|
|
كتب ومراجعات . عروض و مراجعات |
|
|
|
لم يكن قرار(مصطفى كمال) بإلغاء منصب الخلافة عام 1924، شأناً تركياً داخلياً، تعامل معه الساسة وكبار قواد الجيش (التركي) على أساس أنه نتيجة طبيعية لسلسلة من الإجراءات التي مهد بها (حزب الشعب) وزعيمه (أتاتورك)، لتحديث الأمة التركية على حد زعمه، وإدخالها نادي أوروبا المسيحي عن طريق بوابة الانسلاخ من تراث تركيا الإسلامي وتاريخها المرتبط بأوشج الروابط مع محيطها الإقليمي، ودورها التاريخي الذي كانت تتبوؤه. صحيح أن قرار إلغاء منصب الخلافة عام 1924، جاء بعد قرار عام 1922 والقاضي بفصل الخلافة عن السلطنة وتحجيم دور الخليفة العثمانية بالأمور الدينية فقط، إلا أن وقع صدور القرار ـ المتوقع سلفاً ـ كان مفجعاً للأمة العربية والإسلامية على حد سواء، إذ إن المطالبات التي انهالت على حكام الأناضول الجدد من جميع أنحاء العالم الإسلامي لمطالبتهم بتجديد نظام ومؤسسة الخلافة وإعادة صلاحياتها المسلوبة من قبل الحكام الجدد لصالح من زعموا أنها «سلطة الأمة»، هذه المطالبات تراوحت بين الهجوم اللاذع والعنيف لحزب الشعب وقيادته (مصطفى كمال)، ورفض إعلان البيعة للخليفة الجديد (عبد المجيد) الذي عين من قبلهم، وبين المناشدة المفعمة بالأمل والتفاؤل بأن تكون تلك الأحداث المتسارعة مقدمة مرجوة للنهوض بحال الأمة وشكل نظامها السياسي المترهل آنذاك، وبين شرذمة متفرنجة من أبناء الأمة ممن أيّد إجراءات (مصطفى كمال) وسرّ أيما سرور بإعلان إلغاء الخلافة، معتبرين ذلك انتصاراً كبيراً، وطبيعياً، لأفكارهم التي طالما دعوا الأمة إليها، وحثوها على انتهاجها للدفع باتجاه الحداثة والتطوير والتقدم. والكتاب الذي نحن بصدده يكتسب أهميته المعرفية من كونه وثيقة تاريخية هامة ترصد أهم الاتجاهات التي كانت تتفاعل وتمور في الخطاب العربي إبان قيام (الثورة الكمالية) في تركيا، راصداً بذلك الكتاب مواقف التيارات الأساسية من الإجراءات التي اتخذها (مصطفى كمال) وحزبه، والتي توجها بإعلان إلغاء منصب الخلافة في 13 مارس/آذار عام 1924م. يعرض الكتاب لنصوص تاريخية مهمة نسجت على تلك الأحداث، وعزفت على وتر الاصطفاف السياسي والعرفي تجاه تلك الأحداث، وقد ضم الكتاب نصوصاً لكل من (محمد رشيد رضا) في كتابه (الخلافة والإمامة العظمى)، ونصوصاً (لعلي عبد الرزاق) حول الإسلام وأصول الحكم، والخلافة والحكومة في الإسلام تاريخياً، مضافاً إليها بعض النصوص التي واكبت الحدث الفاجعة، بالنسبة للأمة، وعلقت على تلك الأحداث لرجل من أهم رجالات الفكر القومي العربي (عبد الرحمن الشهبندر)، مبرزاً آراء ذلك التوجه الهام من شريحة الأمة، حيال تلك الأحداث المتسارعة، وقد ألحق بالكتاب وثيقة للمجلس الوطني التركي أعدها بناء على طلب بعض أعضائه، بعض الفقهاء غير المذكورين اسمياً، في التفريق بين مفهومي «الخلافة» و«السلطنة»، وتقديم المبررات الشرعية لفصل كل منهما عن الآخر، ابتداء، ومن ثم إلغاء المنصب، تالياً. تتقدم