لا يسع قارئ الجابري أن يطالع له كتابا جديدا دون أن يربطه بمشروعه الفكري في قراءة التراث العربي. ولكن الجابري في كتابه الجديد (مدخل إلى القرآن الكريم:في التعريف بالقرآن) يحب أن يجعل القارئ حرا (أو حائرا) في رسم الإطار الذي يمكن أن ينتسب إليه كتابه هذا، من جهة صلته بالسيرورة الفكرية له. ولعله أميل إلى إخراجه عن إطار مشروعه السابق من جهات عديدة، فهو مبدئيا ينفي أن يكون القرآن مما يصدق عليه مصطلح التراث فهو النص المؤسس للتراث، وعنه وحوله نشأ هذا التراث. ومن جهة أخرى، لا يرى الجابري أن مشروعه الفكري يمتلك خطا أو مسلكا محددا مسبقا بل هو آفاق تتوسع باتساع المعرفة والبحث.
يحاول الجابري أن يضع كتابه هذا في سياق التداعيات التي أعقبت أحداث الحادي عشر من أيلول وما تبعها من هجوم على الإسلام، فألف كتابه هذا "مدفوعا برغبة عميقة في التعريف به للقرّاء العرب والمسلمين وأيضا للقرّاء الأجانب، تعريفا ينأى به عن التوظيف الإيديولوجي والاستغلال الدعوي الظرفي من جهة، ويفتح أعين الكثيرين ممن قد يصدق فيهم القول المأثور «الإنسان عدو ما يجهل»، على الفضاء القرآني كنص محوري مؤسس لعالم جديد كان ملتقى لحضارات وثقافات شديدة التنوع، بصورة لم يعرفها التاريخ من قبل" (ص 14).
ولكن هذا لا يمنعنا من أن نضع هذا الكتاب ضمن سياق المشروع الجابري أو سيرته الفكرية، فبعد إنجازه مشروع قراءة التراث الفكري العربي في أنساقه المختلفة، انتقل الجابري إلى قراءة الأساس والأصل الذي قام عليه هذا التراث، محاولا تطبيق نفس المبدأ الذي اعتمده في تناول التراث ألا وهو: «جعل المقروء معاصراً لنفسه ومعاصراً لنا في الآن نفسه».
أما معاصرة النص لنفسه فتتم من خلال تطبيق المبدأ الذي نادى به كثير من علماء المسلمين، من المفسرين وغيرهم، وهو أن «القرآن يشرح بعضه بعضا»، وذلك دون إقصاء الروايات والمأثور، على أن يشهد القرآن لهذه الروايات بالصحة، ولا تقع في تصادم معه. والجابري في اعتماده هذا المبدأ لا يبتغي بعمله هذا أن يدون تفسير للقرآن، بل يقتصر هدفه على التعريف به، ولكن هذا التعريف قد يدعوه إلى قراءة القرآن نفسه، وتفسير بعض نصوصه. وأما معاصرة النص لنا، فإنما تتم ـ كما يرى الجابري ـ على صعيد الفهم والمعقولية لهذا النص، هذا فضلا عن صعيد التجربة الدينية المتحققة دوما.
وقد سمّى الجابري كتابه هذا مدخلا وتعريفا بالقرآن، إذ أراد من خلاله أن يكتب سيرة للقرآن، يرى أنها ضرورية جداً لفهمه، وضرورية لجعله معاصراً لنفسه. من أجل هذا جعل كتابه على ثلاثة أقسام: عرض في القسم الأول منها لقضايا تنتمي إلى التاريخ السابق على القرآن، بما هو رسالة إلهية موحاة، ودعوة نبوية جديدة.
