولعل آخر ما سطره من الأبحاث بحث بعنوان: ((المداخل المنهجية والمعرفية للنص القرآني والتجديد: مع دراسة تطبيقية حول المرأة المسلمة ودُونيات مفهوم الخلف الأسطوري الإسرائيلي، والعرف الاجتماعي العربي)) في 7 تموز/يوليو 2004م أرسله لي مع رسالة خاصة يقول فيها إنه يسعى بأطروحته ((لتأسيس رؤية فلسفية كونية جديدة)).
 

 

تاريخ النشر : 09-04-2005

6502 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com