الكتاب دراسة بحثية جديرة بالاهتمام والقراءة لمعد النصوص (وجيه كوثراني)، وهو يسرد في بداية بحثه عرضاً موجزاً ومكثفاً للفترة التاريخية التي سبقت إعلان إلغاء منصب الخلافة، مع التركيز على الإجراءات والقرارات العملية التي اتخذها (مصطفى كمال) تمهيداً لذلك القرار، مبرزاً أثر نجاحاته العسكرية المتوالية واستفادته من المعطيات السياسية القائمة لتحقيق هدفه في إنشاء دولة «عصرية» ذات نظام سياسي جديد لا يقوم على حد زعمه، على «سلطة الفرد» المطلقة، وإنما يقوم على حكم الشعب وسلطته، في دلالة رمزية للحزب الذي أنشأه لاحقاً (حزب الشعب). وبين قرار إلغاء السلطنة وفصلها عن الخلافة عام 1922، وقرار إلغاء الخلافة نهائياً عام 1924، اتخذ (أتاتورك) سلسلة من الإجراءات توجت بإصدار الوثيقة التي شرعت لذلك بعنوان «الخلافة وسلطة الأمة»، والتي ترجمت لاحقاً إلى العربية، وما أن صدر قرار الإلغاء حتى هزّ (مصطفى كمال) الشعب التركي على مبدأ الصدمات الكهربائية بقرارات من مثل «إلغاء الكتاتيب، واسم مدرسة من المدارس التعليمية، وحل فرق الدراويش، وإقفال التكايا، وإلغاء التقويم الهجري، وجعل العطلة يوم الأحد، وضم أراضي الوقف الإسلامية إلى الدولة، واستبدال الحروف العربية باللاتينية»، مؤسساً لمفهوم جديد للوطن بالنسبة للأتراك، وقاطعاً مع كامل تاريخهم وبجرة قلم؟. يرى المؤلف في دراسته أن (رشيد رضا) ومن ورائه التيار الإسلامي المعتدل أيدّ ابتداء إجراءات (أتاتورك) الانقلابية على السلطان العثماني، ورأى فيها بداية عهد جديد لنظام الخلافة يتجدد فيها نظامها المترهل، معلقاً الآمال على قوة (الغازي مصطفى كمال)، وانتصاراته في مواجهة الغرب الأوروبي، بيد أن (رضا) ومن سار على منواله سرعان ما استفاقوا على الصدمة برجلهم المنتظر ونواياه العلمانية الشرسة، ليضحي أمر الخلافة معلقاً ومؤجلاً إلى أجل غير مسمى، في ظل انعدام الظروف الموضوعية الملائمة لاختيار خليفة جديد، مما أدخل المسألة أدارج النسيان وعتبات اليأس والقنوط. في ذات الوقت كان (علي عبد الرازق) يعمق من جراحات الأمة من خلال نشر كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، والذي جنح فيه إلى القول بعدم إلزامية نظام الخلافة للأمة، وكونه نظاماً وضعياً قائماً على التغلب والعصبية، لا على حكم الإسلام ومبادئه، مناقشاً حجج معارضيه بأدلة شرعية، وهو الأزهري المتمرس في ذلك. وعلى الطرف الآخر، يبرز المؤلف وجهة نظر التيار المتغرب، ممثلاً بكتّاب مجلة (المقتطف) و(المقطم)، وسعادتهم البالغة حيال إلغاء الخلافة، واعتبارهم الأمر نصراً شخصياً لخيارهم الاستراتيجي بالقطع مع تراث الأمة وتاريخها السياسي والديني، مع التركيز على (عبد الرحمن الشهبندر) وكتاباته ذات النزعة القومية، والتي أفضت به بعد الترحيب بقرارات الثلة الحاكمة الجديدة في (الآستانة) وإجراءاتها، إلى تبني رؤية فاشستية ضيقة تنصب من (النخبة) السياسية وصياً على الأمة التي لا يمكنها في الوقت الراهن