رغم الجدل حول مدى المفصلية التاريخية لأحداث الحادي عشر من أيلول في تأريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، فإن واقع الحال يؤكد أن تاريخ ما بعد الأحداث خلق وضعاً جديداً في العالم الإسلامي لا مفر للمسلمين من التعاطي معه، فالتحديات التي تواجه المسلمين أصبحت أكثر وضوحاً وإلحاحاً، كما أن الغرب أصبح أكثر جرأة وصراحة في طبيعة مطالبه وأوامره، فما كان مسكوتاً عنه أو غير ذي أولوية أصبح معلناً ومبرمجاً، وما كان تحت الطاولة أصبح فوقها، والتقت في هذا السياق الكثير من المطالب الداخلية المهملة مع المطالب الخارجية، لكن مع اختلاف الدواعي والتوجه.
من هنا كان من المهم رصد التغيرات والتداعيات التي أثرت في العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/2001، وهذا ما يتضمنه هذا الكتاب " العالم الإسلامي وتحديات 11/شتنبر 2001 (الواقع والمآل)"، (تأليف: د. محمد بشاري، دار الفكر- دمشق ، ط:1/2006)، إذ يتناول مؤلفه المبادرات الأمريكية والأوربية -الصادرة عن مراكز الأبحاث- التي قُدّمت عن المنطقة بحجة إشراكها في الحداثة وتبني الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والحكم الصالح والشفافية واقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية؛ ذلك أن المنطقة - برأي تلك المبادرات - تعاني من الاستبداد والفساد والتطرف الديني والفقر وتدهور التعليم والصحة والثقافة وقد استمدت مراكز الأبحاث المشار إليها معلوماتها من تقارير التنمية البشرية الصادرة عن منظمات تابعة للأمم المتحدة في الدول العربية، ويستعرض الكتاب عدداً من المبادرات والتقارير مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومبادرة منتدى المستقبل، ومشروع الإسلام المدني الديمقراطي، والحوار الأمريكي الأوربي مع الحركات الإسلامية، والمبادرة الألمانية الدانمركية، وهي في نظر المؤلف محاولات لإدماج هذه البلدان في النظام العالمي الجديد، وإشراكها في ظاهرة العولمة التي اجتاحت المعمورة.
ويقف المؤلف عند أهم التحديات التي تفاقمت في السنوات الماضية بعد أحداث أيلول، والتي يراها في (التجديد الديني، والإصلاح السياسي، والتنمية الاقتصادية، ووضع الأقليات المسلمة)، ويعرض في كل محور المبادرات والمشاريع الخاصة المتعلقة به، ثم يقدم مؤشرات للبدائل التي يراها.
ففي موضوع تجديد الفكر الديني وإعادة قراءة النص القرآني، يشير إلى عدد من الندوات والمؤتمرات التي تناولت هذا الموضوع بالدرس فيناقش أطروحاتها، ويحلل خلفياتها، ويرى أن الوجود الحضاري للأمة الإسلامية مرتبط بتجديد فقهها بما يلائم المتغيرات التي يشهدها العالم، ولن تفيد المؤتمرات والندوات حول التجديد والإصلاح والتحديث والتي يعقدها علمانيون طالما لم تكن لدينا إرادة حقيقية في تجديد الدين، والمدخل إليه هو الاجتهاد الجماعي.
وفيما يتعلق بتحدي الإصلاح السياسي يؤكد أن الديمقراطية أصبحت قدراً قادماً في الطريق وينبغي الاختيار بين التعاطي معه أو تجاهله وتحمل تبعات أي من الخيارين شئنا أم أبينا، كما يلح على ضرورة الإيمان بخيار الإصلاح من الداخل والعمل على إحقاقه، وإلا سنصبح عرضة للرضوخ لإصلاح مفروض من الخارج.
وفي موضوع تحدي التنمية الاقتصادية التي تواجه البلاد الإسلامية، وكيفية التصدي لها، يرى أن لا بديل عن خيار التكتل الاقتصادي الإسلامي لمواجهة التكتلات العالمية، وذلك من خلال ما أسماه عولمة إسلامية مشتركة، يمكن تحقيقها بتفعيل وإحياء مقررات مؤتمر طرابلس لوزراء خارجية الدول الإسلامية 1977، ومؤتمر القمة العربية بعمان 2001، والذي دعا إلى إحياء السوق المشتركة وإخراجها من حيز النظريات إلى التطبيق.
أما التحديات التي يفرضها واقع الأقليات المسلمة في الغرب، كمسألة الهجرة والاندماج والخصوصية والمحافظة على الهوية، حيث التماس المباشر مع الآخر، بكل التحديات الثقافية والدينية والاجتماعية المفروضة على المسلمين المقيمين في الغرب، فهي تحديات مزدوجة لأنها ترتبط بالعقل الإسلامي وعامة المسلمين، إضافة لارتباطها بأوضاع الأقلية المسلمة، وتتمحور الأولويات في مواجهة هذه التحديات في إعادة تأسيس المرجعية الإسلامية، لاسيما في ضوء العلاقة بين الدول الغربية والعالم الإسلامي، وكذلك معالجة إشكالية وجود الأقليات في الغرب وما يتطلبه ذلك من حل الصراع بين متطلبات تحقيق الذات وتأكيد الانتماء ومتطلبات الاندماج والتكيف مع بيئة لا تساعد على الحفاظ على الهوية، ولا بد من الاهتمام بنيوياً بالجوانب التربوية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية للجالية المسلمة، وللدول الإسلامية دور في ذلك.
إن أهمية الكتاب تتجلى في الجانب التوثيقي للمبادرات الغربية والعالمية فيما يخص محاور التحديات الأربعة التي تحدث عنها، وتحليل أبعادها واستراتيجياتها، كما يقدم المؤلف ما يراه بدائل مقترحة في مواجهة هذه التحديات، لكنها بدت أفكاراً عامة ومألوفة من قبل، وهي بذاتها بحاجة إلى نقاش لاسيما وأنه قد مضى على طرحها بعضها مدة من الزمن دون أن تجد استجابة، وما تم من هذه المقترحات لم يقدم بديلاً، فالاجتهاد الجماعي ومؤسساته قائمة لكن التجديد لم يتم ولم يعالج التحديات المذكورة، وحل السوق العربية والإسلامية المشتركة موضوع إجماع بين المحللين الاقتصاديين، لكن هل القناعة بهذا الخيار ومجرد الإرادة كافية؟.
إن محاور التحديات تعتبر مركزية وتاريخية في العالم الإسلامي، وقد سرعت أحداث أيلول بمخاطر تأخر مواجهتها، وهي تحديات مترابطة ومتشابكة، لكن قمة التحدي فيها هو مدى إمكانية معالجتها بمعزل عن العالم المعاصر الذي فرضها وطرح المبادرات بشأنها، ولئن لم يكن لنا خيار في العولمة فلنا خيارات في كيفية التكيف معها بما يقلل مخاطر التحديات المتعددة ويحقق القدر الأوفى من المصالح للعالم الإسلامي.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.