آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

حجية السنة في اللغة العربية : قراءة تاريخية

وائل حمدوش


ظلت لغة العرب لغة عفوية في قواعدها تتحكم فيها السجية ضبطاً وقياساً، حتى اشرقت شمس الاسلام، فتجاوزت اللغة وظيفتها التواصلية الى وظيفة تعليمية، مما فرض بدوره قواعد لضبط اللغة من التشريق والتغريب في الرأي والهوى حتى لا يسري ذلك الى فهم النص المقدس، وبدأ للغة عصر جديد أذن بولادة لغة مقعدة منضبطة (بضبط النص) وذلك لما لها من اثر عميق في بناء منظومة القرآن المعرفية، وكان القرآن أهم المراجع في الحجاج والاختلاف اللغوي، وذلك للتسليم ببلاغته وفصاحته، وقامت السنة بشرح القرآن وبيانه، اذ كانت تصدر عن افصح العرب ومن أوتي جوامع الكلم، ولا شك في ان العرب لجأوا اليها في سياق استدلالهم اللغوي.
من هنا ينطلق الكاتب فخر الدين قباوة في كتابه «تاريخ الاحتجاج النحوي بالحديث الشريف» (دار الملتـقي، 2005) ليـطرح سؤالاً مفـاده متى تم الرجـوع الى السنة كمصدر ثان للغة بعد ان رجع اليـها كمصدر ثان في التشريع، وما هي المعوقات التي أخرت هذا الرجوع؟ يحاول المؤلف الاجابة عن هذا السؤال من خلال قراءة تاريخية تؤاخي بين تطور النحو وتطور علم الحديث.
يبدأ الكاتب الدراسة بعرض لقيمة الحديث النحوية التي تنبع من قيمة الخطاب النبوي الشارح لكتاب الله، هذا الخطاب الذي تحمله شخصية اصطفيت من الله خلقاً ولغة، وتربت في افصح القبائل العربية (قريش) وهذا ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ان الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)، وقد فرضت قدسية الحديث النبوي على الصحابة والتابعين منهجاً توثيقياً لضبط النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان السند الفاحص لضبط الرواة وعدالتهم، وذلك لتحقيق درجات من أعلى الصحة الى ادناها (مما يعني توفر بيئة الاحتجاج من حيث الثبوت)، فجمعت المادة النبوية وقيمت..
أما ان انتقلنا من زمن السليقة الى زمن القواعد، فهناك براهين أخر على الاحتجاج بالسنة فقد جمع كثير من علماء النحو بين علمي النحو والحديث وذلك بالاستشهاد بأحدهما للآخر فهذا يحيى بن يعمر محدث ولغوي جمع بين العلمين، الا ان هذا الجمع لم يكن ظاهرة قوية، وانما كان حالات فردية، لذا كانت المسيرة النحوية حتى منتصف القرن الثاني الهجري تستقي اساليبها في الدرس من رجال قل زادهم النبوي وندر لهم الاستدلال بالاحاديث الشريفة، والسبب في ذلك يعود لأن «الشروع في الاحتجاج كان لبيان ما في كلام العرب من نظائر لغوية تعبيرية ودلالية للنظم الكريم» ولن يستدل للقرآن بكلام النبي الكريم الشارح للبيان.
واذا ما انتقلنا الى مرحلة تالية نرى الاستدلال اللغوي النبوي اصبح اكثر وجوداً في كتب النحو فهذا ابو القاسم بن محمد بن سعيد المؤدب صنف كتاباً تحت عنوان «علل التصريف دقائقه» فأورد فيه نحو 25 حديثاً من مقابل 100 آية كريمة، وكذلك كتب أبو علي الفارسي كتاباً بعنوان «الحجة للقراء السبعة» ضم فيه قرابة 67 حديثاً وهكذا انتشرت فكرة الاحتجاج النبوي في اللغة واصبح الحديث احد مصادر اللغة ولكن رواد هذه المرحلة ظلوا ملتزمين نص الخليل في مصادر اللغة والذي يعتبر القرآن وكلام فصحاء العرب هما الاساس في المرجعية اللغوية، واما غير هذين المصدرين فهما تبع للاحتجاج.

