|
|
كتب ومراجعات . عروض و مراجعات |
|
|
"بين الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم"
عيسى علي العاكوب
|
إن القرآن الكريم كتابُ هداية أساسًا،، وقد نزلت هذه الهدايةُ على النبيّ محمّد عليه الصلاة والسلام بلسان عربيّ مبين، ليبيّن للناس مرادَ ربّهم منهم. وقصْدُ الهداية هذا حملتْه اللّغةُ العربية نفسُها، التي أحدث نزولُ القرآن تغييرًا هائلًا في بنيتها الدلالية. وإذا جاز لنا استخدامُ تشبيه "أضواء الكلمات" في التعبير عن دلالات الألفاظ القرآنية، فإنّنا نستطيع القولَ إنّ أضواء الكلمات العربية في القرآن ليست هي الأضواء التي كانت لها في الجاهلية. فقد حدث حقًّا تغيّر مذهل في هذه الأضواء باتجاه بيان المحجّة البيضاء الموصلة إلى مرضاة الرّبّ سبحانه. وقد عرض كثيرون لهذا الأمر في قديم الثقافة العربيّة الإسلامية، كما عرض له بعضُ المستشرقين في القرن الماضي، وربّما قبله. وكانت مقاصدهم مختلفة في هذا الشأن. وقد تناول مؤلّفُ هذا الكتاب، الذي أعددنا له –بحمد الله- ترجمة عربيّة في طريقها إلى النشر إن شاء الله، تغيّرَ دلالات الألفاظ العربية التي استخدمها القرآن الكريم عمّا كانت عليه في الجاهلية، وقصد من ذلك إلى بيان أنّ هذا التغيّر الدلاليّ عبّر عن أمر غاية في الأهمية، وهي نظرةٌ جديدة كلّ الجدّة إلى العالم، أو مايسمّى بالألمانية Weltanschauung. ويذكر مؤلّفُ الكتاب الأستاذ توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu في مقدّمته أنّه أراد أن يكون قادرًا على الإسهام بشيء جديد في سبيل فهم أفضل لرسالة القرآن لدى أهل عصره الأوّل، ولدى أهل زماننا أيضًا. ويبيّن في الفصل الأوّل من الكتاب "الدّرس الدّلاليّ والقرآن" أنّ الشطر الرّئيس من هذه الدراسة مهتمّ حصرًا تقريبًا بمسألة العلاقة الشخصية بين الخالق العظيم، سبحانه، والإنسان في القرآن وذلك في دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالَم. ويوضح أنه مهتمّ بنقطتين أساسيّتين: الدّرس الدّلاليّ والقرآن، وقد أراد منذ البداية أن يكوّن لدى القارئ فكرة جليّة تمامًا عن ارتباط المنهجيّة القائمة على علم الدّلالة semantic methodology بالدّراسات القرآنية، قاصدًا إلى أنّ ثمّة دمجًا أو جمعًا في الكتاب بين النّظر المعتمد على مناهج البحث الدّلاليّ، والتطبيق الذي مادّتُه المعجمُ اللغويّ للقرآن الكريم. ونظرًا إلى تعقيد مايسمّى عِلْم الدّلالة semantics وزيادة افتقاره إلى الانسجام والتنظيم، عمد المؤلّف منذ البدء إلى إيضاح تصوّره الخاصّ لعِلْم الدّلالة، وهو يقول في هذا الشأن: " إنّ عِلْم الدّلالة كما فهمتُه هو دراسةٌ تحليلية للتعابير المفتاحية Key-terms في لغةٍ من اللّغات ابتغاء الوصول أخيرًا إلى إدراك مفهوميّ للنظرة إلى العالم Weltanschauung لدى النّاس الذين يستخدمون تلك اللغة أداةً، ليس فقط للتحدّث والتفكُّر، بل أيضًا.. لتقديم مفهومات وتفاسير للعالَم الذي يحيط بهم". وهو يرى أنّ الدّراسة الدّلالية للقرآن ستعالج الكيفية التي يرى فيها هذا الكتابُ الكريمُ بناءَ عالَم الوجود والمكوّنات الرّئيسة للعالم، وكيف يرتبط بعضُها ببعض. ويبيّن أنّ المهمّ لتحقيق قصْده المحدّد من الكتاب هو نوعُ النظام المفهوميّ الذي يعمل في القرآن، لا المفهومات الفرديّة متباعدةً ومنظورًا إليها في حدّ ذاتها بعيدًا عن البناء العامّ، أو البنية المتكاملة Gestalt التي اندمجت فيها. ويوضح أنّ التعابير المفتاحيّة التي تؤدّي وظيفة حاسمة في صياغة نظرة القرآن إلى العالم بما فيها اسمُ "الله" تعالى، ليس منها ماكان جديدًا ومبتكرًا، بل كانت كلّها تقريبًا مستخدمةً قبْل الإسلام. وعندما شرع الوحْيُ الإسلاميّ باستخدامها كان النظامُ كلُّه، أي السّياقُ العامُّ الذي استُخدمت فيه، هو الذي صدم مشركي مكّة بوصفه شيئًا غريبًا وغير مألوف وغير مقبول، تبعًا لذلك، وليس الكلمات الفرديّة والمفهومات نفسها. ويقول ههنا: "الكلماتُ نفسُها كانت متداولةً في القرن السّابع [الميلاديّ]، إن لم يكن ضمن الحدود الضيّقة لمجتمع مكّة التجاريّ، فعلى الأقلّ في واحدة من الدّوائر الدّينيّة في جزيرة العرب؛ ماجدّ هو فقط أنّه دخلت أنظمةٌ مفهوميّة مختلفة. والإسلامُ جمعَها، دمجَها جميعًا في شبكةٍ مفهوميّة جديدة تمامًا ومجهولة حتّى الآن". ويعوّل المؤلّفُ على التمييز بين المعنى الوَضْعيّ أو الأصليّ للألفاظ basic، والمعنى السّياقيّ relational . وتؤلّفُ الكلماتُ، كما يرى، نظامًا شديد التماسك. والنمطُ الرّئيس لذلك النظام يحدّده عددٌ معيّن من الكلمات الشديدة الأهمية. ويساعد التحليل الدّلاليّ للعناصر الوضعيّة والسّياقيّة للكلمات في رأيه على أن تُبنى من جديد، على مستوى تحليليّ، البنيةُ الكلّية الثقافية كما عاشت حقًّا، أو تعيش، في تصوّر الناس. ويسمّي هذه البنية الكلّية "النظرة الدّلالية إلى العالم semantic Weltanschauung "في ثقافة من الثقافات.
