تلعب السياقات، ببعديها السوسيولوجي والتاريخي، دوراً مهماً في إنتاج الأفكار والمفاهيم، وما كانت هذه، لتنشأ وتترعرع، دون سياقات «حاضنة» تتدافع فيها معادلات التحدي والاستجابة كي تنتج أفكاراً، سرعان ما تترجم إلى صياغات رمزية تنبثق منها الأطر البنيوية الخاص بكل مفهوم، فالمفهوم «ابن» زمنه، وابن بيئته.
بيد أن السؤال المهم هنا: هل يؤثر اختلاف السياقات، على تباين التركيبة النظرية والبنيوية للمفاهيم؟ وإلي أي مدى يكون هذا التأثير؟ وهو سؤال مفتاحي يصب مباشرة في استكشاف حقيقة عملية «نقل المفاهيم» وتبيئتها في شكل عابر للسياقات الزمنية والاجتماعية، وطبيعة الإشكالات التي قد تثيرها عملية النقل وإعادة التركيب بين سياقات مغايرة، قد تكون، أحياناً، مناقضة لبعضها البعض. وبالأحرى هو بحث في اكتشاف العلاقة «الجدلية» بين المفهوم والسياق، وما يخلفه ذلك من آثار على استخدام المفهوم وتجربته واقعياً.
هكذا حاول عبد الله العرويّ تقصي تداعيات اختلاف السياق، عند تناول المفاهيم الكلية للاجتماع البشري، كما فعل في أطروحتيه حول مفهومي الدولة والحرية، اللتين حاول من خلالهما تفكيك المعاني المتداولة لكليهما وطرق «تبيئتهما» في الواقع العربي.
وهو، إذ يؤكد دوماً على عدم انجراره للبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان أو مكان، وإنما «نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية»، فإنه يحاول إرساء لبنات منهج مقارن يبحث في «سوسيولوجيا المفاهيم»، يراعي فيه اختلاف السياقات والبيئات، ويحاول ترسيخ تلك المفاهيم الكلية، من دون إفراط، في البيئة العربية والإسلامية، ليس من منظور «توفيقي» أو «تلفيقي»، تغلفه الفلسفة المجردة والإيديولوجيا المغلقة، وإنما من منظور واقعي – مصلحي، ينطلق من الواقع والتجربة كأساس للنظر والتحليل.
وتتكشف ملامح هذا المنهج، وأنساقه، في شكل واضح عند تعرضه لمفهوم الحرية، والذي يقدم من خلاله نموذجاً حياً لكيفية تكييف العلاقة بين «السياق والمفهوم»، عند إجراء أية عملية لنقل المفاهيم بين العالمين الغربي والإسلامي.
فبعد عملية تفكيك سوسيولوجي، وتأصيل لغوي وفقهي، يخلص العرويّ إلى أن ثمة فارقاً كبيراً في مفهوم الحرية لدى الطرفين العربي والغربي، ليس فقط على مستوى البنى التركيبية للمفهوم، وإنما لاختلاف السياق الاجتماعي والتاريخي بين الطرفين. وهو إذ يؤكد قدرة المجتمعات العربية على إنجاز «حلم» الحرية، بيد أن ذلك لا يكون من خلال عملية نقل «أجنة» مفاهيمية لحاضنات مغايرة شكلاً وموضوعاً. وهو ما حدث في العالم العربي حين حاول مفكرو النهضة الأوائل في العالم العربي والإسلامي نقل مفهوم الحرية، بهيئته الغربية، إلى الواقع العربي من دون مراعاة لاختلاف السياق والظروف. ومرد ذلك ليس فقط، لعدم استيعاب المفكرين العرب والمسلمين الأوائل أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي لمفهوم الحرية في إطاره الغربي، وإنما أيضاً لعدم قدرة المجتمع العربي الإسلامي على فهم الحرية على النحو الذي خبرته شعوب أوروبا الغربية.
وبتطوير البنية التركيبية لمفهوم الحرية، يصل العرويّ إلى استنتاج حصيف يستخلص منه أنه ربما لم تعرف المجتمعات العربية الحرية «كواقع» اجتماعي، ولكنها أثبتت وجود «حلم الحرية» أو كما يسميها «طوبى الحرية»، أي استعداد المجتمع لقبول فكرة الحرية. ولا يمكن فهم منهج العرويّ في تناول مسألة الحرية من دون التعرف على نظرته لمفهوم الدولة، حيث يؤكد أنه لا يجوز طرح مفهوم الحرية، من دون التعرف الى طبيعة الدولة، وقد صدّر مؤلفه الموسوم «مفهوم الدولة» بمقولة شهيرة عن العلاقة بين الحرية والدولة، بقوله: «كل منا يكتشف الدولة قبل أن يكتشف الحرية، أو بعبارة أدق، تجربة الحرية تحمل في طياتها تجربة الدولة، لأن الدولة هي الوجه الموضوعي القائم، في حين أن الحرية «تطّلع» إلى شيء غير محقق».
ولا يخلو منطق العرويّ من حصافة حين يربط انسيابياً بين الحرية كواقع، والحرية كرمز ومفهوم، فيثبت أن العلاقة بين كلا المتغيرين عكسية، إذا ضاق مجال الأول «واقع الحرية»، زادت قوة الثاني (رمزية الحرية).
