يكاد يصبح الحديث اليوم في العقل وعنه ،المحور المركزي في المشهد الثقافي العربي ،فإذا كان الكلام في فترة سابقة قد تركز في التراث ومسائله وقضاياه (على نحو التراث والعصر ،التراث والآخر ،نحن والتراث) وضرورة تجديده (حسن حنفي ،من التراث إلى الثورة)،فإن العقل ومفهومه (عبد الله العروي ،مفهوم العقل)، وإشكالياته (جورج طرابيشي ،نظرية العقل ،وإشكاليات العقل العربي)،وما يتفرع عن ذلك من قضايا نقده (مشروع محمد عابد الجابري الشهير في نقد العقل العربي،ومعرفة بناه التكوينية (تكوين العقل العربي) وتحليل لأوليات تشكله وطريقة توظيفه لخطابه(بنية العقل العربي) ثم إبراز محددات الممارسة السياسية العربية وتجلياتها الحديثة في (العقل السياسي العربي) وأخيراً دراسته التي لما تتم بعد –نظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية (نقد العقل الأخلاقي العربي) وقد أثار مشروع الجابري هذا ردوداً متعددة تراوحت بين التأييد والنقد كما لدى جورج طرابيشي في مشروعه المضاد(نقد نقد العقل العربي)، وقد سبق ذكره ،وطه عبد الرحمن (تجديد المنهج في تقويم التراث)وبرهان غليون (اغتيال العقـل) وغيرهم كثيرون ومن الذين مارسـوا النقد أيضاً، ولكن في جبهة أخرى ،غذ صح التعبير محمد أركون في نقد العقل الإسلامي –صدر بالفرنسية تحت هذا العنوان –أما بالعربية فقد ترجم إلى (تاريخية الفكر العربي الإسلامي )وصدر له كتابُ مؤخراً ضمن سلسلة قضايا في نقد العقل الديني (كيف نفهم الإسلام اليوم؟)، والدور نفسه أحب عبد الجواد ياسين لكتابه (السلطة في الإسلام ،العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ ) أن يلعبه ولكن بلغة علمية –أي تنحت اصطلاحها من نفس الاختصاص ،وبدراسة شبه متكاملة افتقدها كتاب إسلامبولي السابق الذكر) وتجديده (طه عبد الرحمن ،العمل الديني وتجديد العقل )وكما رغب لؤي صافي أن يعنون إحدى دراساته التي اقتطعها من كتابه (إعمال العقل)- الذي سنعمد إلى مناقشته هنا – ونشرها في مجلة (المستقبل العربي) تحت عنوان (العقل والتجديد).
كل هذه الكتب وغيرها مما لم نذكره –كونه لا يشكل محور حديثنا في هذا المقال –تؤكد أن العقل أصبح محط اهتمام الفكر العربي والإسلامي بمختلف تياراته وتلويناته .
غير أن هذا الاهتمام المطرد يثير التساؤل عن كونه حاجة أصلية يتطلبها الواقع العربي الإسلامي ،أم أنه رؤية للسياق الغربي في مرآة عصر الأنوار ،وما احتله العقل ورفع شعار العقلانية من دور مركزي في نهضته الغرب الحديث .
والسؤال الآخر الذي يثار أمام هذه الدراسات وتكاثرها ،يتركز في التشكيك في أهمية هذه البحوث التي تتجاهل الأزمة الحقيقية لمجتمعاتنا ،التي هي أزمة غياب الديمقراطية لدى البعض؛أي أنها أزمة اجتماع سياسي ،ولدى البعض الآخر تكمن الأزمة في التوسع الإمبريالي للآخر الغربي وتداخله في اجتماعنا وتدخله في سياساتنا ،أما الباقي فيفرض الأزمة في النظم البطريركية – السلطوي ،فالتخلف حسب ما تنطق به هذه النظرية يتمحور في طبيعة التربيـة العربية القائمة على أساس تراتبي فوقي ،مما يؤهب لظهور سلطة أبوية علوية .