أمّا مانوعُ هذه النظرة وكيف تُنشأ أساسًا وأيّةُ أسسٍ لابدّ منها لكي تظلّ تشكّل فلسفيًّا نظريّةً فعّالةً لطبيعة الوجود، فيوضح ذلك عندما يذكر أن ليست كلماتُ المعجم اللغوي vocabulary على قدر واحدٍ في تشكيل التصوّر الوجوديّ الذي يشكّل أساس المعجم . فقد تكون كلمة "حجر" مثلاً ذات أهمّية حقًّا في الحياة اليومية للمتحدّثين بالإنكليزية، لكن يبدو أنّها لاتؤدّي وظيفة حاسمة في تحديد النظرة إلى العالم في اللّغة الإنكليزيّة الحاليّة. كما أنّ كلمة "قرطاس" التي ترد في سورة الأنعام هي كلمة مهمّة جدًّا من الوجهة اللغويّة ومن وجهة التاريخ الثقافيّ للعرب، لكنّها لاتسهم إسهامًا أساسيًّا في تمييز طبيعة النظرة القرآنية إلى الكون. خلافًا لكلمة "شاعر" التي تبدو أكثر أهميةً منها بدرجات. ذلك لأنّ القرآن شديدُ التشديد على نفي أن يكون النبيُّ محمّد، عليه الصّلاة والسّلام، شاعرًا. لكنّ قيمتها في أيّة حال أقلُّ بكثير من كلمة "نبيّ". هذه الكلماتُ التي تؤدّي وظيفة دلالية مهمّة في تشييد البنية المفهوميّة لنظرة القرآن إلى العالم يسمِّيها المؤلّفُ "التعابير المفتاحية" في القرآن، كما أسلفنا. وذلك من مثل كلمات اللّه والإسلام، والإيمان والكافر والنبيّ والرّسول. ويوضح المؤلّفُ أنّ أصعب جزء من مهمّة الدّارس الدّلاليّ الذي سيدرس القرآن من وجهة نظر الدّلالة هو قبْلَ كلّ شيء عزْلُ التعابير المفتاحيّة لجملة المعجم القرآنيّ Koranic vocabulary، ويشكّل مايحصل عليه من ذلك أساسَ العمل التحليليّ الذي قام به. ويقوم عملُ المؤلّف في الكتاب على أساس تصوّر واضح لديه يذهب إلى أنّ المعجم اللغويّ، أو مجموع مفردات أيّ نصّ من النصوص أو مَتْن من المتون، يتألّف من عدد هائل من طبقات الصّلات الترابطية، أو مجالات الترابط المفهوميّ، التي يتطابق كلّ منها مع اهتمام بارز لجماعة من الجماعات في مرحلة ما من مراحل التاريخ، ومن هنا يلخّص هذا المعجمُ اللغويّ جانبًا معيَّنًا من مُثُلها العليا وطموحاتها واهتماماتها. ويقول إنّ المعجم اللغويّ المعنيّ هنا بنيةٌ متعدّدة الطّبقات، وتُصاغ هذه الطبقات من خلال مجموعات من التعابير المفتاحيّة التي يسمّيها "حقول الدلاّلة". وابتغاء تحقيق ذلك انشغل المؤلّفُ بالكيفية التي تُبنى منها "الحقول الدّلالية" المستقلّة، وكيفيّة اكتشاف الحقل الدّلاليّ وسط كلٍّ شديد التعقيد من العناصر المتشابكة. وأدخل في هذا المجال مصطلحًا تقنيًّا آخر هي "الكلمة الصميميّة "focus- word. وعنى بها تعبيرًا مفتاحيًّا هامًّا جدًّا يشير إلى، ويحدّد إطارَ، مجالٍ مفهوميّ مستقلّ ومتميّز نسبيًّا، أي "حقل دلاليّ" ضمن الكلّ الواسع للمعجم اللغويّ vocabulary. ويعدّ من الكلمات الصميميّة في المعجم اللغويّ القرآنيّ كلمة "إيمان"، ويوضح أنّ هذه الكلمة تحكم حقلًا دلاليًّا خاصًّا بها. ويقول إنّنا متى عددنا كلمة ما كلمةً صميميّة بدأنا نرى عددًا معيّنًا من الكلمات الأخَر المهمّة، الكلمات المفتاحيّة، يتجمّع حولها بوصفها النّواةَ المفهوميّة the conceptual nucleus أو نقطة البؤرة، مشكِّلةً معًا مجالًا مفهوميًّا دالًّا ضمن المعجم اللغويّ الشامل للقرآن. ثمّ يتحدّث المؤلّفُ عن طبيعة الكلمات الصميميّة والمفتاحيّة، ويشير إلى أنّ الكلمة الصميميّة في حقل دلالي معيّن قد تكون كلمةً مفتاحيّة في حقل آخر، والعكسُ صحيح أيضًا؛ فقد تكون الكلمةُ المفتاحية في حقل دلاليّ ما كلمةً صميمية في حقل آخر، وتتجمّع حولها مجموعةٌ من الكلمات المفتاحيّة. فكلمة "الله" مثلاً تظهر في الحقل الدّلاليّ لـ "الإيمان" كلمةً مفتاحية إلى جانب كلمات أُخَر تتركّز حول الكلمة الصميمية "إيمان"؛ لأنّ مدلولها في هذا السّياق المحدّد هو مَنْ يقع عليه فعْلُ "الإيمان"، فالإيمان على الحقيقة هو إيمانٌ بالله. وهناك