آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

الأمة والخلافة والدولة والسياسة

عبد الرحمن الحاج


منذ أن اكتشفت النخبُ العربية نموذج الدولة الحديثة في سياق صدمتها بالحداثة، أخذت تؤسس بوعيٍ لقطيعةٍ عميقةٍ بينها وبين الجماهير حيث لم تر فيها إلاّ «الغوغاء التي لا تعرف مصالحها»، لا يختلف في هذا الإسلاميون عن غيرهم، وهكذا لم تعد «الأمة» أكثر من «حقل تجارب» بوصفها «مجرّد» أداة، نفذّت فيه طيلة القرن الماضي تجارب «الأيديولوجيات» الفاشلة، ويمكن القول أنه منذ ذلك الحين و«دور الأمة» في مشروع النهضة أصبحت ـ بشكلٍ ثابت ـ المهمل الرئيسي في الفكر العربي.

وكما يذهب رضوان السيد في كتابه «أزمة الفكر السياسي العربي»[1]؛ فإن تغيّر مفهوم «الشريعة» ـ تبعاً لذلك ـ ووظائفها بات متغيّراً رئيسيّاً يعكس مركز التأزُّم الحاصل في الفكر السياسي الإسلامي، بل إن هذا العزل «للأمة» يبدو وكأنه استمرار للفقه السياسي في التراث، فقد كانت الشورى ـ التي تقدم بها الإسلاميون مقابل الديمقراطية ـ قد تشكلت استناداً إلى أوضاع وظروف ثقافية تاريخية، فبدأت بـ«حكم الجمهور» وانتهت إلى فكرة «أهل الحل والعقد» التي تضم فئة قليلة مختارة غير واضحة المعالم. وعندما استعيدت الجوانب السياسية في الشورى، جرى الاستناد إليها في شرعنة الفكرة الدستورية، لكنها ظلت محدودةً دوماً بمقاومة الاستبداد (ليس كل استبداد!)، وعن طريق أهل الحل والعقد! وبقي الإجماع إجماع «النخبة» وليس إجماع «الجماعة». إن تعليل غياب مبدأ «سيادة الأمة» تدريجياً في الفكر الإسلامي المعاصر لا نجده إلاّ في هشاشته لدى الإصلاحيين، تلك الهشاشة التي أصابها إلغاء الخلافة في الصميم، ثم ضربتها ضربةً قاصمة صراعات الأنظمة مع الإسلاميين كما يقول السيد.
أما النخب العلمانية فقد أكّدت على عدم وعي الجماهير بمصالحها واندفاعها وراء التراث و«الظلاميين»، وكما تمّ استحضار مفهوم الشورى لدى الإسلاميين في مقاربة للديمقراطية وتعديله طبقاً لمفهومهم عن الأمة، كذلك فعل العلماني عندما حاول صياغة تعديلات «للديمقراطية»، بل إنه في بعض اتجاهاته كان ينفيها كلياً. والواقع أنه كانت الأولوية لدى النخب بتلويناتها المتعددة، للنضال أو الجهاد ضد الاستبداد «الظالم»، والاستعمار وعند الإسلاميين إضافة إلى ما سبق للحفاظ على الهوية في وجه تيارات التغريب والاستلاب والغزو، أي أنها كانت أولويات نضالية دوماً.
وبسبب ذلك، فإنه بالنسبة للإسلاميين التحوير الثقافي والفكري الذي اقتضاه زوال الخلافة، ما اتجه إلى اعتبار مبدأ «سيادة الأمة» بديلاً لمؤسسة الخلافة أو لاهوتها، بل استبدلت بلاهوت الخلافة تدريجيّاً لاهوتاً آخر ينتصر لفكرة المقدس الذي عبر عنه حسن البنا بقوله «دستورنا القرآن». والمفارقة ـ كما يرى رضوان السيد ـ أنه في الوقت الذي كان فيه الإسلاميون يعرضون عن ائتمان الأمة على الإسلام، كانت الشريعة تتخذ في وعي الإسلاميين ما يشبه «أيديولوجيا النخبة»، التي تتحشد لاستعادة الإسلام ليس إلى السلطة وحسب، بل إلى وعي الجمهور أيضاً، وهكذا ولدت مفاهيم «جاهلية الأمة»، و«حاكمية» القرآن، والتي تأسست في خضم هذا الصراع، والمثير أن يكون رئيس المشيخة العثمانية، الشيخ مصطفى صبري ـ وفي هذا السياق ـ أول من يعتبر سكوت الأمة عن «فصل الدين عن الدولة» (العمق الفكري للعلمنة) هو بمثابة رضاها وبالتالي كفرها «جماعاتٍ وأفراداً»!.. لقد صارت الشريعة مذاك معياراً أيديولوجياً (لإيمان الجماعة وعدمه) ولم يعد هناك حلول وسط!.