هذه الاختلافات في تشخيص الواقع العربي المأزوم ولد بطبيعة الحال اختلافات في الرؤى والحلول بحسب النظرة أو الرؤية التي يتم من خلالها رؤية هذا الواقع .
وبناء على ذلك يتم تصنيف الكتابات السابقة (أي التي تبحث في العقل ومفهومه )ضمن التيار الثقافي الذي هو بحكم تكوينه نخبوي ،إضافة إلى إنه ينظر إلى التاريخ كمسار تطور فكري ،ويشخص أزمة الواقع العربي على أنها أزمة فكرية متعينة بهذا العقل العربي الذي انطفأت فاعليته وغاب عن مسرح التغيرات والتحولات .وهذا ما يبدأ به لؤي صافي كتابه السابق الذكر (إن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تتابع اليوم على أمتنا هي في جوهرها أزمة عقل مستقيل ،تصلبت منهجيات تفكيره وفقد القدرة على الفعل والتأثير ) ولكن هذا العقل المستقيل تشخيص للعقل العربي بكل تياراته وفئاته فالعقل التراثي انكفأ على ذاته وفقد الصلة بموضوعه ،والعقل الوضعي انبتّ من جذوره وانفك عن فلكه.
إن ما يهتم به لؤي صافي في توصيل الخطاب إليه هو ذلك المسلم الذي يعيش هذا العصر ويمر بتحولاته ،إذ إن عقله اليوم يعاني ،من تخمة فكرية ناجمة عن تراكمات معرفية ،تنتمي إلى ثقافات متغايرة وعصور متباينة تجمعت ضمن الفضاء العقلي دون ترتيب أو انتظام ،هذه الفوضى التي يعيشها تتجلى في تعايشه مع منظومات معرفية متناقضة ،ومنهجيات علمية متعارضة ،جنباً إلى جنب في ضميره ووجدانه.
فهو يتعامل مع الوحي وفق منظمة فكرية في دائرة تصوراته الغيبية وقيمه الأخلاقية وممارساته الشخصية ،يعود ليحتكم في ممارياته الاجتماعية وعلاقاته الاقتصادية والمالية إلى منظومة فكرية صدرت عن تصورات ومناعات وقيم مغايرة والنتيجة هي تمزق في وعي الفرد يؤدي إلى تناقضات في سلوك الفرد واضطراب في مسيرة المجتمع.
وعندما يحاول ذلك المسلم أن يحقق اتساقاً داخلياً مع نفسه بأن يلتزم بإحدى المنظومتين ،فإنه يواجه نوعاً آخر من التمزق ، عندما يتبيـن لـه أن السعي إلى تأكيد الهوية والالتزام بالمنظومة التراثية يتم على حساب التخلي عن الحيوية والفاعلية ،في حين يؤدي تحقيق الفاعلية بالتزام المنظومة العلمانية إلى عدمية تصورية وقيمية ،واستلاب فكري وثقافي .
وفق هذا التشخيص المعرفي للأزمة العربية والإسلامية الراهنة يعتبر الدكتور صافي أن التجديد الثقافي والتغيير يرتبط ارتباطاً مباشراً بإعادة النظر في مصداقية المبادئ أو الأحكام العقلية المكتسبة ،وذلك بإعمال مبادئ العقل الفطرية فيها لاكتشاف مواضع الخلل والتناقض الداخلي من جهة ،ومقارنة الأحكام الموروثة من خبرات ونظريات السابقين بأحكام متولدة عن رؤية أصيلة للواقع الكلي،رؤية تنطلق من الواقع المكاني والزماني للناظر والمنظر.
تلك الرؤية في التجديد والتغيير ناتجة عن تقسيم صافي للعقل البشري إلى نوعين أو بالأحرى أن العقل النظري يتألف من قسمين من المعارف :
-معارف قبلية فطرية سابقة على الخبرة والتجربة وموجهة لها ،تحول دون التناقض الداخلي للفكر ،ونمكنه من فرز المعطيات الحسية إلى مجموعة من المفاهيم الأولية ومن ثم تركيبها وفق مفاهيم مجردة .