اعتبارات أخَر مختلفة تحتّم النظر إلى كلمة "الله" على أنّها كلمة صميمية مهمّة تجمع حولَها مجموعةً من الكلمات المفتاحيّة تشتمل على "الإيمان" نفسه. ويذهب المؤلّفُ إلى أنّ كلمة "الله" هي أسمى كلمة صميميّة في المعجم اللغويّ للقرآن، مهيمنة على الميدان كلّه. وليس هذا سوى التجلّي الدّلاليّ لما عناه عندما قال إنّ عالم القرآن مرتكزٌ أساسًا على الله"theocentric. ويتمتَّع المؤلّفُ بقدرة تنظيريّة عالية ، تتجلّى في مواقف عملية متعدّدة تتراءى لقارئ الكتاب. ومن ذلك مثلاً أنّه يشير إلى مظهرين للكلمة، مظهر لغويّ ومظهر مفهوميّ، وبرغم عدم إنكاره وجودَ مفهومات سابقة للّغة pre-linguistic concepts فإنه لايهتمّ بها. ويوضح للقارئ أنّه متى استخدم مصطلح "مفهوم" في كتابه، دلّ بذلك على مفهومٍ له كلمة محدّدة. وعمّم هذه القاعدة فأكّد أنّ هذا الذي قاله هنا ينطبق على الهيكل الكلّي المنظّم للمفهومات. ومن هنا فإنّ شبكة العلاقات المعقّدة نفسها هي في جانبها اللغوي معجمٌ لغويّ avocabulary وفي جانبها المفهوميّ هي نظرةٌ إلى العالَم Weltanschauung. وقد تمثّل عملُه كلّه في محاولة تبيّن نظرة القرآن إلى العالم من جملة المعجم اللغويّ للقرآن. وابتغاء الوصول إلى هدفه هذا حدّد مبدأً انطلق منه، وهو أنّ منظومة مفهوميّة system حقيقية لابدّ من أن تمتلك مبدأً نموذجيًّا تُؤسَّس عليه، ولأنّ الأمر كذلك افترض في دراسته أن تؤسَّس المنظومةُ الكليّة للمفهومات القرآنيّة المشتملة في داخلها على كلّ طبقات الاتصال الترابطيّ، على نمطٍ مميِّز للفِكْر القرآنيّ، أي يجعل هذا الفكرَ مختلفًا جوهريًّا عن كلّ منظومات المفهومات غير القرآنية. أي إنّ هناك خطة أساسيّة وأسلوبًا محدّدًا وصفة بنائية مميزة لكلّ منظومة مفهوميّة. ورأى أنّ تحديد هذه الصّفة البنائية المميّزة التي تحدّد طبيعة المنظومة القرآنية الكاملة وآليّتها الفاعلة، هي الغايةُ النهائية للدّارس الدّلاليّ للقرآن. والنجاح في هذا التحديد هو السبيل الوحيد للنجاح في إظهار النظرة إلى العالَم في القرآن، أي، من الوجهة الفلسفية، طبيعة الوجود كما يراه القرآن. ويعترف بصعوبة هذه المهمّة، ويبيّن أنّ دراسته مجرّد خطوة أولى ومتواضعة جدًّا في اتجاه هذا الهدف النهائيّ. وقد مضى المؤلّفُ في الفصول اللاّحقة في تطبيق منهجيته التي حدّدها في الفصل الأوّل. فتحدّث في الفصل الثاني عن التعابير المفتاحية القرآنية في التّاريخ، مستخدمًا مصطلحي الدرس الدّلالي التّزامنيّ synchronic والتّعاقبيّ diachronic. ويصل المؤلّف هنا إلى استنتاج أنّه في المنظومة القرآنية لايوجد أيّ حقل دلاليّ غير مرتبط بـ "الله" سبحانه، وغير محكوم بمفهومه الأساسيّ.. وهذا ماجعل الدّارسين الدّلاليّين يذهبون إلى القول إنّ عالَم القرآن مرتكزٌ أساسًا على الله theocentric، ولم يكن الأمرُ كذلك في الجاهلية. ويحدّثنا المؤلّفُ هنا عن أمرٍ غاية في الأهميّة في تاريخ الثقافة الإسلاميّة الذي أعقب نزولَ القرآن، فيقول إنه بلغ من سلطان القرآن أن جعل كلَّ منظومة من منظومات الفكر الإسلاميّ مضطرّةً إلى اللجوء إلى المعجم اللغويّ القرآنيّ للحصول على عناصرها المادية. ويمثّل لذلك بمنظومات عِلْم الكلام والفلسفة والتصوّف التي أفادت من المادّة اللغوية القرآنية في تعابيرها المفتاحية والصميمية. ويؤلّف الفصلُ الثالث الموضوعَ الدقيق للكتاب، أي البنية الأساسية لنظرة القرآن إلى العالم. وههنا يسعى المؤلّفُ إلى تكوين فكرة عامّة عن المخطّط المفهوميّ لنظرة القرآن إلى العالَم، من خلال دراسة تحليلية ومنظّمة للكلمات الأكثر أهميّة التي تبدو تؤدّي وظيفة حاسمة في تمييز الفكرة الغالبة التي تتخلّل جملةَ الفكر القرآنيّ وتنفذ فيه وتغلب عليه. وابتغاء تحقيق هذا الهدف يرى المؤلّفُ أنّه كان