حيازة قرارها السياسي وممارسته، بدعوى انتماء أفراد الأمة إلى فكر القرون الوسطى ومرجعيته الدينية المتمثلة في الإسلام. وبذلك حاول (الشهبندر) التبشير بنظام شمولي تقوده نخبة طليعية نحو تحديث الأمة، كما فعل (مصطفى كمال). وينتقل بعد ذلك المؤلف لعرض نصوص الرجالات الثلاثة، مع التركيز على (رشيد رضا) وكتابه الموسوم بالخلافة أو الإمامة العظمى، وفيه يتناول (رضا) بعد إهدائه الكتاب للشعب التركي في محاولة منه لثني زعمائه المتغربين عن المضي قدماً في مشروعهم لسلخ الأتراك عن جسد الأمة الإسلامية، وهدم نظامها السياسي رغم موقفه الشخصي منه، فيبدأ بتعريف مفهوم الخلافة وحكم نصب الخليفة، والجهة المخولة (شروط أهل الحل والعقد) لذلك وشروطها، وشروط اختيار المؤهل لهذا المنصب مع بيان وسائل تداول السلطة في الإسلام أو طرق البيعة، وإمامة التغلب أو الضرورة وخصائصها، وإمكانية تعدد منصب الخليفة، مع إسقاط لواقع الأمة آنذاك، وموقفها من كل ذلك، وطرح صيغ إمكانية تجديد نظام الخلافة، وإقامتها في عدد من البلدان الإسلامية، ليصل إلى قناعة بكون (الأتراك) في ذاك الوقت أنسب الأمم لإقامة هذا النظام الجامع لوحدة المسلمين السياسية لتمتعهم بعدد من المزايا والخصائص غير المتوافرة في غيرهم، ليؤكد (رضا) بعد ذلك على أهمية الاجتهاد في الإسلام وفي إحياء معالم الخلافة النموذجية (الراشدة)، وضرورة اضطلاع مؤسسات سياسية تفرزها الأمة للقيام بذلك، ويناقش موقف ابن خلدون ورؤيته القائمة على العصبية والتغلب، وبيان مفارقتها للمنظور الإسلامي. فيما يعرض المؤلف لنصين مختارين (لعلي عبد الرازق) حول الإسلام وأصول الحكم والخلافة والحكومة في الإسلام، وفي التاريخ، وفيها يسوق (عبد الرازق) سيلاً من الأدلة والبراهين التي تثبت، على حد زعمه، كون نظام الخلافة نظاماً سياسياً وضعياً لا دينياً، إذ لم تنص عليه نصوص مباشرة من الكتاب والسنة، فضلاً عن كون هذا النظام السياسي منصبغاً بسمة العصبية وقائماً على مبدأ التغلب في معظم مراحله عدا الراشدية، داعياً المسلمين إلى التعلم من الغرب والاقتباس منه في نظمه، وممارساته السياسية. أما القسم الأخير، فقد خصصه المؤلف لعرض نصوص (لعبد الرحمن الشهبندر) أحد قيادات الثورة السورية عام 1925، والطبيب الرئيس، إن جاز لنا التعبير، فهو قد تقلد منصب وزارة الخارجية عام 1920، إبان الحكم الفيصلي لسوريا، وقبيل الغزو الفرنسي لها، يبرز من خلال هذه النصوص أهمية «الثورة» كمفهوم وممارسة للتغيير السياسي والاجتماعي المرغوب فيه، وإن وصل حد ممارسة العنف تجاه أبناء شعبه، وفي لحظة تاريخية مهمة، يقبض المؤلف (كوثراني) على جذور الاستبداد الذي مارسه التيار القومي لاحقاً، إذ يتبنى (الشهبندر) رؤية فاشستية ترى في «الأمة» قاصراً يجب ممارسة الوصاية السياسية عليه حالياً، بسبب انتماء السواد الأعظم فيها إلى فكر العصور الوسطى، على حد تعبيره، وتراثه المتمثل في الإسلام، فيقول: «ليس من مصلحة بلادنا في شيء أن نطلب