الكتاب: البوصلة القرآنية
المؤلف: أحمد خيري العمري
الناشر: دار الفكر، دمشق.
الطبعة: الثانية 2005م.
-----------------------------
مقدمة أولى(*)
كان من المفروض ان يكون هذا الكتاب بحثاً في أوليات القرآن، فقد بدء بحثاً عن الترتيب الموضوعي الفكري للآيات حسب توالي النزول في مكة، وكان الهدف من هذا البحث تناول البناء التراكمي الذي أحدثته هذه الآيات على المستوى النفسي الفكري والعقائدي للرسول (صلى الله عليه وسلم) بالدرجة الأولى، وللجماعة المؤمنة بالدرجة الثانية .
ابتدأ البحث على هذا الأساس، لكنه توقف عند نقطة البداية, وظل محكوماً بها الى حد كبير ،مرتهناً بها في هيمنة لا حدود لها؛ إذ كانت البداية أعني: "اقرأ" وهي بداية من الصعب تجاوزها بسهولة -او حتى بصعوبة- لقد وجدت انها تمثل الجوهر الأساسي للرسالة التي ابتدأت ملامحها تتضح تباعاً وبالتوالي، وهي جوهر ملتحم ومتمثل أساسا بالوسيلة القرآنية في استشعار المعجزة [الإنسانية] (العقل)، وكل الباقي من الأولويات كان تدرُّجات مختلفة تمثل نماء العقل، وتكوين العقل، وإعمال العقل.
غير أنه من الصعوبة بمكان متابعة ترتيب النزول بدقة؛ لان هذه التفاصيل غير موجودة، لم تحتفظ لنا بها السنة وأسانيدها بطريقة يمكن الوثوق بها. صحيح أن أوائل السور معروفة قطعاً ويقيناً وكذلك معرفة المكي من المدني من السور مسالة ثابتة تماماً وكذلك هناك بعض السور مرتبطة بحوادث معينة معروفة تاريخياً- سورة الاسراء مثلاً يمكن تقدير نزولها ارتباطاً بهذه الحوادث.
لكن مع كل ذلك، كيف يمكن الوثوق بالترتيب المحدد لنزول اكثر من ثلثي القرآن في مكة على مدى 13 سنة وحتى لو افترضنا- وهو افتراض قوي وممكن ان يكون صحيحاً- ان الترتيب للسور صحيح الواحدة تلو الأخرى ابتداء من العلق وانتهاء بالمطففين، فكيف يمكن الوثوق بان كل الآيات في السور كانت مرتبطة بنفس التسلسل الزمني؟ اذا كان البعض منها مدنياً ومع ذلك مدرج في سور مكية كترتيب توقيفي لا اعتراض عليه. في نفس الحالة يمكن ان يكون هناك سورة مكية متأخرة أدرجت فيها آيات مكية مبكرة كترتيب توقيفي لا اعتراض عليه ايضاً ولكن ذلك لم يذكر لانها كلها مكية .
ومن ناحية أخرى فإن النظرة المتسرعة التي تحكم على تسلسل الآيات بحجم السور هي نظرة خاطئة تماماً؛ فسورة الزلزلة مثلاً التي من السهل جداً تشبيهها بالنسيج المكي المبكر جدا هي سورة مدنية تماماً نزلت في مجتمع مدني مستقر كأنما لتزلزله وتذهب عنه وهم الاستقرار تفيقه ربما من غفلة او نومة استغرق فيها وبنفس الفهم هناك آيات أدرجت على أنها مدنية متأخرة في سورة مكية مبكرة (كما بعض الآيات في سورة القلم) دونما سند صحيح أو حتى ضعيف، ولكن سياق هذه الآيات يعارض تماماً كونها مدنية ويرجح على الاكثر كونها مكية مبكرة منتمية لنفس السورة الأصل، ففي سياق معين تشد الآيات من أزر الرسول وتقويه بطريقة لا يعقل ان تكون منتمية للفترة المدنية وانما من الواضح انتماءها لفترة أول نزول الوحي المتفق مع تسلسل نزول السورة الأصلي خاصة في ظل عدم وجو سند او رواية مسندة تدعم الرأي القائل يكون هذه الآيات مدنية .