عليه في البدء أن يقرأ القرآنَ من دون أيّ تصوّر قبْليّ. أي إنّ عليه أن لايحاول أن يقرأ في القرآن الفِكَر التي طوّرها وأحكمها المفكِّرون المسلمون في الأزمنة التي تلت نزول القرآن بل عليه أن يحاول فهمَ بنية تصوّر العالَم في القرآن في صورته الأصلية، أي كما قرأه وفهمه صحابةُ النّبي عليه الصلاة والسلام وأتباعُه المباشرون. ويخلص المؤلّفُ إلى انطباع أساسيّ وغالب في هذا الشأن، وهو أنّ هذا القرآن منظومة كبيرة متعدّدة الطبقات معتمدة على عدد من الأضداد المفهوميّة الأساسيّة التي يؤلّف كل منها حقلًا دلاليًّا محدّدًا. والقرآن، كما انتهى إليه فهمه وتأمّله، عالَمٌ يسوده جوّ كثيف من الانشداد والتوتّر الرّوحيّ. ويقول إنّنا في القرآن أمام "دراما" روحية حادّة تتقدّم. ودائمًا لاتحدث "الدّراما" إلا حيث يوجد تضادّ قويّ بين الممثّلين أو الأبطال الرّئيسين. ويخلص من ذلك إلى أنّ نظرة القرآن إلى العالم من الوجهة الدّلالية قابلةٌ لأن تمثَّل في صورة منظومة a system مبنيّة على مبدأ التضادّ المفهوميّ. ثمّ يتحدّث عن التضادّ الأوّل والأهمّ في هذه المنظومة، بين الله تعالى والإنسان. وهذا التضادُّ تنشئه أربعةُ أضرب مختلفة للعلاقة بين الله والإنسان: 1-علاقة وجوديّة، 2- علاقة اتّصالية، 3- علاقة الرّبّ- العبد، 4- علاقة أخلاقية. ويرى أنّ هذه العلاقات متى رُسِّخت بين الله، سبحانه، والإنسان ولّدت جماعةً خاصّة من الرّجال الذين يعترفون بها ويختارون الجانب الإيجابيّ من المسألة أساسًا لنظرتهم إلى الحياة والوجود؛ ممّا أنشأ في تاريخ الإسلام "الأمّة المسلمة". وتتمثّل الاستجابة الإيجابيّة في العلاقة الوجوديّة في اعترافهم بـ "الله" خالقًا لهم وموجدًا ومعتنيًا بمصيرهم. أمّا الاستجابة الإيجابيّة في علاقة الاتصال فتتمثّل في استجابة الإنسان استجابة راضيةً مخلصةً للنّداء الإلهي واتّباع هدايته وتوجيهه إلى طريق النجاة. وأمّا في علاقة الرّبّ- العبد فتعني الاستجابةُ الإيجابيةُ أن يطرد الإنسانُ عن نفسه بقايا الجاهلية السّابقة ويلجأ إلى الله "سيّده" كما يليق حقًّا بالعبد. وتعني العلاقةُ الأخيرة أن يعبّر عن الشكر لفضل الله عليه وأن يخشى عقابه. ثم يتحدّث المؤلّف عن التضادّ المفهوميّ الثّاني: الغيب والشهادة. ويوضح أنّ الرّؤية القرآنية تقسم العالم الحاضر الذي يحيا فيه الإنسانُ إلى نصفين، عالَم الغيب وعالَم الشهادة. ويخصّص الفصلَ الرّابع للكلمة الصميمية في المعجم اللغويّ القرآنيّ: الله. ويبيّن أنّ النظرة إلى العالَم في القرآن مرتكزة على "الله" سبحانه، أساسًا. ويكون طبيعيًّا، والحال كذلك، أنّه في المنظومة القرآنية يحكم مفهومُ "الله" الكلَّ من علٍ، ويترك تأثيرًا عميقًا في البنية الدّلالية للكلمات المفتاحيّة جميعًا. ولأهمية فهم الكيفية التي يُبنى فيها هذا المفهومُ دلاليًّا، خصّص المؤلّفُ هذا الفصل لتحليل مفصَّل نسبيًّا لهذا المفهوم، وجعل ذلك مدخلاً إلى دراسة المسألة الأساسيّة لديه، مسألة العلاقة الرّباعيّة بين الله تعالى والإنسان. ويتحدّث المؤلّفُ هنا عن تطوّر المعنى "السّياقيّ" لكلمة "الله" بين عرب الجاهلية، ويميّز بين ثلاث حالات مختلفة: 1- المفهوم الوثنيّ لله 2- مفهوم اليهود والنصارى لهذه الكلمة في العصر الجاهليّ 3- استخدام العرب الوثنيّين للمفهوم الكِتابيّ لـ "الله" خاصّة عندما يمدحُ شاعر بدويّ مَلِكًا نصرانيًّا. ويضيف إلى الحالات الثلاث السّابقة حالة أخرى خاصّة جدًّا، هي مفهومُ الله لدى مَن عُرِفوا باسْم "الحُنفاء". وقد ظلّت هذه الحالةُ مستقلّةً ومتعالية نسبيًّا عن الأخريات إلى أن ظهر الإسلامُ فأتى بها على نحو مفاجئ إلى ضوء التاريخ المتألّق. ثم كان الفصلُ الخامس من الكتاب محلًّا لمناقشة العلاقة الوجودية بين الله والإنسان، وقد ناقش