من هذه القضايا مسألة التبشير بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفكر الديني السابق على الإسلام، وهي قضية لم تزل مثارا للجدل بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ونصارى منكرين وجود مثل هذه البشارة (1) وقد أوضح الجابري أن المسألة لم تكن مجرد تبشير ب«الأمي» الذي اسمه أحمد أو محمد، على النحو الذي فهمه كثير من المفسرين، وحاولوا بناء عليه التنقيب في كتب اليهود والنصارى على دليل عليه ـ بل مسألة التبشير مرتبطة بوجود تيار ديني توحيدي قام في وجه نظرية التثليث التي رسمتها المجامع الكنسية برعاية الإمبراطورية البيزنطية. ولعل أبرز من يمثل هذا التيار هو آريوس الذي قام بثورته في القرن الرابع الميلادي متبعا عقيدة «النصارى» الموحدين ـ أو من أطلق عليهم أصحاب التثليث لقب «الأبيونيين» أي الفقراء نظريا وفكريا ـ وعمل على نشرها في أنحاء عديدة من الإمبراطورية البيزنطية. ولكن المجامع المسكونية الرسمية قابلت مذهب آريوس بالرفض وبدَّعت كل من يرفض فكرة التثليث، فما كان من هؤلاء ـ بحسب رأي الجابري ـ إلا أن طرحوا فكرة النبي «المنتظر» الذي بشرت به نصوص بعض الأناجيل تصريحا أو تلميحا، أو على سبيل التأويل. وفي هذا الإطار يمكن فهم ما جاءنا من أخبار عن كثير من الرهبان يصرحون بقرب ظهور نبي جديد، وكذلك نفهم ظاهرة «الحنفاء» الباحثين عن الدين الحق، التي انتشرت في أرجاء جزيرة العرب.
وقد حاول الجابري أن يؤكد على أن العلاقة التي تحكم الإسلام بكل من اليهودية والمسيحية هي علاقة تحكمها شجرة نسب واحدة، جذعها المشترك هو إبراهيم شيخ الأنبياء. وهذا كلام لا إشكال فيه، لولا أن السياق يقتضي التفريق بين اليهودية (2) ـ أو المسيحية ـ الأصلية الحقة وبين اليهودية التاريخية أو المسيحية البيزنطية التي انحرفت وانجرفت بعيدا عن أصل التوحيد الإبراهيمي. والكلام الذي أسلفه المؤلف يقتضي هذه التفرقة أصلا.
يطرح الجابري بعد هذا مسألة «النبي الأمي» ومفهوم «الأمية» على بساط البحث والنظر، وهي مسألة كثيرا ما طرحت في العصر الحديث، وقد وافق فيها الجابري آراء كثير من المعاصرين من المستشرقين والمسلمين. حيث ذهب إلى أن المعنى الذي ألصق بكلمة «الأمي» وأنه من يقرأ ولا يكتب، معنى لا يسنده أصل لغوي سليم، ولا استعمال عربي معهود، ولا واقع تاريخي صحيح. فهذا اللفظ «الأمي أو الأمية» لم يستعمله العرب قبل الإسلام، بل هو معرَّب، ومأخوذ عن اليهود الذين كانوا يطلقون على غيرهم ممن ليس لهم كتاب منزل لفظ «الأمم»، وعليه فإن «الأمي» مشتق من «الأمة » ـ كما يقول الفراء ـ وليس من «الأم» كما يقول الزجاج وغيره من المتأخرين. كما أن كثيرا من الدلائل تشير إلى معرفة العرب بالكتابة والقراءة، فضلا عن إلمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
وعليه فإن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في أنه قد جاءهم بكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، بل المعجزة ـ أو فلنقل المنة ـ كانت في إنزال كتاب سماوي على رجل أمي من أمة أمية لم يسبق لهم علم بكتاب سماوي، فأصبح العرب بهذه المعجزة «القرآن» أمة من أهل الكتاب، بعد أن كانت أمة أمية لا كتاب لها.
ثم تطرق الجابري لحدث الوحي، ومفهومه، وللاتهامات التي وجهتها قريش لدعوى الوحي، إذ لم يكن مفهوم الوحي، بالمعنى القرآني، معروفا في معهود العرب اللغوي والثقافي، بل إن مفهوم النبوة أيضا لم يكن من معهودهم، فهذه المفاهيم مما نشأ مع الإسلام، وقد استطرد الجابري بعد ذلك في عرض نظرية النبوة ومفهومها عند المسلمين من المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة والمتصوفة والشيعة، كما تعرض لمفهوم الوحي في اليهودية والمسيحية، مبينا تميز مفهومه في الإسلام عنهما.
السيرة التكوينية للقرآن
أما القسم الثاني من كتابه، فقد خصصه الجابري لبحث مسارات الكون والتكوين للقرآن. واعتمد في بنائه، وفي تخطيط ما سيليه من بحثه على المفاهيم التي عبَّر بها القرآن عن نفسه، مع ملاحظة السياق التاريخي الذي جاءت فيه.
