يسعى دعاة الحوار، من مسلمين ومسيحيين، في الوقت الحاضر، وهم يتناولون القضايا الهامة الراهنة, إلى تأسيس أرضية معرفية لحوار علمي أوضح منهجاً, وتواصل ثقافي أكبر فائدة, يُخرج الفكر من الصراع إلى التحاور والاعتراف بحق الآخر في التعبير عن رأيه, وينضج الخلاف ليغدو اختلافاً يرفد الفكر بالتنوع والرؤى المتكاملة. كما يهدف الحوار إلى كسر الحواجز بين التيارات الفكرية المتعددة, وإلغاء احتكارات المعرفة, وتعويد العقل على الحوار وقبول الآخر, والاستماع لوجهة نظره ومناقشته فيها, واستيلاد أفكار جديدة تنشط الحركة الثقافية وتنمية الإبداع.
تبحث هذه الحوارية في الإشكالات التي واجهت، ولا تزال، الحوار الإسلامي المسيحي من الأحكام المسبقة عن الدينين، والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، المنبعثة عن الاعتقادات الخاطئة والفهوم المغلوطة. فيبحث الكاتبان المنتميان إلى تيارين متباينين في طبيعة الحوار وأهميته وفوائده، والعوائق والعقبات التي تقف في سبيله، وآفاق استمراره وتطويره.
أهمية الحوار الإسلامي - المسيحي وفائدته
يفتتح (النيفر) بحثه بالتساؤل عن أهداف الحوار بين المسلمين والمسيحيين وفائدته, ويحاول تقديم الإجابة عنها من خلال بحثه في جدارة المسلمين اليوم في الحوار. وينحي باللائمة على تراجع نتائج هذا الحوار وأهميته بين الطرفين على (الطرف المسلم)، والذي اعتمد في مقاربته للحوار مع الطرف المسيحي على «خطاب دفاعي تختلف درجة عاطفته المنافحة عن الإسلام من باحث إلى آخر, إلا أنه في الغالب يجعل عموم الباحثين المسلمين في سياق من يريد إفحام الخصم» (ص21). مما يثير, في نظر (النيفر), خيبة أمل كبيرة «ذلك أنه خطاب فات زمانه, وهو عندما يستعمل اليوم يضيع على المسلمين الفرصة في أن تكون لهم مكانة الفعل في العالم» (ص21). ويرى (النيفر) أن معضلة هذا القصور في الخطاب الإسلامي الراهن تكمن في عدم إمكانية كشفه وانحساره دون مواجهة نقدية كالتي يوفرها الحوار مع الآخر المسيحي.
ويوضح مخاطر التوقف عن الحوار والمتمثلة في تكرار إنتاج الخطاب نفسه بصورة تزداد حدتها طرداً مع ازدياد الضغوط والعثرات. وبالتالي «يكون حوار المسلمين مع المسيحيين في ظاهره حواراً مع الآخر, لكنه في العمق حوار مع الذات, قصد امتلاك آلية نقدية تؤهل ثقافة المجتمع لإنتاج قيمي متناسب مع مقتضيات العصر في المستويات المادية والعقلية والروحية» (ص25).
موقف الطرف الإسلامي من الحوار
ويشير (النيفر) إلى أن معالجة الحوار في الطرف المسلم تعتمد إحدى قراءتين: فهي إما أن تكون قراءة رافضة للحوار باقتصارها على مبدأ التحريف الذي وقع فيه النصارى بحسب النص القرآني. أو أن تكون قراءة مقبلة على الحوار في نزعة دعوية آملة في أن يفضي إلى "هداية" الطرف الآخر على اعتبار أن الإسلام هو دين الفطرة. في الوقت الذي كان من المفترض فيه، حسب وجهة نظر (النيفر)، أن يتبع الطرف المسلم المقولة القرآنية التي تمثلها عبارة (كلمة سواء)، في حين أن الطرف المسيحي قد قطع شوطاً كبيراً في الحوار من خلال تمثل القيم الدينية للمسلمين.
موقف النخب من الحوار
ثم يتطرق (النيفر) لموضوع النخب المثقفة والحاكمة في علاقتها بالحوار بأبعاده المختلفة, فيرى أن "مأساة النخب", تحديثية كانت أم أصولية, ليست في المشاريع التي تبشر بها, ولكن في تماثل القاع الثقافي الذي تستند إليه, قاع رافض للحوار, منتج للتمزق, وحائل دون الاستقلال الثقافي والسياسي. إلا أنه لا ينكر أثر عوامل أخرى في إبطاء عملية الحوار كالنزاعات التي وقعت بين الطرفين عبر التاريخ، وانخراط الطرف المسلم في العصر الحديث في معركة التحرر والاستقلال، إلا أنه ومع ملاحظة ذلك، يشيد بالجو المغاربي للحوار وتمتعه بمستى أقل من الحساسية تجاه الأزمات التاريخية، لقلة الجاليات المسيحية التي تعيش فيه، وانفتاحه الأكبر على الآخر عبر الهجرة إلى أوروبا، متحدثاً عن تجربته الشخصية في الحوار الإسلامي المسيحي من خلال (فريق البحث الإسلامي المسيحي) عارضاً لأهم منجزاتهم ومؤتمراتهم ومنشوراتهم.
عيسى عليه السلام في الخطاب القرآني
يقدم (النيفر) بعد ذلك مداخلة خاصة في سبيل تقريب أسس الحوار بين المسلمين والمسيحيين، فيعرض قراءة لشخصية النبي عيسى، عليه السلام، قائمة على مراعاة المنطق الداخلي للبنية القرآنية, دون نسيان ضرورة إجراء ما تستلزمه تلك البنية من مراجعات لما وقع إرساؤه في القراءة التقليدية للموضوع نفسه، في ظل ندرة الدراسات الإسلامية حول هذا الموضوع بالذات. فقد ذهب (النيفر) في قراءته إلى أن شخصية عيسى القرآنية ماثلة في ثلاثة مجالات, يرتبط كل منها بمحور معين, كما يكوّن كل مجال مع المجالين الآخرين نسقاً واحداً تتحدد من خلاله المنظومة الروحية والعقائدية المميزة للخطاب القرآني, أول هذه المجالات «يتجلى فيه السيد المسيح على الصعيد التاريخي المباشر, حيث يظهر المسيح في علاقته بخصوم من اليهود الرافضين لدعوته والطاعنين في صدق والدته, هذا من جهة, كما يبرز عيسى من جهة ثانية في تلك الساحة نفسها ضمن العلاقة بمن كان من أتباعه قد قاموا بالتبديل والتغيير في دعوته» (ص96). في هذا السياق، يبرز حضور عيسى عليه السلام «ضمن صراع عقدي مزدوج تغذيه تناقضات تاريخية مختلفة يعمل النص القرآني على تجاوزها عبر نقطة الارتكاز التي تؤول إليها كل خطوط هذا المجال الأول, وهي عبارة الحق» (ص97).
ويتصل المجال الثاني بولادة المسيح ومعجزاته, ثم بوفاته, ويتعلق بالجانب العجائبي من حياته وفي مواقف خاصة من دعوته. ضمن هذا المجال «تبرز الفاعلية الإلهية في سياق الأحداث, تخترقها لتصوغ منها ما يسميه القرآن دفع الله» (ص98). أما المجال الثالث، فهو الذي يستعرض فيه القرآن مجموعة من الرسل السابقين والذين يكونون مع عيسى عليه السلام بمثابة التمهيد لظهور الرسالة الخاتمة. ويرتكز هذا المجال الرسالي على مفهوم (الرحمة)، تلك القيمة التي تحدد طبيعة علاقة الله بالعالم والناس، ليخلص النيفر إلى عدّ شخصية السيد المسيح في الخطاب القرآني «جزءاً أساسياً من البنية القرآنية العقدية, ومن بعدها الروحي, ومن تفسيرها للتاريخ الديني والإنساني» (ص100).