فيه المؤلّفُ محورَينْ مهمّين يدوران في فلَك هذه العلاقة، وهما خلْقُ الله الإنسانَ من عدَم، وقدَرُ الإنسان. ويعقد المؤلّف هنا مقارنة رائعة بين النظرة الجاهليّة إلى العالَم، والنظرة القرآنية. فالنظرة الجاهليّةُ نظرةٌ كئيبة جدًّا إلى الحياة، إذ تُتصوَّرُ الحياة كلُّها سلسلةً من الفواجع، التي لايحكمها القانون الطبيعيّ للنماء والبِلى، بل الإرادة الغامضة لكائن مظلم أعمى شبه شخصيّ، لامنجاة من قبضته القويّة. أمّا عالَمُ القرآن فيقدِّم صورةً مختلفة تمامًا للشرط الإنسانيّ. إذ على حين غِرّة تصحو السّماء، ويتبدّد الظلام، وفي موضع المعنى المأساويّ للحياة يظهر مشهدٌ لألاء جديد للحياة الخالدة. والاختلافُ بين النظرتين إلى العالَم في هذا الشأن شبيهٌ تمامًا بالاختلاف بين اللّيل والنهار. وهكذا فإنّه في المنظومة الجاهليّة القديمة، يكون العملُ الخَلْقيّ لـ "الله" تعالى هو في الوقت نفسه البدايةَ والنهاية لتدخُّل الله في شؤون الإنسان. و "اللهُ" من حيث المبدأ لايعبأ بمَنْ أتى بهم إلى الوجود، كحال أبٍ غير مبالٍ لايعبأ بأولاده، المهمّةُ كلّها تُنجز بوساطة كائن آخَر يسمّى "الدهر". أمّا في المنظومة المفهوميّة الإسلاميّة فالأمرُ على العكس من ذلك، فالخَلْقُ يحدِّد فقط بدايةَ الهيمنة على المخلوقات. وشؤونُ الإنسان كلّها، حتّى أدقُّ تفاصيل الحياة وأكثرها أهمّية في الظّاهر، تحت الاطّلاع الصّارم والمراقبة الدقيقة لحضرة "الله" سبحانه. والأكثرُ أهمّيةً في هذا الشأن أنّ "الله" في القرآن هو "الله" ذو العَدْل الذي لايظلم أبدًا. ولا شأن للدّهر، ولا لمكائده الأكثر خفاءً. وجاء الفصْلُ السّادسُ من الكتاب ليعالج العلاقةَ الثانية، الاتّصالية، بين الله سبحانه والإنسان في ضرْب الاتّصال غير اللغويّ. وههنا يفصِّل المؤلّفُ القولَ في نوعين من علاقة الله سبحانه بالإنسان، هما: آياتُ الله، وهدى الله. ويفرّق المؤلفُ بين الاثنين تفريقًا دقيقًا. فالآياتُ موجودةٌ في كلّ شيء، والإنسانُ يستطيع أن يراها، لكنّ اختيار الاهتداء أو الضّلال راجعٌ إلى مشيئة الله، وصحيحٌ أنّه يوجد في القرآن قولُ الله سبحانه: "مَنْ شاءَ فليؤمنْ ومَنْ شاء فليكفر" (الكهف الآية 29)، لكنّ الصّورة النهائيّة محكومةٌ بمشيئة من له مُلْكُ السّماوات والأرض ومَنْ فيهنّ "مَنْ يشأ اللهُ يضلِلْهُ ومَنْ يشأ يجعَلْه على صراط مستقيم" (الأنعام، الآية 39). ويناقش المسالةَ بقدر من التفصيل، فيبيّن أنّه في المفهوم الأوّل أو المنظومة الأولى، يستجيب الإنسانُ لهدى الله إمّا بالاهتداء وإمّا بالضّلال. أمّا في المفهوم الثاني، أو المنظومة الثانية، فيستجيب الإنسانُ لهدى الله بالاهتداء، ويستجيب للضّلال بالضّلال، حسب التقدير الإلهيّ. وختم الفصلَ بالحديث عن العبادة بوصفها أداةً لاتصال العبد بربّه. وفي الفصل السّابع، وهو أطولُ فصول الكتاب، يتحدّث المؤلّفُ عن العلاقة الاتصالية بين الله والإنسان في نوع الاتّصال اللغويّ. ويدير حديثَه هنا حولَ جملة محاور: 1- كلام الله 2- المعنى الأصليّ لكلمة وَحْي 3- البنية الدّلالية للوَحْي 4- الوَحْيُ في اللغة العربية
5- الدّعاء. وواضحٌ هنا أنّ المؤلّف يتحدّث عن اتّصال لغويّ بين الله تعالى والإنسان في اتجاهين: من حضرة الله إلى الإنسان بوساطة كلام الله والوحي، ومن الإنسان إلى الله بوساطة الدّعاء. وقد ناقش المؤلّفُ القضايا المعالجة في هذا الفصل بقدر كبير من التفصيل والعمق، وخلص إلى نتائج مهمّة جدًّا في طبيعة استجابة الإنسان العربيّ لمراد ربّه سبحانه، وفي طبيعة الكلام القرآنيّ المصوغ ببيان عربيّ. ويجيء الفصلُ الثامنُ ليحتضن حديث المؤلّف عن الجاهلية والإسلام، وقد عالج فيه الجانب الثالث من علاقة الله والإنسان، وهي علاقةُ الرّبّ- العبد. ويبيّن أنّ تصوّر "الله" ربًّا لم يكن مجهولاً لدى عرب الجاهلية، وفارقُ مابين الجاهلية والإسلام في هذا الشّأن أنه في الأزمنة الجاهلية لم يكن "اللهُ" الرّبَّ الوحيدَ المطلق، بل كان إلى جانبه أرباب كثيرون وربّات كثيرات. أمّا الإسلامُ فقد أقرّ بـ "الله" لأول مرة الحاكمَ المطلقَ، الرّبَّ الأوحد المطلق للعالم كلّه. وقد نشأ عن هذا التصوّر أنْ فُهِم الإسلام بمعنى التسليم التّامّ لهذا الرّبّ العظيم. وقد ناقش المؤلّفُ في هذا الفصل ثنائيًّا في غاية الأهمّية في تحديد نظرة القرآن إلى العالَم هو ثنائي: الجهل- الحِلْم. وفيه يبيّن باستفاضة ماطرأ على هذين المفهومين من تغيّر بين الجاهلية والإسلام. فالجهلُ في الجاهليّة سلوكٌ بشريّ موجَّهٌ من الإنسان إلى أخيه الإنسان، أمّا في القرآن فيغدو موجَّهًا إلى الله تعالى. ويفسّر القرآنُ موقفَ العداء الذي أظهره المشركون العرب من هُدى الله بمنطق الشبكة المفهوميّة للجهل. وقد حدث تغيّر جذريّ في بنية الجهل بين الجاهلية والإسلام، إذ يتّخذ المشركون العربُ موقفَ الجهل من الله تعالى، وهذا في المنظور القرآنيّ تواقحٌ منهم، فالإنسانُ أساسًا "عَبْدٌ"، وما ينبغي له أن يكون غيرَ ذلك. ولا بدّ إذًا من طرْد الجَهْل من جناب الرّبّ العظيم، ولن يبقى إلاّ المفهومُ الضدُّ لهذا: الحِلْم. ولأنّ الحِلْم من العَبْد إلى الرّبّ عصيٌّ على القبول من الوجهة الخلُقية، لابدّ أن يتحوَّل الحِلْمُ إلى الخضوع التّامّ، أي الإسلام. وعلى المؤمن الحقّ، أي العبد الحقّ، أن يتخطّى كثيرًا درجة الحِلْم، باتّجاه التواضع والتذلّل أمام الله. كلُّ إحساسٍ بالاستغناء والقدرة ينبغي أن يُتجاهَل، والخضوعُ التامُّ هو المطلوبُ منه. لكنّه عندما يصل التواضع إلى هذه الدّرجة، لايعود حِلْمًا بل هو إسلام. فكان مفهومُ الإسلام من هذه الوجهة تعديلًا جذريًّا لمفهوم الحِلْم، تعديلاً فرضته حقيقةُ أنّ مَنْ واجه الإنسانَ عند ظهور الإسلام لم يعد إنسانًا من الناس، بل ربّه العظيم. ويلحق المؤلّفُ بهذا الفصل حديثًا طويلاً في مسألة تصوّر الدّين ضرْبًا من الطّاعة. الفصلُ التاسعُ الأخيرُ يعقده المؤلّفُ للحديث عن العلاقة الرّابعة بين الله والإنسان: العلاقة الأخلاقية. وتنهض معالجةُ المؤلّف في هذا الفصل على فكرة تبدو مستقرّة لديه هي أنّ أحد الملامح الجليّة جدًّا للفِكْر الدّيني الذي نشأ في العالَم السّاميّ Semitic، أي اليهوديّة أو النصرانية أو الإسلام، هو أنّ مفهوم "الله" أخلاقيّ أساسًا. أي إنّ الله سبحانه لأنّه أخلاقيّ أساسًا، يعامل الإنسانَ بطريقة أخلاقية، أي بوصفه اللهَ ذا العَدْل والخير، ويُنتظَر من الإنسان أن يستجيب لهذه المبادرة الإلهية أيضًا بطريقة أخلاقية. والله سبحانه يتجلّى للخلق في نوعين مختلفين من التجلّي: اللهُ ذو الرّحمة، واللهُ ذو الانتقام، أو اللهُ ذو الفضل والله ذو العَدْل. واللهُ سبحانه يعامل الإنسان بطريقة غاية في الرّحمة والفضل واللّطف في صورة الآيات المنزلة. وهذه الحقيقةُ تحدّد الاستجابة الصحيحة الوحيدة المنتظرة من بني البشر، وهي الشّكر. ولا يكون الشّكر إلاّ بعد فهم الآيات. وهكذا لأوّل مرة في تاريخ الفِكَر بين العرب يغدو "الشكرُ" مفهومًا دينيًّا، وتكون المسافةُ قريبة جدًّا من الشكر إلى الإيمان. وضدُّ الشّكْر هو "الكفرُ"، الذي يعني عدم الاعتراف بالجميل، أو الجحود. وهكذا يأخذ مفهومُ "الكفر" الذي لاعلاقة له قبل الإسلام البتّة بالدّين، مغزى دينيًّا في المنظومة القرآنية. وإذا كان عربُ الجاهلية اعتادوا على أن يعيشوا وفق القاعدة الأخلاقية العليا: "شكر النعمة"، فقد تبنّى القرآنُ هذه البنية كما هي وارتقى بها إلى مستوى دينيّ. النعمةُ في هذه الحال هي الفضلُ الإلهيّ الذي يستجيب له الإنسانُ إمّا على نحو صحيح بـ "الشّكْر"، وإمّا على نحو خاطئ بـ "الكفر". ويتطوّر مفهومُ الشّكر هنا بسهولة إلى مفهوم "الإيمان". وعلى نحو مماثل، يتحوّل الكفرُ، فاقدًا دلالته الأصلية المتمثلة بـ "عدَم الاعتراف بالجميل"، إلى مفهوم "عدم الإيمان"؛ وهكذا يغدو مضادًّا مفهوميًّا مباشرًا لـ "الإيمان"، كما يغدو ذلك جليًّا في قول المولى سبحانه: "كيف يهدي اللهُ الذين كفروا بعد إيمانهم" (آل عمران، الآية 86). أمّا لمَنْ يتّخذون موقفَ الكفر بدلاً من الشكر أو الإيمان، لمن يرفضون الخضوع لله ولمَنْ يغفلون تمامًا عن الاستجابة الصحيحة، فيظهر الله تعالى التجلّيَ الآخَر؛ تجلّي العدْل الصّارم والأخْذ الشديد. والنقطةُ المحوريّة لهذا كلّه هي الفكرةُ الأخرويّة "يوم الحساب". وصورةُ هذا اليوم الحاسم لابدّ من أن تمثُل دائمًا أمام أعين النّاس على نحو يقودهم إلى الجدّية المطلقة، بدلاً من الطيش والغفلة في الحياة. وهذه الجدّيّة، كما يقول، قويّة جدًّا في المرحلة المكّيّة، وقد تبلورت في مفهوم التقوى، بالمعنى الأصليّ لها أي خشية العقاب الإلهيّ في الآخرة. ويقارن المؤلّفُ بين الدّلالة الجاهليّة للفعل "اتّقى" والدّلالة القرآنية، ويلاحظ أنّه بتقدّم الزّمن يضعف ارتباط التقوى بـ "الآخرة"، وتصبح مرادفةً لـ "الورَع"، ويغدو "المتّقي" مرادفًا لـ "المؤمن الورع" في مقابل "الكافر". وفي نهاية الفصل يقف المؤلّفُ عند ثنائيّين مفهوميّين واضحين في القرآن هما: الوَعْد والوعيد، والبشارة النِّذارة. وفي مناقشة كلّ ثنائيّ يعمد المؤلّفُ إلى المقارنة بين ماكان عليه الأمرُ في الجاهليّة وما آل إليه في الإسلام. هذه هي الفِكَر الأساسيّة في الكتاب، الذي زوّده المؤلّف برسوم إيضاحيّة بيانية، توضح تمامًا ماقصد إليه. ولا يمكن القارئَ المتأمّلَ المنصف إلاّ أن يوافق المؤلّف على جمهرة الفِكَر التي عرض لها، والنّتائج التي انتهى إليها. هذا باستثناء أمور قليلة جدًّا، منها مثلاً أنّه لايرى في العربية فضلاً وتميّزًا من جهة كونها لغةً من اللّغات ويقول في مبحث "الوحي في اللغة العربيّة" من الفصل السابع: "تقوم النظرة القرآنية إلى هذه المسألة على الوعي الثقافيّ الواضح جدًّا لحقيقة أنّ كلّ أمّة لها لغتُها، وأنّ العربيّة لغةُ العرب، وهي بهذه الوظيفة واحدةٌ فقط من لغات كثيرة. وإذا اختار الله تعالى هذه اللغةَ فإنّ ذلك لم يكن بسبب قيمتها الحقيقيّة من حيث هي لغةٌ، بل فقط بسبب فائدتها ونفعها، أي بسبب أنّ الرّسالة كانت موجّهةً أوّلاً إلى المتكلِّمين بالعربيّة. ونرى القرآنَ نفسَه يعلن المرّة تلو المرّة أنّ هذا الكتاب أُنزل بالعربيّة فقط لتسهيل الفهم "إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلّكم تعقلون" (يوسف، الآية 2). واعتراضُنا على عدم إعطاء العربيّة أيّة قيمة من حيث هي لغةٌ، مصدرُه إدراكُنا أنّ العربيّة قادرةٌ على الإبانة عن مراد الله سبحانه أكثر من غيرها من اللغات بما توافر لها من وفرة في المفردات المعبّرة عن الشيء الواحد في أوضاعه وأشكاله وخاصّياته المختلفة، وبما انطوت عليه من صِيَغ صِرْفِيّة معبّرة، وبما تدلّ عليه أوضاعُها التركيبية من دلالات، وبما يوفّره جرْسُ ألفاظها من تماثلات صوتيّة تساعد في إبهاج السّامع وإيقاظ ملَكاته الإدراكية لتحصيل أكبر قدر من الطّاقة الدّلاليّة. ومالا ينبغي إغفالُه البتّة في السّياق الذي نحن فيه أنّ هذه المادة ، مادّة ع ر ب، فيما يبدو تفيد البيانَ والوضوح، يقول الرّاغبُ الأصفهانيّ في المفردات: "والعربيُّ: المفصِحُ، والإعرابُ: البيانُ، يقال: أعربَ عن نفسه.. والعربيُّ: الفصيحُ البيِّنُ من الكلام، قال: "قرآنًا عربيًّا". وإذا كان الأمرُ كذلك، فالعربية إذًا هي اللغةُ الأكثر كشفًا للمعاني والأكثر فصاحةً وبيانًا، وينشأ عن ذلك أنها ذاتُ فضلٍ وتفوّق من حيث هي لغةٌ معبِّرة أكثر