على الرغم من انقضاء أربع سنوات، تقريباً، على وقوع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، واعتراف المحللين والمراقبين بأهمية الحدث وجسارة آثاره، وهول التحولات التي تلته على مستوى العلاقات الدولية وتاريخ النظم السياسية ذاتها. وبالرغم من تقاطر المعلومات والتقارير والشهادات التي حاولت رسم صورة المشهد السبتمبري، إلا أنه لم يحصل إلى الآن اتفاق في حدوده الدنيا أو المتواضعة، يستطيع صياغة تلك الأحداث وتبيان غاياتها ومسؤولية منفذيها، التي راحت تتقاذف وتستطير حتى أدينت الإدارة الأمريكية ذاتها وأجهزتها الاستخباراتية، محملة قسطاً وافراً من مسؤولية الفشل في التصدي لتلك الأحداث، وحتى التخطيط لتنفيذها، كما يرى ذلك بعض المحليين؟.
متجاوزاً الأسئلة المطروحة آنفاً، ومواجهاً ما تلا ذلك من تداعيات وملابسات، يتساءل (برهان غليون) في كتابه الجديد عن مدى أهمية الحدث السبتمبري، ومفصلية موقعه في التاريخ العالمي، ودوره في رسم ملامح نظام دولي جديد، بما يجعل منه لاحقاً نقطة تحول في تاريخ العلاقات الدولية والنظم السياسية القائمة، وعن مدى إمكانية اعتبار أحداث 11 سبتمبر/ أيلول علامة فارقة في التاريخ. ويطرح إزاء ذلك وجهتي نظر تتبنى أولاهما موقفاً تمجيدياً لتلك الأحداث بحيث أن 11 سبتمبر 2001 « يمكن أن يشكل قطيعة كاملة مع ما سبقه، وأن أي تطور في مجال العلاقات الدولية لا يمكن أن يفهم من دون أخذه بالاعتبار وتحليل مضامينه العديدة والعميقة». فيما يرى فريق آخر من المحليين أن الأهمية الاستثنائية لذلك الحدث، والذي تحول إلى مؤشر قطيعة بين حقبتين «ينبع من منطق الدعاية والإثارة والمبالغة، المقصودة أحياناَ، من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول التي تحاول توظيفه لخدمة استراتيجيتها الخاصة، وفرض جدول أعمالها على المنظومة الدولية».
ومع اعترافه في خاتمة المطاف بالأهمية الاستثنائية لذلك الحدث، بصرف النظر عن منشئها وموجهها، يقر (غليون) بأن أحداث سبتمبر قد شرعت الأبواب لطفرة حقيقية في العلاقات الدولية، بحيث جعلت من صفة (الإمبراطورية) الاسم الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، وكرست ولادة نظام القطب الواحد الذي تزعمته أمريكا، معيدة ترتيب العالم وهيكلته حسب مصالحها القومية ومتطلبات تكريس وإعادة إنتاج هيمنتها الدولية. بالإضافة إلى «تجدد الرهان التقليدي على الدولة ودورها المركزي في حياة المجتمعات واستقرارها بعد قفز الترتيبات (الأجندة) الأمنية إلى مقدمة الساحة السياسية الوطنية والعالمية». ولعل أسوأ ما نجم عن هذا التحول أيضاً هو تراجع معايير الديمقراطية، وتدهور ممارستها في العديد من البلاد المحسوبة على النهج السياسي الديمقراطي في مجتمعاتها. كما رصد الكتاب آثار تلك الأحداث على الاقتصاد العالمي الذي تباطأ نموه وانهارت أسواقه باتجاه تكريس القوة الاقتصادية للدول لصالح الأمن والحرب على حساب التنمية البشرية والقضاء على الفقر والبطالة. فضلاً عن التوتر والتصدع والانقسام الحاصل في ميدان العلاقات بين الدوائر الثقافية والحضارية.
بالرغم من سرده لكل تلك الآثار التالية لأحداث 11 أيلول واعترافه بأهمية الحدث ذاته، إلا أن المؤلف يرى أن تلك الأحداث كانت موجودة قبل الحدث، وتمد جذورها عميقاً تحت بند ديناميكيات العولمة. لكن التحولات المتسارعة التي تعرضت لها شجع عليها أو دفع إليها الحدث السبتمبري، وضاعف من آثارها دون أن يكون العامل المباشر في تفجيرها أو إيجادها أصلاً.