ثم يختتم (النيفر) بحثه ببيان أن المقصود من متابعة الفهم والإنصات ليس القياس على ما يتحقق لدى المسيحيين, إنما الغاية إحداث ترابط بين الفهم الداخلي للموضوع وضرورة المراجعات التي يقتضيها وبين رديفه المتعلق بالفهم المسيحي، قصد التمكن من خصوصيات الفكر الديني المشترك ووجهته وما يمليه من معالجات ضمن المجال الديني الخاص, بحيث «تصبح خصوصيات الفكر المسيحي القديمة والحديثة مكسباً معرفياً ودينياً» (ص125).
أبعاد جديدة للحوار بين المسلمين والمسيحيين
يتحدث الأب (بورمانس) في مفتتح بحثه عن دعوة المجمع الكنسي الكاثوليكي للحوار مع الديانات الأخرى وخاصة المسلمين, فيرى أن الحوار ضرورة ملحة «تتطلبها ظروف عالمنا المتغير والمتجدد, من جراء تحديات الحداثة والعولمة وكثرة التبادلات الثقافية والتقنية» (ص129), فقد أضحى الحوار الإطار العام لجميع اللقاءات بين البشر وخاصة بين المؤمنين. ويستعرض (بورمانس) تاريخ الحوار بين المسيحيين والمسلمين منذ أربعين سنة، مبدياً ملاحظاته عليها، إذ لم تكن تلك اللقاءات تبحث في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين إلا على المستوى الحضاري أو التاريخي أو الثقافي أو السياسي. فيرى الحاجة ماسة إلى نوع خاص من اللقاءات ذات الطابع غير النخبوي «يشترك فيها مؤمنون من كلا الديانتين الكبيرتين، تحدوهم رغبة في التعبير عن إيمانهم الأصيل وتجربتهم الدينية, ويدفعهم شوق إلى الاستفادة مما لدى الطرف المقابل من إخلاص في الإيمان وصدق في ممارسة الدين ووفاء لسننه وقواعده» (ص139).
بعد ذلك يعرض (بورمانس) لموقف المسيحي الملتزم في الحوار مع المسلمين والذي يجد فيه سنة ممعنة في القدم تعود إلى السيد المسيح نفسه، فالحوار، من وجهة نظره، هو وجه من وجوه التعاون الإنساني الضروري تجاه التقدم والازدهار في المجتمع البشري. ولا يسنى أن يسوق من النصوص الكنسية والإنجيلية ما يدعم وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية بالذات في سعيها للحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وخاصة المسلمين. ويلح (بورمانس) على مواطن التلاقي الممكن فيما يعيشه المسيحيون والمسلمون وما يعانونه, وما يبينونه، ويحدد المجال التصوفي كساحة مهمة في هذا الصدد لتحقيق الإثراء الروحي بين الطرفين المتحاورين.
ويعرض (بورمانس) للصعوبات الموضوعية التي يراها عوائق في سبيل التلاقي والتفاهم, متمثلة أولاً في مشكلة المحرمات الغذائية والشرابية لدى الطرفين، وهنا يدعو إلى أن يحترم كل واحد الآخر في قراره الخاص والحر, وثانياً في الزواجات المختلطة بين المسلمين والمسيحيين والتي تستوجب ضرورة إعادة النظر في القوانين التي تضر تلك الزيجات, ثالثاً واجب الدعوة والتبشير، والذي طالب بخصوصه كلا الطرفين أن يوضحوا الطرائق والوسائل والأهداف لجهودهم, تجنباً لوقوع الصدام بين الطرفين. أما أعظم المشاكل وأخطرها في هذه الآونة، من وجهة نظره، فهو «سوء الفهم الذي ازداد عمقاً بين المجتمعات الإسلامية، وبالأخص منها العربية، والدول الغربية المتقدمة» (ص177).