فقد لاحظ الجابري أن القرآن أولَ ما نزل، عبَّر عن نفسه بلفظ «الذكر» ولفظ «الحديث»، حينها لم يكن قد نزل من القرآن إلا سور معدودة قصيرة، ومع انتقال الدعوة إلى المرحلة العلنية، وبدء المواجهة مع المشركين، وتكاثر السور حتى بلغت نحو ثلاثين سورة، ظهر لفظ «القرآن»، ليشير إلى أنه كلام تقوم طريقة تلاوته وترتيله بتأثير ينقل موضوع الذكر والحديث إلى مشاهد صوتية منغمة، تقرر وجودا يحمل معه برهانه، فيستغني عن برهان العقل: { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر:21، وقد استقر هذا الاسم علما على الوحي المحمدي، وأصبح «الذكر» و«الحديث» أوصافا للقرآن، وعلى نحو أدق أصبح المراد بالذكر جزءا مخصوصا من القرآن، وهو آيات القصص، والوعد والوعيد.
أما لفظ الكتاب فقد بدأ مع سورة الأعراف {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} الأعراف:2، التي تستحق أن توصف بأنها كتاب بحد ذاتها، فهي أطول سورة نزلت بمكة، وإطلاق اسم «الكتاب» على القرآن عملية ذات مغزى، فهي أول إشارة إلى انتقال العرب من وضع أمة أميَّة لا كتاب لها إلى وضع أمة لها كتاب، وفي الوقت نفسه تضع حدا لاحتكار اليهود والنصارى للقب «أهل الكتاب»، وسورة الأعراف على وجه الخصوص، تضع بين ناظري العرب تاريخهم الخاص على مسرح النبوة والرسالات السماوية، أي أنبياء العرب «البائدة» عاد وثمود ومدين وغيرهم.
هذه هي اللحظات الثلاث في سيرة القرآن، لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، ولحظة القرآن/الذكر:القص، ثم لحظة القرآن/الكتاب: عقيدة وشريعة وأخلاق. وقد عرض الجابري في كتابه هذا اللحظتين الأوليين وترك اللحظة الثالثة للجزء الثاني الذي وعد به القراء.
أما لحظة القرآن/الترتيل والإعجاز، فقد عرض فيها لمسألة الأحرف السبعة والقراءات، وجمع القرآن، وما أثير حوله من القول بالزيادة والنقصان، وترتيب المصحف، وترتيب النزول. وقد مسَّ الجابري هذه المسائل المشكلة مسَّا خفيفا، فلم يحلَّ إشكالاتها، ولم يأت بما يشفي الغليل، بل اكتفى بسرد بعض الآراء التي ذكرت في كتب علوم القرآن حول هذه المسائل، مع الميل إلى المشهور ـ وما عليه الجمهور ـ من هذه الآراء (3).
وكان من الواضح أنه يريد بإيراده هذه المسائل تقرير بعض الأسس التي سيستند إليها في فهمه للقرآن، لاسيما التسليم بصحة المصحف العثماني وما ثبت من القراءات المتواترة، كما انتهى إلى أن ما ينسب إلى المصادر الشيعية من القول بنقصان شيء من القرآن فهو ليس إلا انعكاسا لموقف سياسي احتجاجي.
أما فيما يتصل بترتيب النزول (4) فقد اهتم الجابري بهذه المسألة اهتماما بالغا، إذ إن هذا الترتيب لا بد منه لرسم المسار التكويني للنص القرآني. وقد لاحظ الجابري التقارب والتشابه بين لوائح ترتيب السور التي نقلتها كتب علوم القرآن عن ابن عباس وجابر بن زيد وغيرهما. كما عرض لاجتهادات المستشرقين في ترتيب السور. وخلص إلى القول بأن "القرآن كتاب مفتوح، يتألف من سور مستقلة تكونت مع تدرج الوحي، والسور نفسها مكونة من آيات مرتبطة ـ في كثير من الحالات ـ بوقائع منفصلة هي أسباب النزول. من أجل ذلك كان من غير الممكن التعامل مع القرآن كنص معماري مهيكل حسب ترتيب ما" (ص243).