من غيرها. ولا يتوقّف فضلُها، فيما نرى، عند إفادتها في التعبير عن المعاني عند متكلّميها من العرب، بل هي فيما يبدو لنا أعربُ اللغاتِ وأفصحُها وأبينُها عن المعاني الدّقيقة والعميقة. ولا يأذن لنا المقامُ بالزّيادة في هذا المجال. ويبقى أن نشير هنا إلى أمرين هما: المؤلّف والطّبعة التي اعتمدناها في الترجمة. أمّا المؤلّفُ فهو الدكتور في الآداب توشيهيكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu، وكان أستاذًا "بروفسور" في معهد الدراسات الثقافية واللغوية من جامعة كيو Keio University اليابانية، ومقرّها في مدينة طوكيو، الحاضرة اليابانية. والأستاذ إيزوتسو لامعٌ جدًّا في الدّراسات المهتمّة بالقرآن والثقافة الإسلامية. وقد لاحظتُ أنّ عددًا من الدّارسين الكبار للإسلام والثقافة الإسلاميّة من أهل الغرب يرجعون إلى مؤلّفاته ويفيدون من تبصّراته. وهو في كتابه الذي نعرّف بمادّته العلمية الآن يحيل إلى كتاب آخر له يبدو مهمًّا في فهم البنية المفهومية للقرآن الكريم، ويحمل عنوان: The Structure of the Ethical Terms in the Koran ويبدي الأستاذ إيزوتسو اقتدارًا كبيرًا في فهم القرآن الكريم والشعر العربيّ في كتابه الذي بين أيدينا، كما تنمّ تأمّلاتهُ على إلمام كبير بتاريخ الثقافة الإسلامية منذ نشأتها الأولى إلى عصور ازدهارها ونمائها. ويستشعر قارئ كتابه رصانته الكبيرة واتّزانه واحترامه الكبير لكتاب الله سبحانه، وللمفهومات القرآنية. وأمّا الكتابُ الذي نقدّم للقارئ الكريم هنا عرضًا لمحتوياته وترجمناه إلى العربية، فقد أنشاه الأستاذ إيزوتسو بالإنكليزيّة وحمل العنوان: GOD AND MAN IN THE KORAN ٍSemantics of the Koranic Weltanschauung وقد صدر عن معهد كيو للدراسات الثقافية واللغوية في طوكيو سنة 1964م. وقد ألّفه الأستاذ إيزوتسو بلغة إنكليزية جميلة إلى حدّ كبير، ولم أجد صعوبة كبيرة في ترجمته إلى العربيّة، بمَنّ الله سبحانه وفضْله. ويستلزم الاعترافُ بالجميل الإشارة إلى أنّ الصديق النّبيه والباحث الشابّ الجادّ الدكتور عبد الرّحمن حللي، المدرّس في كليّة الشريعة من جامعة دمشق، هو صاحب الفضل في لفت انتباهي إلى قيمة الكتاب لدارسي القرآن الكريم لغةً وفِكَرًا ومفهوماتٍ كبرى، فأحسن الله سبحانه له المثوبة. والحقيقةُ أنّني سعدتُ بصحبة هذا الكتاب على امتداد خريف سنة 2005م، وكان عليّ أن أردّد مع شيخي وسيّدي جلال الدّين الرّوميّ: " فمن جوار الطالبين تصير طالبًا، وتحت ظلال الغالبين تصير غالبًا " (المثنوي ج3، البيت 1448) والحمدُ لله في البدء وفي الوسط وفي النهاية، وحيثُ لا بدء ولا وسط ولا نهاية. ــــــــــــــ - العنوان الأصلي للكتاب بالإنكليزية: God AND MAN IN THE KORAN Semantics of the koranic Weltanschauung - المؤلف: البروفسور توشيهكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu - الناشر وتاريخ النشر: معهد كيو Keio Institute للدراسات الثقافية واللغوية في جامعة كيو Keio University، طوكيو، اليابان، 1964م.
تاريخ النشر : 30-05-2006
|
|
|
|
|
|
|
الصفحة الرئيسية
l
دراسات قرأنية l
دراسات حديثة l
الفقه و الأصول l
العقيدة و الكلام l
فلسفة التجديد
قضايا التجـديـد l
إتجاهات الإصلاح
l
التعليم و المناهج l
التراث السياسي l
الدين و الدولة l
الحقوق و الحريات
مفاهيم و مصطلحات l
الإسلام السياسي l
الظاهرة الدينية l
فلسفة الدين l
فلسفة الأخلاق l
قضايا فلسفية
المـــرأة و النسوية l
الإسلام و الغرب l
عروض و مراجعات l
إصدارات l
حوارات و شخصيات l
مـؤتـمـرات و متابعات
جديد الملتقى l
سجل الزوار l
رأيك يهمنا l
اتصل بنا
©2024
Almultaka جميع الحقوق محفوظة
Designed by
ZoomSite.com
|
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.