هذا كله يجعل من مسألة الترتيب المتتابع المحدد مسألة صعبة وربما غير ذات جدوى فالسور المكية عموماً تقدم لنا خطوطاً عريضة عامة ومتداخلة ولن يكون مهماً حقاً متى بالضبط تحدد هذا الخط ومتى توضح اكثر فالبناء التراكمي النهائي المتكون من جملة خطوط عريضة هو المهم في النهاية والخطوط العريضة التي اقصدها قد تنتمي لما نسميه اليوم بالعقائد او بالإيمان، أو قد تنتمي للفكر او للوعي، التسميات والتقسيمات غير مهمة هنا، المهم انها كانت تتراكم في وعي الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه، وعبر تراكمها كانت تتفاعل وكانت تنشأ وعياً بديلاً مغايراً لكل ما سبق الى هنا والأمر يكاد يكون عادياً بل وبديهياً.
لكن عندما نجد ان الخطوط العريضة التي غرسها الخطاب القراني في فترة التكوين الأولى ـ والتي كانت بمثابة حجر الأساس واللبنة الأولية لكل ما تلى من فرائض وشرائح ـ مفقودة بل معدومة في التفكير الديني التقليدي والشائع والمسيطر فإن الأمر لا يعود عادياً ولا بديهياً ولا حتى منطقياً .
هذا الكتاب هو بحث عن هذه الخطوط القرآنية- الثوابت المفقودة وهو بالتالي بحث في كيفية فقدانها، في الظروف والملابسات التي أدت الى فقدانها واتت بخطوط أخرى مختلفة، بل ومضادة للخطوط القرآنية، هذه الخطوط المضادة المحتمية بالمؤسسة الدينية التقليدية هي بمثابة أسلاك شائكة من الصعب تجاوزها واختراقها والتحدث في هذه الأمور هو أشبه بالتجول في حقل الغام معرض للانفجار في أي وقت .
ان قداسة المؤسسة وعراقتها وقوتها مستمدة أساساً من احتمائها بالنصوص القرآنية والنبوية المقدسة وادعائها احتكار تأويلها لنفسها فقط ورغم أهمية هذه القداسة فأن الامر يهون علينا لأننا ننطلق من نفس أرضية النصوص المقدسة ولكن من فهم مغاير لذلك الفهم الذي نشأ في ظروف وملابسات تقاطع فيها التاريخ والسياسة مع العقيدة، والمتصدي لهذه الأمور يعرف جيداً جسامة مهمته ، بل انه يكاد يحفظ غيباً كل التهم التي ستلقى عليه لكنه يحتمي بما هو أقوى من "المؤسسة التقليدية" نفسها؛ لأنه يحتمي بالقرآن وكفى بمنزِّله وكيلاً وحسيباً .
----------------
مقدمة ثانية
"اقرأ" .... من الصعب أن نطبق نظرية بحذافيرها على تلك اللحظة . من الصعب أن نجد مصطلحاً محدداً، يتلبس تلك الذروة أو يتقمصها: "منعطف"؟ "منحنى"؟ "ولادة جديدة"؟ كل تلك كلمات، تناور وتدور حول المعاني، تصف ولا تصف، تنجح وتفشل .. كل ما نستطيع قوله هو أن أساساً جديداً للعلاقات قد بدء، وبالضبط: إن وعياً جديداً قد بذرت بذرته في تلك اللحظة، ولادة للوعي الإنساني ربما؟.
"اقرأ" كلمة السر – الذي لم يعد سراً بل صار جهراً في العقيدة الجديدة ، دونما إبهار أو أساطير أو معجزات تشبه القصص الخرافية، وبينما تنام شعوب على خيالات كلمة السر التي تفتح مغارات الكنوز، فإن كلمة السر هذه قيلت في الغار ثلاث مرات لرجل أمي، ففتحت أبواب العلم وافاق المعرفة لأمته، وجنيت كنوز وكنوز للانسانية عبر القرون التي سادت فيها حضارة "اقرأ" .