-ومعارف مكتسبة من التجارب الحسية والتأملات النظرية والخبرات العملية وتتكون من تأكيدات أو قناعات :
1-عملية تكتسب من الخبرة والتجربة العمليتين .
2-قيمة تكتسب من المبادئ المستجدة من الوحي ،والقواعد المستخلصة من التجارب.
3-غيبية تكتسب من خلال تفسير نصوص الوحي أو رفضها أو تأويلها.
تلك الخارطة التي يتألف منها العقل النظري أو العقل بصورته الأولية تختلف وتتغير من خلال تأثيراتها في المتن الاجتماعي الذي يسايره هذا العقل ،ولذلك نشأ لدينا عقلان كما ذكرنا عقل قرآني وعقل وضعي ،وكلا العقلين يعيش الآن في أزمة يجب التفكير والعمل على إخراجهما منها .
إن د.صافي يرفض بداية مصادرتين أساسيتين سادتا في التفكير العربي المعاصر :
الأولى هي أن العقل العربي المعاصر يتكون في عصر التدوين كما تنطق بذلك دراسات الجابري في نقد العقل العربي ،فلؤي صافي يعتبر أن هذا العقل لم يتكون في عصر التدوين ولكنه امتداد للعقل الذي أفرزته ثقافة الانحطاط في القرون المتأخرة ،ونتاج لجهود المؤسسات التعليمية والتثقيفية التي ارتأت أن تعيد بناء العقل العربي المعاصر عبر استرجاع غير منهجي للتراث العربي الإسلامي واستعارة غير نقدية للثقافة الغربية السائدة ،وهذا ينقلنا بدوره إلى المصادرة التالية التي يرغب لؤي صافي في نقدها وتتعلق بالدعوة إلى تقمص العقل الوضعي الغربي ،إنها دعوة –في رأيه-تتجاهل أن العقل الغربي لا يقتصر في محتواه على أحكام تجريبية ،بل ينطلق من مجموعة أحكام متعالية تشكل رؤاه الكلية للوجود،كما أن هذه الدعوة دعوة خاصة لتقمص العقل الغربي لحظة أفوله وذبوله ،فالعقل الذي صنع الحضارة الغربية الحديثة ليس العقل الهلامي المفتقد للمبادئ العلوية والقيمية الثابتة ،والمستعد للتشكيل وفق الإناء الذي يوضع فيه ،لكنه العقل الواثق بذاته ومبادئه ،المتوثب إلى إعادة تشكيل واقعه الاجتماعي وفق مبادئ كلية .
وإذا اتفقت بداية مع رفضه لاعتبار عصر التدوين مرجعية للعقل العربي كما افترض الجابري ،فإنني في شك من اتخاذ ثقافة الانحطاط في القرون المتأخرة نقطة بداية يتأسس عليها العقل العربي ،رغم أني أعتبر الحفر المعرفي في هذه الثقافة ربما يكون مفيداً لنا أكثر في كشف المخبوء أو المسكوت عنه في هذا العقل ،وفي معرفة آليات بنيانه وطريقة توظيفه لمعارفه ،من الحفر في القرن الثالث أو الرابع الهجريين ،إلا أن اخاذ عصر التدوين كمرجعية تأسيسية إنما يتم كآلية إجرائية ؛بقصد تسهيل عملية الضبط والتحديد ،غير أن الجابري يعتبر عصر التدوين مفهوماً ناجزاً يكفي تحليل بناه المعرفية واللاشعورية لكشف آليات إنتاج المعرفة ،وهذا ما أوقعه في اختلالات منهجية متعددة أهمها يتمحور حول التغاير الزمني في الابتعاد والاقتراب من عصـر التدويـن ، إذ إن ذلـك يتساوى تماماً عند الجابري دون أن يلاحظ أن عصر التدوين ،لأن ذلك يتساوى تماماً عند الجابري دون أن يلاحظ أن عصر التدوين نفسه لم يشهد ذلك الاكتمال المنهجي ،وأن العصور اللاحقة والتالية عليه مارست تأثيرها على العقل العربي بصورة أشد من عصر التدوين نفسه ولاسيما عصور الانحطاط.