وبدا للإسلاميين أن هناك تماهياً بين الخلافة والإسلام، وأن «الأمة» (القومية) توضع في مواجهتهما، لذا كان من الطبيعي أن تتجه الأنظار لوضع الشريعة (الإسلام) في الواجهة وليس الأمة، حيث اتجهت «الأمة» في وعيهم للتماهي مع الدولة الوطنية الجديدة. وبالرغم من أن صعود الدولة الوطنية «العلمانية» كان مؤثّراً في التفاف الإسلاميين ثانيةً حول مفهوم الخلافة، لكن ذلك ليس السبب الوحيد كما يراه بلقزيز في بحثه «الفكر السياسي العربي» في الكتاب المذكور آنفاً، بل إن الإسلاميين الإصلاحيين (مثل الأفغاني والكواكبي ورضا) لم يتخلوا عن هذا المفهوم أصلاً، بقدر ما كانوا يحاولون تقديم تعديلات عليه، إن صعود الدولة الوطنية «الحداثوية» كان سبباً مهماً ـ في الواقع ـ للكف التدريجي منذ رضا عن مقاربتها بالتحديث، وتحويلها إلى أيديولوجيا، كما تحولت باقي النخب الوطنية إلى مواقع مماثلة في الأدلجة، لأنها جميعاً كانت في وضع «نضالي» أيضاً.
لقد تم التمييز بين «الأيديولوجيا» والدين، وبين المجاهد و الداعية في الخطاب الإسلامي منذ وقت، وهو الأمر الذي جنّب الإسلام أن يتحول إلى دوغما، لكنه من جهة ثانية أبقى الدين، في أيدي النخبة وهكذا ينتقد السيد الإسلاميين غير الثوريين بأنهم لم يتعرضوا بالنقد والتمحيص لدور الأمة وموقعها من الشريعة وموقع الشريعة منها وفيها، ولذلك بقي الافتراق بين الطرفين وتجذّر، وقد تضمّن هذا الغياب إحساساً من جانب الإسلاميين بفقدان الأمة بمعناها الإسلامي لصالح المشروع الغربي للدولة الوطنية بيئته الدولة ـ الأمة ـ أو في الحقيقة بيئة: الدولة ـ القومية، وهكذا يغدو منطقياً أن لا يكون هناك تفكير كثيرٌ في الآليات التي تمكّن الناس من صون مصالحهم الخاصة والعامة، كما لم يكن هناك تفكيرٌ مقارن في التجارب الغربية الحديثة لتمكين الجمهور من مباشرة أمر مصالحه بنفسه.
وبالرغم من أن الفكرة الدستورية أخذت حيّزاً من اهتمام الإسلاميين مبكراً، وحدث انقطاع فيه، ثم عاد مؤخراً إلاّ أن الفكرة الدستورية لم تلعب في الفكر الإسلامي ذلك الدور الذي لعبته ضمن التيارات الوطنية والليبرالية، وهو الأمر الذي لا يتفق معه عبد الإله بلقزيز.
لقد اتجه الخطاب الإسلامي الصحوي ـ كما يلاحظ بلقزيز أيضاً ـ إلى إعادة بناء مفهوم الدولة في ضوء النصوص الإسلامية الشرعية المؤولة، وفي ضوء تجربة الدول في العهد الوسيط الإسلامي والمسيحي، كما في ضوء الاعتراضات المتصاعدة على منظومة الفكر السياسي الإسلامي الجديد عبر إعادة إحياء مفاهيم السياسية الشرعية وتكييفها مع مقتضيات مفهوم لدولةٍ إسلامية افتراضية، ثم بناء الفواصل والتمايزات بين هذه الدولة الإسلامية وبين الدولة الدينية على مثال الدولة الثيوقراطية المسيحية في المجال الأوروبي الوسيط. وإذا كان هذا صحيحاً إلى حدٍ ما، فإن من المهم إدراك أنه بقدر ما يبدو التمايز واضحاً بين خطاب الإصلاحية الإسلامية وبين ما بعد الإصلاحية (منذ تحول رشيد رضا)، فإن ذلك التمايز لا يمثل قطيعة أو انقلاباً تاماً في الخطاب الإسلامي الإحيائي، فلم يتم إزاحة مفهوم الدولة الحديثة من الإصلاحية، لأن الإصلاحية نفسها لم تقل بها أصلا، وإنما الذين قالوا بها كانوا «المسيحيين الشوام». لكن خطاب النهضة عموماً كان مستغرقاً في فكرة «النهضة» ، التي اتحدّت أيديولوجياً فيما بعد بـ التوحيد القومي، والاشتراكية والخلافة الإسلامية المحدّثة. وتمثل اللحظة النهضوية الثانية (الجديدة) التي