ولا يدري أحد على وجه التحديد في أي مرحلة من مراحل العلم سنكون اليوم لو لم تقال تلك الكلمة – السر، لكن الذي حدث أن تلك الكلمة التي قيلت في الغار همساً، صارت شعاراً لحضارة، ومنهاجاً لحياة، وأول ما أنزل من كتاب سيتخذ من الفعل ذاته "اقرأ" اسماً يتلى ويتعبد به في صور وعقول اتباعه …
وكلمة "اقرأ" لم تكن أول كلمة أنزلت من الوحي فحسب، بل كانت أول فعل أمر أصدره الله إلي رسوله الأخير ، والى أمته من بعده ، بطبيعة الحال .أي إنها كانت ببساطة شديدة . ودونما تشنجات فقهيه – اول فرض فُرِضَ على محمد (صلى الله عليه وسلم) .
القراءة: أول فرض في الإسلام، قبل الصلاة والصوم والزكاة والحج، وبعبارة أخرى : كانت كلمة "اقرأ" الشاملة هي المدخل الذي فُرِضَتْ عبره كل الفرائض الأخرى …
كان العلم – بمعناه الشمولي والواسع ـ هو الإطار الذي من خلاله أخذت كل الفرائض الإسلامية موقعها الذي حددته الشريعة فيما بعد، والحديث عن علاقة الإسلام بالعلم بات حديثاً مكرراً، استهلكت فيه المعاني ونفذت، وهو حديث يرتكز على الاستشهاد بعدد من الآيات القرآنية التي تشيد بالعلم والعلماء، وعلى كثرة تكرار لفظة علم ومشتقاتها (البالغة حوالي 439 مرة ) في القران الكريم – ليستنتج ان الإسلام (حثَّ) على العلم ، وان هذا الحث هو التغيير المنطقي للطفرة العلمية التي أنجزتها الحضارة الإسلامية.
للوهلة الأولى تبدو مقدمات الاستشهاد ونتائجه صحيحة. لكن عندما يفكر المرء ان الوحي الإلهي بدء باقرأ، فانه يقر ان الأمر اكثر من مجرد "حثّ"، وان الطفرة العلمية الإسلامية اكثر من مجرد استجابة لهذا الحث، ولكن عندما يبتدئ الوحي بـ"اقرأ"، فالأمر أكثر من الاستحباب واكثر حتى من الوجوب، انه يقع في منطقة خارج التقسيمات الاصطلاحية التقليدية – ويقع في منطقة عميقة جداً في البناء الإسلامي: في الأساس، في الأركان، في القاعدة.
وهذا ما كان واضحا ، دونما تنظير فكري – بل كواقع يومي معاش لأفراد الجيل الأول ، وهو الذي شكل الدفعة العلمية الكبيرة التي أنجزتها الحضارة الإسلامية، أما أن نتصور أن "الحث" والأوامر الإسلامية بطلب العلم قد حققت ذلك الوثوب وتلك الطفرة – فهو أمر اقرب الى السذاجة منه الى النظر والتحقيق العلمي …
لقد كان الإسلام لغة جديدة، وروحاً جديدة، ومضموناً جديداً بصياغة جديدة للعلاقات الإنسانية مع بعضها ومع الله …، وكانت المفردة الأولى التي تكونت في هذه اللغه الجديدة – بالأبجدية الجديدة – هي كلمة "اقرأ".
لكن الرجل الذي أنزلت عليه "اقرأ" كان أمياً، وقد ظل علماؤنا لفترة طويلة يفسرون ذلك أنه من أدلة النبوة وأوجه الإعجاز – في مواجهة المشككين بصدق نبوة محمد (عليه الصلاة والسلام). والانطلاق من أرضية التصديق بالنبوة يمنح ذلك التناقض الظاهري بين إقرأ وبين أمية النبي أفقا واسعاً للتأمل وفضاءً رحباً للتعليق، انه يحرر القراءة من أسوارها الأبجدية وحدودها اللغوية – على سعتها – ليطلقها في عالم المعاني شديدة الثراء والخصوبة، انه يحرر القراءة من المفاهيم الجامدة للتلقين الغبي الى قراءة ما هو غير مكتوب في بطون الكتب، هو دعوة لقراءة كتاب الكون المفتوح، المتمثل في كل ذرة من ذرات الخليقة، والمتجسد في كل حبة رمل ونسمة هواء وثمرة شجر، إنه دعوة للقراءة في كتاب النفس الإنسانية: في كل نزعة خير ونزوة شر، وعاطفة حب تهف بها النفس نحو الجمال والسمو أو تسقط بها نحو الرذيلة أو الانحدار …
والمتأمل في اللفظ المجرد "اقرأ" في اللغة العربية يجد في ثراء المعاني المرتبطة بها زوايا جديدة للنظر نحو الأمر الأول بل الفرض الأول الذي نزل في الغار؛ فمشتقات قرأ ترد بمعاني: الحمل والجمع (من المجموع) والفقه، والمدة الزمنية، وكل واحدة من هذه المعاني تمنح "اقرأ" بعداً جديداً يوضح رؤيتنا لما حدث في الغار يومها.