وبإعمال المنهج المقارن في تتبع سياقات «ظاهرة» الحرية كرمز وواقع، يتناول العرويّ مفهوم الحرية، أو بالأحرى الليبرالية في «قالبها» الغربي، وذلك لإقامة الحجة على كيفية تناولها في المجتمعات العربية، في محاولة «نقدية» جادة لإعادة النظر في الفكر الليبرالي العربي.
وهو في ذلك يقارن بين ما طرحه الفكر الليبرالي الكلاسيكي الذي يمثل جون ستيوارت ميل ذروة تشكُلّه من خلال مؤلفه الشهير المكنّى «في الحرية»، وما تناوله الليبراليون العرب الأوائل في كتاباتهم، من أمثال الطهطاوي والتونسي والكواكبي وعبده، ومن بعدهم أحمد لطفي السيد وتلاميذه طه حسين وحسين هيكل وطاهر الحداد.. إلخ.
والحجة الرئيسية التي يستند إليها العرويّ في عقد تلك المقارنة «التاريخية»، تتمثل بالأساس في مدى تحري المفكرين العرب للسياق الذي نبتت فيه فكرة الحرية، وهو هنا يشير إلى أن هؤلاء (المفكرين العرب) قد قفزوا بالتاريخ، من دون وازع أو تورع، تشبثاً بآخر مرحلة من مراحل التطور التي وصل إليها مفهوم الحرية في «سياقه» الغربي، وذلك من دون المرور بتحولاته الاجتماعية والتاريخية التي بلورت شكله النهائي.
لذا فقد قسّم العرويّ مراحل التطور التاريخي لمسألة الحرية (الليبرالية) في الفكر الغربي إلى أربع مراحل، الأوليى هي مرحلة «التكوين» التي تبلور خلالها مفهوم الذات «الفاعلة»، وهي التي سادت خلال القرون الأولى التي تشبعت بالفلسفة اليونانية.
والثانية مرحلة «الاكتمال» التي مهدت لنشوء علمي الاقتصاد والسياسة النظرية، وتبلور خلالها مفهوم الفرد «العاقل» المستقل. والمرحلة الثالثة هي مرحلة «الاستقلال» التي تبلور خلالها مفهوم «المبادرة الخلاقة»، التي أعطت أوروبا ميزة التفوق على غيرها من الأمم. ثم المرحلة الأخيرة هي مرحلة «التقوقع» التي تبلور خلالها مفهوم المغايرة والاعتراض، وهي مرحلة الخطر «الديموقراطي»، التي تصبح فيه حرية الفرد معرضة للنقصان بفعل سوط «الأغلبية» واستبدادها.
ولسوء الحظ، بحسب ما يقرر العرويّ، فقد جاء تعرّف المفكرين العرب على مسألة الحرية إبان مرحلتها الأخيرة، التي يعاني فيها المفهوم مخاطر جسيمة، بسبب التناقضات التي طرحتها الفكرة الديموقراطية وسيطرة الأغلبية داخل المجتمعات الغربية، وبالتالي لم يراع أيّاً من المفكرين العرب، السياق الذي «نبتت» فيه بذرة الحرية، وإنما سعوا مباشرة إلى قطف «الثمرة» من دون المرور بمراحل اختمارها وتكونها.
بكلمات أخرى، لم يدرك المفكرون العرب ذلك الفارق الكبير بين «ليبرالية القرن الثامن عشر وليبرالية القرن التاسع عشر» وهم يعيشون في القرن التاسع عشر، لذا لم يستوعبوا الحرية في مسارها التاريخي، وعليه فقد تحولت الحرية (الليبرالية)، في سياقها العربي «الجديد»، كي تصبح مجرد «شعار»، (وليس فلسفة)، يلهب حماسة الجماهير ويلبي حاجتها لتمثل الحرية بأي ثمن.
وتأسيساً على ما سبق، تبدو «أطروحة» السياق كما لو كانت عاملاً فارقاً في تبيّن الخصائص العامة لعملية نقل المفاهيم، وهو ما يؤكد صعوبة القيام بمحاولات لتأصيل المفاهيم «الإنسانية» في العالم العربي والإسلامي، من دون مراعاة لسياق نشأتها وتبلورها. وبالتطبيق على مسألة الحرية، يمكن الإشارة إلى عدة إشكالات فكرية ومفاهيمية هيمنت على «العقل» العربي، وعطّلت قدرته على فهم مسألة الحرية برمتّها، ولربما أضعفت التأصيل (وربما التنظير) الجاد لها واقعياً.
ولعل أهم هذه الإشكالات، تلك القطيعة (الفجوة) المعرفية التي وقع فيها المفكرون العرب حين انتزعوا مسألة الحرية من سياقها الأوروبي، وحاولوا غرسها في الواقع العربي من دون تحري لاختلاف السياق والظروف. فكانت وجهتهم نحو ذلك الواقع «الاستبدادي»، ببعديه الديني والسياسي، مع إغفال السياق المجتمعي الذي تعيشه الشعوب العربية، والذي لم يهضم مسألة الحرية في «نسختها» الغربية.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.