وبعد أن عرض لؤي صافي لإشكالية العقل ومفهومه في الفكر العربي،والقضايا التي تتفرع عن ذلك انتقل إلى الإشكالية الأزلية –إذا جاز لنا التعبير –وهي إشكالية تعارض العقل والنقل وأزليتهما لتنبع فقط من كونها ارتبطت مع نزول النص ،وألقت بظلالها على معظم علوم التراث الإسلامي ،ذلك بأن جميع مظاهر الاختلافات في هذا التراث كالموقف من اللغة هل هي توقيفية أم وضعية تَوَطَأ على وضعها البشر ،والموقف من التراث اليوناني إلى غير ذلك ،كل ذلك ليس إلا مظاهر على هامش الإشكالية الرئيسية ،إن الدكتور صافي يَعُدُّ أن هذه الإشكالية تولدت نتيجة للصراع الفكري بين الاتجاه الحشوي والاتجاه الكلامي ،فالتعارض بين العقل والنقل هو تعارض بين عقلين أو منظومتين متباينتين من الأحكام ،ثم تم تطويرها انطلاقاً من منهجيتين معرفيتين مختلفتين ،واعتماداً على بنيتين متغايرتين ،عقل تراثي مكبل بالقرائن اللفظية للنصوص والدلالات التاريخية للألفاظ ،وعقل تكاملي يفهم النص ضمن سياقه الخطابي والحالي،ويسعى إلى تحديد مقاصده الكلية ،ويربطها بالمقاصد العامة للخطاب ،فهذه الإشكالية لم تنبع أصلاً من داخل العقل الإسلامي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني ،ولكنها طرأت نتيجة لتأثر الفكر الإسلامي بالعقل الإغريقي الثاوي في الفلسفات الإغريقية ،ومع نقل هذه الإشكالية إلى الحقل الإسلامي أي إلى مجال تداولي آخر مختلف بمرجعيته ومنظومته فمن الطبيعي أن ينشأ تياران أحدهما يتبنى هذه المقولة ويعمل على تأكيدها وترسيخها ضمن حقله،والآخر سيشكل رد الفعل على هذه المقولة نفسها .
لذلك فإصرار ابن تبمبة على إخضاع العقلي إلى حكم النقلي يرجع إلى رغبةٍ قوية في التصدي للعقلانية الكلامية التي يمثلها الرازي والغزالي والجـويني وغيرهم من أعلام المتكلمين ،فالفكر الإسلامي في مرحلة نقدية في القرنين الخامس والسادس الهجريين استطاع أن يطور تصوراً دقيقاً تجاوز الأطروحات الإغريقية المبنية على نظرية الفيض ،كما نجد في رسالة ما بعد الطبيعة لابن رشد، لكنه وقف عاجزاً عن تجاوز إشكالية تعارض العقل والنقل كما تجلى واضحاً في كتاب درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية .
لقد استعار الفلاسفة المسلمون الأوائل كثيراً من مضامين الفكر الإغريقي في تطوير نظريتي الوجود والمعرفة بعد إدخال تعديلات طفيفة ؛لتقريبها إلى الرؤية الإسلامية للوجود،رغم أن علماء الكلام قد تصدوا لمقولات الفلاسفة وإبراز تهافت أطروحاتهم إلا أنهم تأثروا بالكثير من هذه الأطروحات .
بعد ذلك الطرح التاريخي لإشكالية تعارض العقل والنقل يحاول الدكتور صافي فضَّ الإشكال عن طريق تفكيك أحكام العقل ومعارف الوجود.