فالقراءة – بمعنى " ما – هي حمل أيضاً " ، وهو حمل ينتج من اللقاء الخصيب بين العقل الإنساني والواقع الإنساني ، ذلك اللقاء الذي ينتج بذرة الوعي وجنين الأمل … في حمل قد يدوم عقوداً او قرون …او يجهض …
وهي ترتبط بالجمع – قراءة شمولية متوازنة تنظر الى العالم كله برؤية تكاملية غير تجزيئية …
وهي عين الفقه – الفهم – الذي يغوص عميقاً بحثاً عن الجذور ، والذي يبحث عن الأسباب لا عن الظواهر ، ويشخص الأمراض ولا يحدد الأعراض فقط …ومرتبطة بالفترة الزمنية – لأنها ليست مطلقة ، خارج الزمان والمكان وذات صلاحية غير منتهية بل – وبسبب ارتباطها بالواقع ومتغيراته – تحتاج إلى عين بشرية جديدة وعقل بشري جديد باستمرار ، ليقرأ من جديد …
وهكذا فإقراْ هي دعوة لقراءة الكون بأجمعه . الخليقة بأجمعها . والتاريخ . والنفس البشرية …
إنها دعوة استقراء واستنباط وتبحر عميق في العلاقة الحتمية بين الأسباب والمسببات وهي ذات الدعوة التي تمخضت فيما بعد بما يسمى اليوم بالمنهج التجريبي في العلوم – والتي كانت من أهم ركائز الانطلاقة الإسلامية في الحركة العلمية . والتي تعتمد على الملاحظة والاستنتاج لكنها بدأت حقا في الواقع اليومي المعاش ، من (إقرأ ) التي بدأت بملاحظة الظواهر البسيطة المحيطة بالفرد البسيط ولا تنتهي حتى بالكون العميق، إنها فتح لأبواب العقل نحو الجهات الأربع : شمال وجنوب ، شرق وغرب . تتخطى الأبعاد الثلاثة بل وحتى البعد الرابع: الزمن.
ولو تابعنا الحديث الذي روته السيدة عائشة (رضي الله عنها) ـ والذي أورده البخاري في صحيحه ـ لوجدنا نصاً شديد الخصوبة يفيض بالمعنى والمغزى، يحدثنا فيه الرجل نفسه وتجربته الهائلة الأولى مع الوحي، ويتضح من متابعة الحديث، أن النبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) كان يعي منذ اللحظة الأولى ضخامة الكلمة التي أنزلت عليه، كان يعلم إنها تتجاوز حدود القراءة الاعتيادية إلى أفق غير منظور ، فهو ينكر الطلب "ما أنا بقارئ " ثلاثاً، وهو يرجع بها و يرجف بها فؤاده، ويقول " لقد خشيت على نفسي "، وقبلها يطلب: "زملوني زملوني"؛ فزملوه حتى " ذهب عنه الروع " .
كل ذلك يؤكد بشكل قاطع أنه كان يدرك منذ اللحظات الأولى لرسالته أهمية ما جرى له وأهمية ما نزل به الوحي . ولم ينقل عنه أبداً انه استشكل أمر القراءة وهو الأمي – وهذا يعني انه كان يعي ان أمر القراءة يتجاوز الشكل الحرفي – الأبجدي – الى معنى الوعي والاستقراء كله ثم اكد له ورقة بن نوفل ما كان يدور في وعيه : " هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" ولم تكن سوى ثلاث آيات لكن ورقة وجد فيها الناموس ، ووجدها سحيقة القدم عميقة الجذر تتصل بموسى – بعمق التاريخ . ثم قال منبهاً : " ليتني اكون حياً اذ يخرجك قومك " ولعل محمداً كان يعلم الجواب – او يخالجه – اذ سأل: او مخرجيَّ هم ؟ لضخامة الكلمة – الناموس التي ألقيت عليه ، فيجيبه ورقة ما يجيبه ، وضمن الجواب ً نعم …ً .