ولكن من أجل بناء تصور منطقي عن المسار التكويني للنص القرآني، تصور يكون قريبا من الواقع التاريخي، فإن ترتيب النزول المعتمد حاليا (من قبل الأزهر وغيره من الهيئات الإسلامية) ضروري ولكنه لا يكفي. "ضروري لأنه لا يمكن بناء تاريخ من غير مواد تاريخية"، أما أنه لا يكفي فلئن المرويات لا تفي بالغرض المرجو. فلا بد إذن من توظيف المنطق في عملية استثمار المواد التي يقدمها المأثور، "وفي هذه الحالة قد تدعو الحاجة إلى التصرف في ترتيب النزول المعتمد اليوم، بوصفه نتيجة اجتهاد مبني على الظن والترجيح، وذلك من خلال المطابقة بين المسارين: مسار السيرة النبوية والمسار التكويني للقرآن" (ص 244-245).
على هذا الأساس قدم الجابري تحقيبا للمرحلة المكية من نزول القرآن في مخطط مساوق لمسار السيرة النبوية فجعلها على خمسة مراحل: مرحلة الدعوة السرية، ثم الدعوة جهرا والتعرض للأصنام وبداية الصراع مع قريش، وهذه المرحلة تبدأ مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم في الكعبة. أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة اضطهاد قريش للمسلمين ومحاولتهم إغراء النبي للتخلي عن مهاجمة أصنامهم، وهجرة المسلمين إلى الحبشة جراء ذلك، تليها مرحلة حصار النبي وأهله في شعب أبي طالب ـ وقد أوضح الجابري صعوبة تعيين السور التي نزلت في هذه المرحلة-، وتأتي أخيراً مرحلة فك الحصار وعرض النبي نفسه على القبائل، ومن السور التي توفرت على إشارات إلى هذه المرحلة : الطارق، الجن، القمر، ص، الأعراف، الإسراء... الخ.
أما فيما يخص إعجاز القرآن، فقد عرض الجابري باقتضاب لبعض نظريات الإعجاز القرآني ولم يتوقف عندها طويلا، ولكنه انتقل للبرهنة على أن القرآن هو المعجزة الكبرى والوحيدة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون انشقاق القمر، أو الإسراء والمعراج معجزات حقيقية أصلا. ومن هنا انتقل إلى الدفاع عن صحة الوحي المحمدي وأنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب. ثم استطرد في هذا إلى الحديث عن تطور العلاقة مع أهل الكتاب في القرآن المكي، وقد كانت علاقة هامشية، ثم في القرآن المدني، إذ ابتدأ الجدل مع اليهود في المدينة قبل أن يتحول الجدل إلى صراع فجلاء لليهود عن المدينة، وحدث بعدها الجدال مع النصارى «وفد نجران».
القصص القرآني وتطور الدعوة المحمدية
أما القسم الثالث من الكتاب فمداره القصص القرآني أو القرآن/الذكر، وليس مقصود الجابري من هذا القسم ما قد يتبادر من عنوانه، أي سرد قصص الأنبياء كما جاءت في القرآن، بل مراده وغايته أن يتعرف على الدعوة المحمدية من خلال القصص القرآني، فهذا القصص"نافذة واسعة تمكننا من الإطلالة على جانب مهم من محيط الدعوة المحمدية.. نقصد علاقتها بتجارب الأنبياء السابقين مع أقوامهم، وهو من جهة أخرى خطاب جعل منه القرآن مسرحا لخطاب جدلي أبدي موجه إلى خصومه يطلب منهم استخلاص العبرة من تلك التجارب، وبالتالي فهو مكون أساسي من مكونات مساره التكويني" (ص257).
وقد اعتمد الجابري للوصول إلى غايته هذه عددا من القواعد: أولها: النظر إلى القصص القرآني باعتباره نوعا من ضرب المثل، والاقتصار على المادة التي يعطيها القرآن وحده، بغض النظر عن مسألة الحقيقة التاريخية؛ فبما أن الهدف الأوحد للقصص هو العبرة فلا معنى للبحث عن الصحة التاريخية لها. وآخر القواعد هو تتبع القصص القرآني حسب ترتيب النزول، وليس حسب ترتيب المصحف، وهذا التتبع لا يعنيه التسلسل الزمني لوقائع القصة، بل يعنى بعرض القصص كما تناولها القرآن منذ أولى السور التي تعرضت للقصص، ذلك أن القرآن "ليس كتاب قصص، بل كتاب دعوة يستعمل القص لأهداف الدعوة" (ص260).