ويرى (غليون) أن أسس النظام الجيوستراتيجي العالمي الراهن والقائم في أعقاب نهاية الحرب الباردة قد تعاملت معه الولايات المتحدة بسلوك الطريق الإمبراطوري القائم على التوسع ومراكمة عناصر القوة والنفوذ واحتكارها، مستبعدة الخيار الآخر الساعي من خلال بناء تفاهم عالمي إلى بناء نظام دولي جديد قائم على الشراكة الأمنية والاقتصادية والحوار الثقافي. ومما عزز الخيار الأول لدى أمريكا «وجود فراغ القوة الذي نجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي....، ولما يتطلبه السير في طريق التفاهم والتعاون من تنازلات مادية ومعنوية مؤلمة تستدعيها مراعاة الأطراف الأخرى الشريكة».
وولدت بناء عليها فكرة القيادة العالمية، وعبر عنها بفلسفات ونظريات في العلاقات الدولية تمجد القوة والسيطرة «نهاية التاريخ، انتصار الليبرالية، صدام الحضارات». وقد كانت حرب الخليج عام 1991 إحدى أولى تجليات هذا النزوع التاريخي للسيطرة العالمية لأمريكا لملء الفراغ الذي أحدثه غياب الاتحاد السوفيتي. ويستعرض بعد ذلك المؤلف سلسلة من المواقف والقرارات التي اتخذتها الولايات المتحدة وكرستها خدمة لمشروعها الإمبراطوري وتجسيداً له.
وفي محاولة منها لتجنب استنزاف القوة التقنية والعسكرية والاقتصادية في مشكلات وأزمات داخلية، دعمت مراكز القوى في أمريكا المرشح الجمهوري للتركيز على محور الأمن القومي على حساب المحور الاقتصادي، وبدا أن الحفاظ على التفوق الأمريكي يعني ضرورة مواجهة العالم، واتخاذ مواقف خاصة مرتبطة بالمصالح الأمريكية، ولو كانت على حساب القرارات والقوانين والشرائع الدولية.
ويبين الكتاب أثرين متناقضين لهجوم أيلول 2001، يتجلى الأول في «إضفاء نوع من المشروعية على عملية الاستفراد بالسياسة العالمية من قبل الولايات المتحدة....، والثاني وهو الأهم معاكس لذلك... أظهر هشاشة إستراتيجية الولايات المتحدة الأمنية وضعفها، كما أظهر حدود التفوق الذي تتمتع به». ودشن بذلك 11 أيلول 2001 الحرب الأمريكية الجديدة تحت مسمى (محاربة الإرهاب)، وهي في مضمونها حرب لفرض السيطرة الأمريكية ونفوذها على العالم وإعلان ولادة الإمبراطورية الجديدة، متجسدة بالحروب على كل من (أفغانستان والعراق)، وبالذات حربها الأخيرة على العراق عام 2003 التي نسفت بها أمريكا الأسس الدولية لقيام أي تحالف عالمي شأن حربها الأولى عام 1991م، وبدا جلياً نزوعها لتكريس سطوتها ونفوذها من خلال الانفراد باتخاذ قرار شن الحرب.
وكي تكتسب هذه السيطرة الإمبراطورية نوعاً من المشروعية، حرصت الإدارة الأمريكية على استمراريتها وتلقائيتها من خلال تبني مبدأ (الحرب الاستباقية)، ورفض أي محاولة لتعريف (الإرهاب) الذي تحارب تحت شعاره أمريكا في العالم للقضاء عليه. «فالإرهاب هو الاسم الجديد لحرب السيطرة الكونية والمبرر الأساسي لها»، وتم تحييد الحلفاء (الاتحاد الأوروبي) والغرماء (روسيا والصين) على حد سواء. واعتبرت الولايات المتحدة أن «لتصفية المسألة الفلسطينية دوراً كبيراً في خطة توطيد السيطرة الأمريكية، من حيث أنها ترمز للقضاء على المقاومة العربية والإسلامية، وما تمثله في نظر اليمين الغربي من رفض الخطط والمخططات الغربية، ومن تمرد روح الحضارة العربية والإسلامية على الحضارة الغربية»، وهو ما فسر حرص القيادة الأمريكية على إيلاء الاهتمام الإعلامي لهذه القضية بالذات، في الوقت الذي أطلقت فيه يد شارون ويمينه الداعم لتمرير سياسات التصفية والقتل الممارسة بحق الشعب الفلسطيني.