كانت تلك هي الولادة الجديدة للوعي الإنساني . وللعقل الإنساني التي حدثت في غار حراء، أما المخاض – مخاض الوعي – فسيستمر فترة طويلة تتجاوز حتى الـ 23 عاما التي كونت عمر الدعوة، وعبر القرون سيعاني المخاض كثيرون ، أولئك يجددون الوعي المسلم والفكر المسلم ، بل يبعثون للامة دينها ( كما جاء في الحديث الصحيح …) انهم يمنحون للقراءة أبعادها المتجددة المتفاعلة مع إرهاصات الواقع وتراكمات الخبرة الإنسانية …
من جاهلية مشركي مكة الى نظام العولمة المهيمنة ، يظل جوهر المخاض واحداً . إنها ( إقرأ) .حتى وان غفلنا عنها لقرون ، تخفت أحياناً ويكون صوت الضجيج أعلى من همسة الغار ، لكنها هناك موجودة ، في الأعماق ، وإذا أنصتنا قليلاً لنبض الوعي ، فستكون همسة الغار أعلى من كل الأصوات ، أقوى من كل الأصوات … وأبلغ من كل الأصوات.
لكن أكثر جوانب المأساة بروزاً هي موقف حملة القران والدعاة من اول كلمة انزلها عز وجل على الرسول الكريم …
فرغم انتشار الصحوة الإسلامية – كما يسمونها اليوم – فان هناك قصورا واضحا في علاقتها مع إقرأ… وهو القصور الذي ينعكس على علاقتها بالمجتمع والواقع والتاريخ والمستقبل ، بل على علاقتها مع نفسها كظاهرة صحوة ، وعلى علاقتها بالإسلام، ككل، إنها نقطة الخلل المركزية التي تمحورت حولها كل مشاكل الرؤية والتطبيق التي تعاني منها الصحوة … ويعاني منها الفكر الإسلامي؛ ذلك أن مفهوم "اقرأ" ظل مفهوماً ثانوياً ومرتبطاً بالقراءة التقليدية الجاهزة للمجلدات والكتب التي سطرها الاولون فحسب . وكانت هذه القراءة – الا فيما ندر – تلقيناً تقليدياً، لا حواراً بين الاجيال وبين الواقع الحاضر – والماضي، بل كانت قراءة تحاول قسر الماضي على الحاضر بالقوة، وتفرض فهم رجال وعلماء عاشوا في القرن الخامس او السادس الهجري على ظروف القرن الخامس عشر …
ومن هذا الخلل الكبير لفهم "اقرأ" نتجت ظواهر فكرية مؤسفة فيما سمي "الصحوة"، رغم أن هذا الخلل نفسه نتج عن مجموعة ظروف وملابسات تاريخية واجتماعية قديمة تعود الى عصر الانحطاط لكن النتيجة النهائية للفهم الجامد لكلمة إقرأ كانت استمرار التكريس لقيم ومفاهيم عصر الانحطاط بل تحويلها الى بديهيات، مسلمات لا غنى عنها.
نفس الآيات الثلاثة التي أنزلت أول مرة في الغار كانت تحمل إشارة الى خلق الإنسان من علق . والعلق مضغة الدم ، وهي طور من الأطوار الجنينية التي يمر بها الإنسان ، وقد ذُكِرتْ هذه الأطوار بتفصيل اكبر في آيات أخرى من سور مختلفة .لكن موقعها هنا بعد إقرأ مباشرة ، وقبل إقرأ مباشرة ، يثير الانتباه والتأمل ، للوهلة الأولى – على الأقل .
فالعلقة دور من أدوار التطور التي يمر بها الإنسان – إلى ان يصير أنساناً ، بالضبط كما تمر بقية المخلوقات بأدوار وأطوار تختلف او تتشابه مع الأطوار الإنسانية بحسب موقعها من خارطة الخليقة :القطة والكلب والفيل والنملة وحتى الديناصور مروا جميعا باطوار معينة – مثلما مر الإنسان.