فلما كان العقل مؤلفاً من نوعين من المعارف كما ذكرنا،فإن التعارض بين أحكام الوحي وأحكام العقل الفطري غير ممكن ؛نظراً لخلو العقل الفطري من الأحكام المضمونية ،واقتصاره على الأحكام الإجرائية ،فلا يملك أن يقضي بصدق أحكام مضمونية منفردة أو كذبها ،لكنه قادر على الطعن في مصداقية منظومة من الأحكام من خلال إظهار تناقضها الداخلي ،فلا يملك العقل الفطري أن يعارض حكم القرآن بخلق الإنسان من طين ،لكن إذا نفي التعارض بين الوحي والعقل الفطري ،فهل من الممكن أن ينشأ تعارض بين الوحي والعقل المكتسب؟ هنا يعمد صافي إلى تحليل مكونات المعارف على اعتبارها أنها تتألف من ثلاثة مستويات من الوجود:
-الوجود الكلي المغيب.
-الوجود الطبيعي المشاهد.
-الوجود الإنساني المعيش.
لكن الأحكام القرآنية ليست ناجزة بل ثاوية في النص المنزل ،وتحتاج إلى إعمال العقل والنظر قبل استخراجها .ولما كان الوحي مصدراً معرفياً يستمد العقل مضمونه منه ،فإن قيام تعارض مباشـر بين آيـات الكتـاب والعقـل المكتسب ممتنع أيضاً ،فمشكلة تعارض العقل والنقل لا تنبع من رفض عقلي مباشر لنصوص منقولة ،بل تتعلق أيضاً في دائرة الأحكام المتعالية والقيمية ذلك بأن النظر في الواقع المشهود لا يمكن أن يولد أحكاماً متعلقة أو قيمية دون هداية الوحي ذاته،لأنه يمثل المصدر الرئيس لمثل هذه الأحكام ،فإمكان التعارض قائم في دائرة الأحكام التجريبية وحدها.
غير أن فض الإشكال وحده لا يكفي ؛إذ لا بد من محاولة الوصول إلى اليقين المعرفي الذي لا يتأتى إلا من خلال تطور منظومة من الأحكام الكلية اليقينية المتحصلة من خلال نظر واستدلال عقليين في مصدري المعرفة الرئيسيين:الوحي والواقع ،بمعنى أن الأحكام الكلية هذه تتولد نتيجةً لتواطؤ الأحكام الجزئية المستقراة من مفردات الوحي وتمظهرات الواقع .
فحقيقة تعارض العقل والنقل تكمن في التعارض بين نصوص جزئية ومجموعة من المبادئ الكلية ،ومن ثَمَّ فإن النظر العملي يقتضي إلحاق الجزئي بقاعدة كلية ،فإن تعذر نظرنا في إمكان تعديل القاعدة الكلية لدفع التعارض بين الكلي والجزئي ،فلا مفر من التوقف في اعتبار الجزئي واستمرار العمل بالكلي ؛أي التوقف في النص ،واعتماد منظومة القواعد الكلية التي تشكل البنية الداخلية لعقل الناظر في النص.
فتحويل إشكالية التعارض إلى علاقة بين جزئي نقلي يعاد تأويله في مقابل كلي عقلي ،أو كلي عقلي يعمد إلى تعديله للإحاطة بالجزئي النقلي تفترض أن العقل الناظر تشكل بتأثير دلالات الوحي ،بمعزل عن أي تأثيرات أخرى وهنا تأتي ضرورة تحديد المنهجية التكاملية التي انطوى عليها العقل التكاملي ومن ثم تطويرها لتستوعب التطورات المعرفية التي طرأت خلال فترة غيابه الطويلة .