لها الحكم الديمقراطي قبل أن تحصل على رحى اجتماعية (لاحظ هنا دقة التعبير وعنفه في الوقت ذاته)، نطحن بها الجماهير العربية، فنجعلها متجانسة ونزيل من بينها هذه الفروق، التي تجعل وحدة الرأي فيها بعيدة التحقيق، ومن العبث أن نسوس البلاد بالتعاون والاشتراك، والسواد منا يعتقد مثلاً أن الإدارة الكاملة هي إدارة القرون الوسطى» إشارة إلى نظام الخلافة، ليضحي المخرج الوحيد في رأي النخبة السياسية المتشكلة تأثراً بالثورة الكمالية هو «اتحاد كلمة النخبة المنتخبة منا ولمّ شعثها لنتمكن من جر الدهماء إلى الأمام بقوة، وحسبنا مثالاً نحتذي به الأقليات الفاشستية والنازية والكمالية»؟!. وهكذا يضحي الوعي النخبوي والطليعي للنخبة السياسية المثقفة لدينا وسيلة لقهر إرادة الأمة وجرها قسراً نحو الحداثة وفق النموذج الغربي، وتأثراً بالمثال الكمالي لتحديث الأتراك. لقد مال المؤلف (كوثراني) في نهاية دراسته إلى اعتبار قضية الخلافة شأناً دنيوياً «غير مقدس» بل هو «نسبي وزمني»، وهو ما يعني ضرورة الاحتكام في صياغة الشكل السياسي لوحدة الأمة إلى منطق السياسة، ونزع صفة القداسة عن المعالجات المعرفية والسياسية المتناولة له، والشريعة الإسلامية بنصوصها العامة ومقاصدها الكلية إذ ترسم الحدود العامة والأطر الكلية لنظام سياسي يوحد الأمة، ويلم شتات شعثها، لم تحدد لنا صيغاً عملية لتجسيد تلك الرؤى وتنفيذها، ولم تجعل من صيغة معينة نموذجاًَ قسرياً واجب الاتباع، وهو الأمر الذي حاول رشيد رضا إثباته ومعالجته من خلال طرح رؤيته التجديدية لهيكلية نظام الخلافة ومؤسساتها، بيد أن المؤلف انتهى لاحقاً إلى أن صبغة «القداسة» التي اكتسبها مفهوم «الخلافة» في وعي كل من السلطة والأمة كانت السبب المباشر وراء إجهاض وتقويض أي خطاب معرفي يمس ذلك (المقدس)، وينتهي بدعاته إلى «ضحايا ثقافية»، وهي الأزمة التي رآها المؤلف مستمرة مع الحركات الإسلامية وفكرها التكفيري والاستبدادي، والذي صنف من خلاله (علي عبد الرازق) كأحد ضحايا ذلك النهج. إلا أن المسألة في نظرنا تتجاوز سمة القداسة المفترضة التي ادعاها المؤلف، لتحفر عميقاً في الفكر السياسي للأمة ومنظومتها المعرفية الكلية التي لم تنجح حتى الآن، على الأقل، وعبر تاريخها الطويل بتعرجاته الحضارية، في صياغة رؤية سياسية منسجمة مع الرؤية القرآنية للشكل السياسي لوحدة الأمة، ومحاولة تلبيس الممارسات السياسية التاريخية لبوس الصحة والقبول الشرعي، فما لم تتمكن الأمة من إعادة صياغة رؤيتها السياسية الكلية لنفسها وللآخر بحيث تتمكن لاحقاً من إعادة إنتاج شكل سياسي ما لوحدتها، فإن أي محاولة في هذا الصدد سوف تبقى محكومة بالفشل المسبق، ما لم نقل المحتوم. ــــــــ عنوان الكتاب: الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية في تركيا. المؤلف: وجيه كوثراني. الناشر: دار الطليعة، بيروت، ط1، 1996م.
تاريخ النشر : 30-09-2005
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.