في هذه المناورة الإستراتيجية الكبرى «قدر للعالم العربي أن يمثل دور المسرح الرئيسي للعمليات»، وأن يكون احتلال العراق وإسقاط النظام العراقي المدخل إلى إعادة ترتيب الشرق الأوسط. وعلى الرغم من المحاولات السياسية والإعلامية التي سبقت الحرب لضمان التغطية السياسية العربية للحرب على العراق، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن واثقة من حلفائها العرب ولا معنية بكسبهم إلى جانبها، بقدر ما كانت معنية بتطويعهم وإخضاعهم لإرادتها، وتجاوز السياسة الأمريكية التقليدية حيال العالم العربي من الاحتواء إلى التطويع القسري، وبالقوة إن لزم الأمر. وهو الخطأ الإستراتيجي القاتل الذي وقع فيه العرب، حسب وجهة نظر المؤلف، عندما اعتقدوا أن هجمات أيلول سوف تضعف من الهيمنة والعنجهية الأمريكية، وسوف تدفعها للتحالف معهم، فيما اتضح أن تلك الأحداث دفعت، ودونما رجعة، بذلك الصلف والغرور الأمريكي بالتفوق والهيمنة إلى مداه، ابتداء من الدول التي جاء منها منفذو العمليات. وهو الأمر الذي أوقع النظام السياسي الرسمي العربي في ضياع وتخبط، معتمداًَ سياسة «العطالة التامة والانتظار»، حيال أي تحرك أو موقف أمريكي في موقف لا يخلو من عيالة سياسية على الولايات المتحدة.
ويرصد المؤلف «السمات التي ميزت موقف القيادات العربية في أزمة 11 أيلول»، فيشير إلى ثلاث سمات: تتعلق الأولى برد التهمة مع التشكيك بهوية الفاعل، وأحياناً بقدرة تنظيم عربي على القيام بمثل هذا العمل الجبار، والتبرؤ تالياً من المسؤولية في أي صورة كانت، وانتحال موقف الضحية المماثلة للإرهاب. وأخيراً، الاعتقاد بإمكانية استثمار نتائج الأزمة في سبيل انتزاع مواقف إيجابية تجاه القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ويركز الكتاب بعد ذلك على تحليل المسؤولية التي يتحملها النظام السياسي العربي حيال أحداث سبتمبر، ودوره في صياغة ثقافة العنف والاستبداد والتسلط والقهر والإرهاب، التي أفرزت مجتمعات مغلقة ومشربة بالقهر والعنف والإكراه. دون أن ينفي الدور الأمريكي في سياق ذلك من خلال دعمها المتواصل والمستمر لتلك الأنظمة وللكيان الصهيوني في المنطقة.
ويخلص الكتاب في نهاية المطاف إلى التأكيد على قيم حقبة العولمة أو التواصل المتنامي بين الفضاءات السياسية والثقافية، وهو أنه لم يعد هناك أمل لأي دولة أو أمة في الحفاظ على وجودها أو استقلالها أو سيادتها دون الانتقال إلى مفهوم الشراكة، وتحمل جزء من المسؤولية الجماعية، بحيث أنه كلما زاد حجم شراكتها ومسؤوليتها في تحمل التبعات العولمية، وقدرتها على تحقيق انسجام مقبول مع مصالح المجموعة الدولية، كلما اكتسبت تلك الدولة أو الأمة مزيداً من الحرية والسيادة والمكانة المرموقة.
ويحدد في سياق ذلك ثلاثة أبعاد أو وجوه للمسؤولية السياسية الجماعية التي ينبغي تكوينها: الأول منها داخلي، يتعلق بمسؤولية النخب أو الطبقة السياسية تجاه المسائل التي تتعلق بتسيير البلاد وحسن إدارتها لمواردها. والبعد الثاني هو المستوى الإقليمي، ودور هذه النظم أو النخب السياسية، إن جاز لنا التعبير، في بناء نظام سياسي إقليمي يكفل حداً أدنى من التعاون والتكافل بين دول المنطقة. والمستوى الثالث هو المستوى السياسي الأخلاقي الدولي، ومدى قدرة تلك النخب الحاكمة على الارتفاع إلى مستوى القيم والمبادئ الأخلاقية لخدمة الأهداف الإنسانية. مهدداً بفقد صدقية الدول العربية وشرعيتها حتى في المنظور الدولي إذا فشلت في تحقيق الأبعاد الثلاثة للمسؤولية السياسية المطروحة، أو لم تتخل عن العطالة والعجز السياسيين الذين رافقا مسيرة النظام السياسي العربي في الآونة الأخيرة.
ـــــــــــــــ
عنوان الكتاب: العرب وعالم ما بعد 11سبتمبر.
المؤلف: برهان غليون.
الناشر: دار الفكر، دمشق، ط1، 2005.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.