إننا نجد أن الدكتور صافي قد أقرّ بوجود هذه الإشكالية وضرورة حلها أو فك ترابطها ،ومن ثم فهو لم يعمد إلى إنكار وجودها بغية تغييبها أو القفز من فوقها كما يحلو للكثيرين ،لكنه اعتبر أن هذه الإشكالية طارئة على الفكر الإسلامي من خلال تأثره بالتراث اليوناني وغير أصيلة فيه أو ناشئة لديه من خلال تطور سياقه الخاص ، ثم عمد إلى حلها عن طريق تفكيك كل من طرفي الإشكالية ،بحيث تحولت إلى إشكالية مركبة ذات مستويات متعددة ونقاط التماس ليست ناتجة بالضرورة عن التصادم وإنما نتيجة الاحتكاك الطارئ،وهكذا فإن حل الإشكالية يتم دائماً على حساب أحد الطرفين وذلك أنه في أثناء نقاط التماس يجب أن يتم تغيب أحد الطرفين ليحضر الآخر لأن اجتماعهما معاً سيولد حتماً الإشكال،وهكذا أعدنا الإشكالية نفسها ولكن بصياغة أخرى مختلفة ،دون أن ندرك الجدلية القائمة بين الطرفين والعلاقة الارتباطية المتولدة بينهما ،فالصيرورة التاريخية المتن الاجتماعي يفرضان نوعاً من التحولية في هذه الإشكالية ،فهي ناتجة إثر توقف أحد الطرفين عن إدراك تحولات الطرف الآخر ،فالنص من طرف ،والنص هنا يكون حاضراً دوماً بعيون قارئيه،والعقل من طرف آخر المكون من معارف عصره المختلفة يشكلان طرفين للإشكالية متكاملين عندما يعملان معاً،لكنهما سيصطدمان وسينشأ بينهما التناقض عندما يتوقف أحدهما عن النظر والعمل .
وهذا ما يدخلنا مباشرة في الفصل الذي يحمل عنوان الكاتب ،إذ يبدأ المؤلف بتمهيد يدخله مباشرةً في صلب الموضوع الذي يود طرحه ومناقشته ،إنه يقرر أن جهده يتعلق بوضع العلاقة بين الكتاب والسنة موضعهما الطبيعي بحيث يكون الكتاب هو الأصل الثابت ،وتكون السنة تابعة في مقاصدها وأحكامها لمقاصد القرآن الكريم وأحكامه،وبحيث يعود الكتاب قاضياً على السنة بدلاً من اعتبار "السنة قاضية على الكتاب"،لتحقيق ذلك يصطلح المؤلف مصطلح"الرؤية القرآنية "يعبر به عن ضرورة فهم الحديث وتحديد موقعه في بناء المفاهيم والأحكام الإسلامية برده إلى "الرؤية القرآنية"التي ولدته،أي جملة المبادئ العامة والقواعد الكلية المستمدة من كتاب الله العظيم ،والمنتظمة وفق نسق يربط الفروع بالأصول ويقدم الأولي على الثانوي مع فقه أفعال الرسول (ص) ومقاصدها .إن المؤلف يَعُدُّ غيابَ "الرؤية القرآنية"هو أس المشكلات التي تواجه الفكر والفقه الإسلاميين المعاصرين،فالفقيه والمفكر المعاصر لا ينطلق من رؤية قرآنية على الرغم من اعتماده على آيات القرآن المبين واستناد تأكيداته إلى السنة.
إنه يرى أن الدعوى بتماثل النص القرآني والحديث المروي شديدة الاضطراب ، ذلك بأن هناك تحفظاً إزاء جعل السنة مصدراً مماثـلاً للكتـاب يتعلق بعدم خضوع نصوص الحديث للحفظ كما هو حال النص القرآني ،دون التشكيك بحجية السنة ،وإمكان اعتماد الحديث لتقييد مطلق القرآن وتخصيص عامه.