ويمكن تصنيف القصص القرآني بحسب أغراضها وتبعا لترتيب نزولها في ثلاثة أصناف:
أ. صنف يتوخى توجيه الاهتمام إلى المصير الذي آلت إليه الأقوام التي كذبت رسلها. والمخاطب فيها هم خصوم الدعوة المحمدية من قريش، والمقصد الأساس من هذا الصنف هو تخويف هؤلاء وتحذيرهم من أن يلاقوا نفس المصير الذي لقيه أولئك الأقوام. ومعظم هذا الصنف يعرض لقصص «أهل القرى» ـ أي عاد وثمود ومدين وغيرهم ـ مع أنبيائهم.
ب. وصنف يهتم بالثناء على الأنبياء والتنويه بهم، وإبراز ما خص الله به كلاً منهم من آيات مبينة، والهدف إثبات صدق نبواتهم ورسالاتهم.
ت. أما الصنف الثالث فتختص به المرحلة المدنية، ويتميز بالجدل مع اليهود والنصارى حول تصورهم لله عز وجل، وإبراز عقوقهم وانحرافهم عن دين إبراهيم. هذا من حيث أغراض القصص القرآني، أما من حيث ترتيب النزول فيمكن التمييز بين ثلاث مراحل: مرحلتان مكيتان والثالثة مدنية.
المرحلة الأولى: تمتد من سورة الفجر وترتيبها 10 إلى سورة القمر وترتيبها 37، حسب الترتيب المعتمد لدى الأزهر وغيره. ويمكن التمييز في هذه المرحلة (5) بين قسمين: أحدهما يندرج تحت الصنف الأول وفيه ذكر قصص «أهل القرى» بإيجاز والتحذير من مصيرهم الذي آلوا إليه، والقسم الثاني يندرج تحت الصنف الثاني: أي التنويه بالأنبياء السابقين وما أوتوه من آيات ومعجزات.
المرحلة الثانية: وتمتد من سورة ص ورتبتها 38 إلى سورة العنكبوت وترتيبها 85 وهي آخر سورة مكية ورد فيها قصص. وعلى الرغم من أن هذه المرحلة تمتد من سورة ص فإن الجابري يتجاوزها إلى سورة الأعراف وترتيبها 39، حيث يرى أن سورة الأعراف قد شكلت نقلة نوعية على مستوى القص؛"ذلك أن القص المفصَّل، المستوفي لعناصره إنما يبدأ معها. فكثير من القصص التي سترد في السور اللاحقة هي إما تفصيل لبعض الجوانب المذكورة في هذه السورة، وإما صياغة لها جديدة حسب ما يقتضيه المقام. ففي هذه السورة نجد أنفسنا إزاء ما يشبه أن يكون مخططا لقسم كبير من القصص القرآني، يشمل قصص الأنبياء الذي لم يرد لهم ذكر في التوراة، كما يعرض لمعظم أنبياء التوراة" (ص291) وقد عرضت سورة الأعراف لأنبياء العرب البائدة ضمن سلسلة الأنبياء المذكورين في التوراة، متقيدة بالترتيب الزمني، انطلاقا من قصة آدم وإبليس وقصة نوح والطوفان، فعاد وثمود، ثم لوط وإبراهيم وشعيب، ثم قصة موسى مع فرعون، ومنها تخلص السورة إلى عرض مباشر لصراع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مع مشركي قريش.
ويُلحق بهذه المرحلة مجموعة قصص مستقلة نزلت جميعها بعد سورة الأعراف، ومعظمها لم يذكر إلا مرة واحدة في سورة بعينها من القرآن المكي، وبعضها عرض مجددا في القرآن المدني ولكن في سياق مختلف. وسياق هذه القصص جميعها يرتبط بذكر ما خص الله به أنبياءه من أمور خارقة للعادة، وأنها دلالة على قدرة الله على الإتيان بالآيات المعجزات، وأن الله خص محمدا بمعجزة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين هي القرآن، وذلك ردا على خصوم الدعوة المحمدية، الذين كانوا يطالبون النبي بمعجزات من جنس خرق العادة. فمن هذه القصص: قصة زكريا الطاعن في السن وامرأته العاقر إذ ينجبان، وقصة مريم إذ تحمل من دون أن يمسسها رجل (في سورة مريم)، ثم قصة يوسف، وقصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين في سورة الكهف.
أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة المدنية جملة. وفيها اتخذ القص القرآني شكلا جديدا ساد فيه الجدل مع أهل الكتاب. وقد ابتدأ الجدل مع أهل الكتاب في القرآن المدني مع اليهود، حتى إذا هجروا المدينة، انصرف القرآن إلى محاجة النصارى، خصوصا في مسألة التثليث. ولا بد من الإشارة إلى أن قصص القرآن المدني قد أصبحت أقل سردية من القصص المكي وساد فيها الخطاب الجدلي الذي يستعمل عناصر من القصص المكي، إضافة إلى قصص أخرى أو عناصر جديدة في قصص سابقة.
كما لاحظ الجابري أن لهجة هذا الخطاب قد اختلفت باختلاف الظروف والمناسبات، فقد بدأ الخطاب لينا وفاقا مع قوله تعالى في سورة العنكبوت عندما كان النبي بمكة يتهيأ للهجرة: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }العنكبوت: 46. ولكن عندما أخذ اليهود يستفزون المسلمين ويتحرشون بهم أخذت لهجة الخطاب تتدرج نحو الشدة والتعنيف، حتى انتهى الأمر بقيام صدام بين الطرفين انتهى بإجلاء اليهود عن المدينة نهائيا.
في النهاية، يمكننا القول بأن الجابري قد قدم في القسم الثالث من هذا العمل محاولة تستحق التأمل والنظر، إذ على الرغم من أنه قد سُبق من محمد عزة دروزة في محاولة فهم القرآن وتفسيره من خلال ترتيب نزوله، إلا أنه استطاع أن يوظف هذا الترتيب في تكوين صورة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها في فهم الرسالة القرآنية كما تطورت ونمت خلال العقدين ونيف من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الجابري قد نجح نسبيا في جعل النص القرآني معاصرا لنفسه، من خلال تتبعه للقصص القرآني، فإن هذا لا يعني أنه قد نجح تماما في جعله معاصرا لنا، إذ لا يكفي لتحقيق ذلك ـ برأيي ـ أن نفهم السيرة القرآنية، والمقاصد القرآنية في عصر الرسالة، بل ما يعنينا ـ ربما بالدرجة الأولى ـ الرسالة الأبدية والدعوة العالمية التي يحملها القرآن في طياته، والتي ينبغي أن نجدَّ في اكتشافها وفهمها، من أجل تحقيق الطابع العالمي والمطلق للقرآن الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــ
مدخل إلى القرآن الكريم: الجزء الأول في التعريف بالقرآن
محمد عابد الجابري
مركز دراسات الوحدة العربية، 2006
ــــــــــــــــــــــــ
* مراجعة أعدت لموقع "ببليوإسلام"
[1] وقد تورط الجابري أيضا في هذا الجدل مع بعض الكتابات والمقالات التي تنشر على الانترنت، بل لقد استقى عددا من معلوماته في هذا القسم عن مصادر غير موثوقة ولا دقيقة نشرت في الانترنت (مثل موقع المتنصرين) ونمت عن ضحالة معرفته بتاريخ الجدل بين المسلمين والنصارى، انظر مثلا هوامش ص 33. بل إن أهم نقيصة اعتورت عمله هذا هي فقره من جهة التوثيق، فمن ذلك أنه كثيرا ما استخدم عبارة «مصادرنا» من غير سابق إشارة إلى هذه المصادر أو تعريف بها.
[2] أهمل الجابري الحديث عن الوجود اليهودي قبل الإسلام في جزيرة العرب.
[3] على الرغم مما يكتنف بعض هذه الآراء من إشكالات، كالذي ذهب إليه من تخمينات تخص السور التي قيل أنه قد نسخت منها أيات كثيرة مثل سورة التوبة والأحزاب. (229-232)
[4] أما ترتيب المصحف فقد ذهب إلى أنه أمر اجتهادي قام به الصحابة متبعين معيار الطول والقصر في ترتيب السور، وهو رأي بحاجة إلى نظر ومناقشة، ليس هذا محله.
[5] يبدو أن خللا مطبعيا قد وقع في المطبوع فنسب هذا التقسيم إلى المرحلة الثانية والواضح من خلال الكتاب أن هذا التقسيم خاص بالمرحلة المكية الأولى.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.