ثم يتلو ذلك تعقيب كلا الباحثين على أبحاث بعضهما, ففيما أيّد (النيفر) (بورمانس) في حديثه عن القيم المشتركة بين المسيحية والإسلام, فقد أكد على أن المسعى التبشيري الذي تميز به الآباء البيض لم يحل دون انفتاحهم إبان تبشريهم في إفريقيا على الطرف المسلم دون أن يشكل عقبة حقيقية في طريق الحوار, ويؤيّد (النيفر) فكرة ضرورة اضطلاع الجانب المؤسسي في شؤون الحوار بين الطرفين، وهو الأمر الذي حقق للجانب المسيحي طفرة نوعية على صعيد تجديد التوجهات والأفكار وتقييمها، وهو ما يرى (النيفر) أن العالم العربي يفتقد إليه.
بينما أيّد (بورمانس) في تعقيبه على بحث (النيفر) في تحليله لإمكانيات الحوار، إذ يتساءل في جدارة المسلمين, وفي عرضه للعوامل السلبية والايجابية التي تجعل إشكالية الحوار من أشد التحديات التي تواجهها اليوم النخب المسلمة, فالمسيحيون في رأيه واعون بهذه الظروف الراهنة والعوائق الدائمة، راجياً من المسلمين أن ينجحوا في إقناع من يرفض الحوار منهم, ثم يشكر الأب (بورمانس) (النيفر) على عرضه لشخصية المسيح في القرآن الكريم متسائلاً في الوقت ذاته عن السبب الذي جعل (النيفر) يقتصر في عرضه على النصوص التي وردت في القرآن دون إيراد نصوص مشابهة من السنة النبوية لكي تتمم وتكمل بعض الجوانب الأخرى لهذه الشخصية، إضافة إلى الأناجيل الأربعة وما ورد فيها من تعاليم المسيح ببعض المكملات المقبولة لهذه الشخصية.
يظهر لنا هذا التشخيص للحوار الإسلامي المسيحي أن البلدان العربية والإسلامية قد تأخرت كثيراً في التوجه إلى الحوار مع الآخر باعتباره أحد المعابر الضرورية لنمو الوعي الديني لدى المسلمين, وأحد عناصر الثراء الفكري والوجداني للإنسانية, الأمر الذي يحث المسلمين على ضرورة مواصلة السعي قصد اكتشاف الدواعي الإيمانية الأكثر صحة, وبنائها بأكثر الوجوه وضوحاً ومعاصرة, ويحفزهم في الآن نفسه إلى الحرص على مواكبة ما فُرض على الضمير المسيحي الغربي من تطورات أملتها التحديات الفكرية والحضارية الضخمة ولزوم الوعي بها, وهو بُعد آخر في مجال التعريف بأهمية الحوار الإسلامي المسيحي اليوم.
بيد أن أسلوب جلد الذات الذي اتبعه الطرف المسلم في بحثه لمستقبل الحوار مع الطرف المسيحي لا يكاد ينفع سواء مع رافضي الحوار برمته، أو مع متبنيه كبروتوكول شكلاني سنوي من قبل الجانب المسلم، والأمر يحتاج مزيداً من الجهد لإقناع المسلمين بأهمية الحوار وفوائده وضرورته الدينية والدنيوية على حد سواء، دون التغاضي عن دور الطرف المسيحي في تسهيل مهمة الحوار ومباشرته لدى المسلمين من خلال تخليص الذاكرة الجمعية المسلمة مما تزخر به النزعة التبشيرية الغربية من عدائية وتعال كان وراء غزو معظم البلدان الإسلامية والعربية في العصر الحديث.
ـــــــــــــ
(*) أعدت هذه المراجعة لموقع ببليوإسلام
عنوان الكتاب: مستقبل الحوار الإسلامي – المسيحي.
المؤلف: د. أحميدة النيفر – الأب الدكتور موريس بورمانس.
الناشر: دار الفكر, دمشق, ط1، 2005م.
عدد الصفحات: 254.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.