فالسنة التي يطلق عليها المؤلف "الحكمة"وهي مجموعة المبادئ المحددة "للرؤية القرآنية"التي تجلت في ممارسات الرسول –عليه السلام-ومواقفه العملية ،لذلك يجب الامتناع عن تحديد "الحكمة" بآحاد النصوص المروية عن رسول الله كما فعل الشافعي ،الذي كرس الحديث مصدراً مرجعياً موازياً للقرآن وحاكماً عليه وذلك لأنه استنبط معنى الحكمة من قول من رضيه من أهل العلم ،إضافة إلى أنه أصر على منع نسخ السنة بالقرآن،رغم ذلك،فإن الشافعي نفسه في كتابه الأم يذكر لمحات من الرؤية القرآنية وذلك عندما يقدم القياس على حديث الآحاد، ويضعف الأحاديث المرسلة ،وذلك ناتج عن اختلاطه بشيوخ وأساتذة يرون أن السنة تبع للكتاب ،كمالك بن أنس وغيره ،غير أن هذه "الرؤية القرآنية"ما لبثت أن تراجعت حتى كادت تختفي عند القاعدة العريضة من الفقهاء في عصرنا هذا ،ومع تراجع هذه الرؤية برزت "المنهجية النصوصية"التي اعتمدت على تقديم نص وتأخير آخر ،معولة بالدرجة الأولى على نصوص الحديث،إن هذه المنهجية تقوم على تحكيم نصوص مروية عن الرسول (ص)فيما استجد من أحداث ،وتقديم الحديث الظني على القياس على حكم قرآني قطعي .ولقد أدى ذيوع هذه "المنهجية النصوصية"إلى توقف إعمال العقل في النص ،وتراجع الاجتهاد وتقليد السلف دون فقهٍ"للرؤية القرآنية"التي حركتهم ودفعتهم للفعل والترك،والتحذير من الاجتهاد وإعمال الرأي.
إن المشكلات التي أثارتها هذه المنهجية لا تتعلق بفقه العبادات وإنما تتركز في دائرة فقه المعاملات وفقه الأحكام السلطانية ودائرة التصور الكلي المرتبط بالأبحاث الكلامية،أي في قضايا العلاقات التجارية والاقتصادية والسياسية ومسائل تحديد البنية الأساسية للوجود الطبيعي والاجتماعي والتاريخي للإنسان ،وإن تحرير العقل المسلم من هذه المنهجية،وربطه بالرؤية القرآنية شرط ضروري لتحقيق ارتقاء علمي ونهضة عمرانية ،وهذا بدوره يتطلب تحديد الأسس المنهجية لاستراجاع"الرؤية القرآنية".
إن أولى هذه الأسس يقوم على ضرورة ربط النصوص بعضها ببعض،واعتماد قاعدة أو مجموعة من القواعد الكلية ،ثم استنباطها من خلال تواطؤ مختلف الآيات والأحاديث الواردة في المعنى ؛أي باستقراء المعاني وإدراجها ضمن مفاهيم كلية وقواعد عامة.
إضافة إلى ذلك يجب التأكيد على أن القياس المؤدي إلى تعدية الحكم من أصل إلى فرع لا يصح تطبيقه على آحاد النصوص،بل يلزم النظر إلى هاتين العمليتين على أنهما جزء من منهجية علمية ترمي إلى الانتقال من النظر الجزئي إلى النظر الكلي من خلال اعتبار جميع النصوص المتعلقة بالموضوع المدروسة ؛بغية الوصول إلى "القواعد القياسية"التي تتعلق بـ:
-تحديد النصوص.
-تعليل النصوص.
-استقراء المعاني الكلية.
-عرض نصوص السنة على القواعد.
وإن تأخير اعتبار السنة عن القرآن في منهجية "القواعد القياسية"السابقة الذكر تأخير مقصود ومطلوب للحفاظ على أولوية الفهم المتولد في آيات الكتاب.
إن هذه المنهجية –بحسب رأي المؤلف –تستوعب طرائق التحليل النصي التي طورها علماؤنا الأقدمون من جهة ،وتخلصنا من الطبيعة التجزيئية التي حكمت كثيراً من اجتهاداتهم ،وتمكننا من دراسة النصوص دراسة مضطردة ،وربطها بالواقع الاجتماعي المتجدد ،غير أنه يجب الانتباه إلى أن "منهجية القواعد القياسية"تهدف إلى إرشاد العقل وتوجيهه إلى جهده الرامي إلى استنباط الأحكام والمفاهيم من نصوص الوحي،لذلك فهي لا تهدف إلى استبدال التفكير العقلي الخلاق بآليات صماء يمكن أن تتبع دون جهد واجتهاد ،ذلك أن تفهم مقاصد الوحي ومراميه لتوظيفها في خدمة الحياة بمختلف مناهجها الاجتماعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى جانب المناحي التعبدية لن يتم بدون إعمال العقل في النص .