يعد ابن مالك (أبو عبدالله جمال الدين محمد بن مالك الطائي (672 هـ) مؤسس الاحتجاج اللغوي بالحديث، وذلك أنه برع في علوم اللغة وكان يحمل ثقافة المحدثين، وقد ظهر اهتمامه بالحديث عندما حقق الجامع الصحيح للبخاري مع تلميذه في النحو وشيخه في الحديث شرف الدين علي بن محمد اليوتيني، واستـغرق هذا العمل قرابة سبعين مجلساً كان ابن مالك يسمع فيها روايات الحديث كي يراعي القراءة ويلاحظ النطق، ثم يختار ما اجمعت عليه مجمل الروايات في الضبط والاعراب فيرجحه ويأمر باثباته اصلاً، وما خالف ذلك يجعل في الحاشية.
واما الاسباب التي أخرت هذا الاستدلال فقد عرضها النحويون وذكروا منها فساد الاسناد، وعدم الاتصال، أو وجود علة في الراوي كالبدعة، ونقل الحديث بالمعنى من دون اللفظ بعينه، وذلك يفقد النص براعته اللغوية النبوية، والجهل بكلام العرب واعرابها ومجازاتها من قبل رواة الحديث، والتصحيف: وهو باب كما يقول البطليوسي عظيم الفساد في الحديث، لأن المحدثين لا يضبطون الحروف، ولكن يرسلونها غير مقيدة ولا مثقفة اتكالاً على الحفظ، واسقاط شيء من الحديث، مما يؤثر في صحة المعنى العام، واغفال السبب الموجب لقول الحديث مما يؤدي الى تعارض الاحاديث نتيجة عدم معرفة سببها، وسماع بعض الحديث من دون بعض، وهذا ما يفسد التركيب والمعنى، ويشكل في الفهم، والنقل من الصحف، وأخذ الحديث من الكتب، من دون لقاء الشيخ فكان الحديث بذلك عرضة لمخالفة الروايات الصحيحة.
يرد الدكتور قباوة عن هذه الاحتجاجات فيرى ان تهمة الإسناد لا تسلم تماماً فالعلماء تحروا صحة السند، وصنفوا تبعاً لذلك الحديث من الصحيح الى الموضوع ولا تؤخذ اللغـة الا من الحــديــث الذي بلغ درجة معينة من الصحة، وأما رواية الحديث بالمعنى فتهمة واسعة، فلقد روي الحديث حفظاً في الصدور والسطور، ويجيب عن التصحيف بقوله ان الفساد اللغوي لم يتطرق الى الالسنة الا بعد تدوين الحديث مما يؤمن على رواية الحديث من التصحيف، وكذلك كان رواة الحديث على مقدرة كبيرة من الفهم بحيث لا يقتطعون فقرات من الحديث الا تامة المعنى غير مخلة بنظامه اللغوي العام، فكان الحديث يروى مع كل ما يلزم لفهمه، لذا اجمع جمهور العلماء على انه يشترط فيمن يحتج بروايته ان يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه والعدالة تشمل الصفات الخلقيـة كالاسلام والسلامة من البدع والاهواء، واما الضبط فيشمل التيقظ مع التيقن مما يسمعه ويتحرز فيه الراوي عن المدلسين، ويفهم ما يقال ويعرف مراتب الرجال، ثم يكرر ما تلقاه حتى يتقن حفظه ويثبت في الرواية حال المتلقي والحفظ والاداء كالآية القرآنية، ويتوقف عما عارضه الشك فيه، ثم يروي الحديث بالفاظه كما يسمع، ويعرف هذا ايضاً بموافقة روايات الثقات المشهورين بالضبط والاتقان، وهذا كله مشروط فيمن يروي من حفظه أو من كتابه، فكيف تثبت تهمة الحذف والتصحيف واغفال اسباب النزول امام شروط المحدثين هذه، حتى ان شروط المحدثين بلغت من الدقة في الضبط مبلغاً عظيماً يطاول الراوي في تفاصيل حياته واخلاقياته البسيطة وعاداته.
ان علماء الحديث ضبطوا الحديث سنداً ومتناً ولكن ضبطهم كان ينطلق من صدق الراوي بصفة أساس وأما المتن فكان في كثير من الاحيان تابع للسند، وكان السؤال الذي يطرح هل يمكن ان يقول هذا الراوي الثقة هذا الحديث، من دون السؤال هل يعقل هذا الحديث (شرعاً وعقلاً)، فكانت دراسة المتن محدودة بالمقارنة مع دراسة السند، فضلاً عن ان مسألة رواية الحديث بالمعنى قد شاعت وانتشرت من دون انكار من أحد.
ان ما كان يعني علماء الحديث غير الذي يعني علماء اللغة فكل له وجهة من شروط احتجاجه فجهد علماء الحديث ينصب على الناحية الدلالية الفقهية، من دون تحرير النص للاستدلال اللغوي وانما يدرس من حيث افادته للاحكام وهذا تكفيه الرواية بالمعنى، واما جهد علماء العربية فينصب على الدلالة اللغوية، والتأكد من النص بأحرفه وهذا ما لا ينطبق الا على المتواتر من النصوص، فان اردنا الاستدلال بالاحاديث لغوياً فلا بد من اخضاع رواياته لشروط التواتر، وهنا لن نجد من نصوص الحديث الا احاديث قليلة لا يتجاوز عددها عدد اصابع اليد، فيبقى ما عندنا من نصوص الحديث الشريف – على اختلاف درجاتها – قول للنبي جملة لا تفصيلاً ويبقى تبعاً لذلك الاستدلال اللغوي بالحديث استدلال بالجملة لا بالتفصيل.


تاريخ النشر : 02-04-2006

6175 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com