تبدأ بسقوط الخلافة ونشوء الاستعمار، قطيعة من هذا الرهان النهضوي وأساليب اشتغاله، ففيما كانت إقامة الدولة الحديثة هي رهان الإصلاحية لتحقيق التقدم ـ كما يرى بلقزيز ـ انصرفت النهضوية الجديدة إلى التركيز على شكل الدولة (الدولة الموحدة لدى القوميين، أو على نظامها الاشتراكي لدى الماركسيين) غير معيرة كثيرة انتباه لمضمونها السياسي: الدستوري والديمقراطي، وفيما اهتمت الإصلاحية كثيراً بإنتاج الأدب السياسي الحركي فأنتجت مشروعاً فكرياً، أنتجت الثانية مشروعاً سياسياً، وفيما نجحت النهضوية الإصلاحية في تأصيل موضوعاتها الفكرية في النسيج الثقافي العربي الإسلامي على نحوٍ لم يعد فيه خطابها برّانياً، فشلت النهضوية القومية الماركسية في ذلك، فبدا خطابها غريباً في السياق الثقافي الإسلامي العربي.
بلقزيز يرى أن المعضلة في الفكر السياسي العربي، تكمن في التضخَّم المفرط في الاحتفال بالمسألة السياسية من قبل تيارات الفكر العربي المعاصر المختلفة، الذي كان بموازاة فقر فكري مدقع في مجال إنتاج معرفة نظرية بالمسألة السياسية، فقد حصلت هزات وتصدّعات وتحولات هائلة في الواقع و الفكر في العالم، لكن النظام الفكري على حاله في المقدمات والإشكاليات والمنظومة الأبيستيميّة وجهاز المفاهيم. ونحن نتفق مع السيد بأن المشكلة ليست في قلة معرفته، ولا في مجرد تبعيته للغرب أو للشرق، بل كانت دوماً مشكلة الراديكالية والإمعان في احتقار الدولة وفكرتها وعجزها وإرادويته الغلابة من أجل التغيير وحسب، أي إلى وعي نخبوي يحطُّ من الأمة ولا يثق بها.. حيث كانت «النخبوية» و«الأيديولوجية» الفلك الذي ارتسم لمسيرة الفكر العربي الحديث منذ لحظة ولادته وعبر مسيرته.
لقد كان فكر الإصلاحية منذ بداياته يعتبر الدولة أداةً ذات طابعٍ وظيفي، وهو في ذلك امتدادٌ لفقه «السياسية الشرعية» الذي شرعن السلطانية على أساس بقاء وظيفتيها: «الكفاية» و«الشوكة»، وكان من سوء طالع الدولة الوطنية الاستمرار في اعتبارها أداةً ذات وظائف محددة ترتبط بها شرعيتها وجوداً وعدماً ـ كما يرى السيد ـ، وهكذا أصبح الفكر السياسي وما زال كذلك فكراً تغييرياً همُّه إسقاط الدولة التي يعتبرها القوميون قطريةً صنعية الاستعمار، ويعتبرها الإسلاميون خائنةً لفكرة «الأمة» وخارجةً عن أصالة سلطان الشريعة والهوية الطهورية.
ينتهي بلقزيز في مناقشته لأزمة الفكر السياسي العربي إلى تقدم «اقتراح لتطوير الفكر السياسي العربي»، يرتكز على أرضية الجمع بين إشكالية الهوية الثقافية من الإسلاميين والمسألة الكيانية من القوميين ومسألتي التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة من الاشتراكيين، ومن الليبراليين مسألة الديمقراطية والدولة الوطنية. كل ذلك (بحسب بلقزيز) يجمع أساس مشروعياتهم في مقالٍ واحد. ولكن هذه العميلة التوفيقية في الواقع هي تجميع سطحي لـ«حُلول مشكلات»، وهي ليست حلاً لأمراض بنيوية مزمنة، كما يقول السيد، وبالتالي لن تفيدها الإرادوية التنوية! إن المشكلة لا تكمن في الفارق البلاغي القائم بين الأفغاني والأفغان العرب، ولا بين النهضوية الإصلاحية ومآلاتها اللاحقة (القومية والاشتراكية الماركسية)، وإنما بين عزل الأمة ودورها وبين الأيديولوجيا والمعرفة والواقع.
------------------------
[1] صدر بالاشتراك مع عبد الإله بلقزيز، عن دار الفكر، دمشق، ط1، 2000م.


تاريخ النشر : 11-10-2005

6339 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com