إن المؤلف يرمي من طرح هذه الرؤية التكاملية إلى فهم الوجود بمختلف أبعاده، وتوظيف الإمكانات الذهنية للعقل الإنساني بكاملها ؛ بغية إبراز أهمية التكامل المعرفي بين المعارف الثاوية في النص المنزل والمعارف الكاملة في الواقع المشهود،ذلك بأن النظام الوجودية الثلاثة ،نظام الخطاب ونظام الطبيعة ونظام المجتمع ،نظم مترابطة ومتداخلة ،وهذا الترابط والتداخل مصدر رئيسي من مصادر التعقيد الذي يجعل إدراك العقل للمكونات الوجودية المختلفة ثم ربط بعضها ببعض مهمة دقيقة وصعبة .
لكن طرح هذه "الرؤية التكاملية" ضروري للتخلص من "منهجية الوضعية المنطقية"و"المنهجية الإسقاطية"،"المنهجية الوضعية المنطقية" التي تصر على تجاهل البعد الروحي للظواهر الإنسانية والبعد التاريخي للمؤسسات والنماذج الاجتماعية ،مما يدفع إلى القول بأن الموقف ينطوي على موقف استراتيجي يطمح إلى الاحتفاظ بالموقع المهيمين للمجتمع الغربي بالقياس إلى المجتمعات الإنسانية الأخرى، وقطع الطريق على الجهود الرامية إلى تطوير بدائل حضارية وأشكال اجتماعية مغايرة ،أما "المنهجية الإسقاطية "كما مارسها أصحاب الأدبيات الإسلامية كسيد قطب وغيره فإنها تمتاز بتجاهل البنية التفصيلية للمجتمع والتاريخ،وإسقاط التصورات الذاتية للمفكر والقيم التي آمن بها والتوجه النظري الذي اقتنع به على الواقع الاجتماعي والتاريخي ،فالمفكر الإسقاطي يعمد إلى بناء منظومته الاجتماعية اعتماداً على طرائق استنتاجية في البحث،ويكتفي باستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي .
إن المؤلف يؤمل من طرح "المنهجية التكاملي "المبني على "الرؤية القرآنية"والمستند إلى "منهجية القواعد القياسية"إلى استبدال المنهجيتين السابقتين اللتين وقعتا في مآزق متعددة وخلّفا وراءهما آثاراً مختلفة على كافة الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية .فالخروج من الأزمة يتطلب تجديداً في الخطاب ،وهذا التجديد لا يأتي بدون إعمال العقل وتفعيل قدراته على أن يكون مبنياً وفق منهجية تكاملية تعيد وصل ما انفصل ،وتخرج العقل العربي الإسلامي المعاصر من سباته الذي طال قروناً.
إن هذا الكتاب وبما يملكه من جرأة نقدية يحسد عليها كاتبها،إضافة إلى جلاء الفكرة وتبلورها في ذهن الكاتب قبل أن يخرج بها إلى عالم النشر ،إضافة إلى تمكنه من الآليات المنطقية الحديثة التي ساعدته في تحليل وتفكيك المعطيات الأولية ثم إعادة بنائها وفق ما ينسجم مع رؤية التكاملية ،كل هذه ميزات تجعل كتاب "إعمال العقل" من الكتب النادرة التي تشاغل عقل القارئ وتستحثه على طرح الأسئلة الدفينة ليخرج بها إلى فضائها الأوسع والأرحب .
-----------------------------
الكتاب: إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية
المؤلف :الدكتور لؤي صافي
الناشر :دار الفكر المعاصر ،بيروت ،1998
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.