لكن تطور الإنسان لا ينتهي بانتهاء هذه الأدوار الجنينية كما ينتهي تطور بقية الحيوانات، إنه لا يكتمل انساناً الا بخطوة أخرى، بطور آخر، وبينما يمر الإنسان بتلك الأطوار السابقة ـ رغماً عنه، كما تمر الحيوانات الاخرى بها ـ فان هذا الطور الاخير لا يمر الا بإرادته ووعيه انه يختاره أو لا يختاره، يكمل درب التطور، أو يظل حيث هو، وهذا الطور، بل هذه الحرية في الاختيار ، وتسليم الوعي والارادة لهذه المسؤولية هو أول ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات، وهذا الطور هو الوعي ذاته . إنه " اقرأ " التي تحاصر الإنسان – العلقة في الآيات الثلاثة الأولى التي أنزلت في الغار.
"اقرأ" هي الطور الإنساني الأخير الذي به يكتمل تطور الإنسان – ويتميز عن بقية المخلوقات، هي الحلقة المفقودة التي طال البحث عنها – في تطور الإنسان – وهي موجودة لا في الحفريات وعظام الجماجم القديمة وبحوث الانثروبولوجيا . إنها موجودة في وعيه . في عقله . في قراره بان يكون إنساناً … والذي لا بد وان يمر بـ"اقرأ"
"اقرأ" هي تلك الطفرة النوعية التي يختار الإنسان ان يقفزها ليتخطى الحواجز والعقبات التي تعوقه عن إنسانيته . عن وعي المعاني العميقة الكامنة في كل ذرة من ذرات الكون وكل حركة من حركات التاريخ ، عن ان يكون كما اراده الله ان يكون : خليفة على الأرض …..
يقف الإنسان – بعد ان اكمل تطوره الطبيعي الخارج عن إرادته – ليقرر هل يكمل ، ويستجيب لهمسة الغار ، ويصعد ذلك السلم المضيء الملون – سلم التطور الإنساني الحقيقي .سلم إقرأ ، وكل درجة من درجات السلم يصعدها تغوص به الى عمق الحقيقة والوعي والإرادة , وتزيده اقتراباً من دوره ومسؤوليته الحقيقيين .
أو أن يقف – مكتفيا بتطوره الجنيني – فيقف على حافة السلم ، قدر الطحالب والدواب .
…. و"اقرأ" تمثلت في منجزات حضارية مختلفة ومتنوعة – كانت في حقيقتها جوهر الحضارة التي ارتكزت على همسة الغار …
فمرة تمثلت في فقه متجدد – قائد- يتجدد مع تطورات المجتمع والظروف . ومرة تمثلت في عدالة اجتماعية شملت كل مواطنيها في البلدان المفتوحة أيضاً، وتمثلت في صراع متأجج بين قوى متناحرة ، ومتنافرة : الأولى التزمت بـ "اقرأ" المتجددة الفهم للمقاصد والثانية حاولت الزام قراءة واحدة – جاهلية غالباً- على الواقع والمجتمع …ورغم اختلاف الشعارات ، وتبدلها بين الحين والاخر … فان إقرأ، كانت دوماً هناك في العمق ، خلف الكواليس وخلف الستار .
وعندما اختفت "اقرأ" ، صارت مجرد كلمة دون المعاني والافاق والمقاصد ، صار الصراع يمثل – رؤى جامدة ومتوارثة : دون ذلك الفهم ، دون ذلك التجدد ، دون تلك المقاصد أي باختصار : دون ذلك الاسلام – الحقيقي .
في البدء كانت إقرأ ؟
لا . ليس في البدء فقط . انها في البداية والنهاية وفيما بينهما .
إنها الأمر الأول – الفرض الأول غير القابل للاستئناف او النسخ . والذي لا يكسب فعاليته وحيويته الا باستمراره على كل الأوامر التالية – بل كل الأمور التالية – والتي لا تكتسب – هي الأخرى – فعاليتها الا بالتعامل مع الأمر الأول : إقرأ…
لذلك فان إقرأ ليست مجرد بداية تاريخية لنزول الوحي . إنها البداية والنهاية وما بينهما . إنها جوهر الحكاية بأكملها، الحكاية التي لم تنته بعد!.
------------------------------
(*) اقتباس من نصوص المؤلف مع التصرف (المحرر)
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.