تمثل مؤلفات العلامة الراغب الأصفهاني -المتوفى في القرن الخامس الهجري- نموذجاً في الإتقان والإبداع العلمي والاستقلال الفكري، فكل ما وصلنا من كتبه يشكل إضافة نوعية في مجاله، لاسيما كتابه مفردات ألفاظ القرآن وما وصل من تفسيره، وترجع أهمية كتب الراغب لما تمتع به من استقلال فكري جعله من المجتهدين الذين سجلوا إضافات فيما كتبوه، فهو من جهة يحيط بمصادر المعلومات ويستحضرها عند التأليف، لكنه يتجاوزها إضافة أو ترجيحاً، كما أنه يأخذ من الجميع وينقد الجميع، حتى لم يستقر رأي في نسبته إلى مذهب فقهي أو عقدي بعينه، فتنازعته تيارات السنة والشيعة والمعتزلة والتصوف، مع اعتراف الجميع بفضله ومكانته العلمية، وهذا يدل على استقلاله الفكري، ومكانته العلمية.
ويعتبر كتابه (الذريعة إلى مكارم الشريعة) من الكتب المهمة والأساسية في تأصيل النظرية الأخلاقية عند المسلمين، وهو كتاب صغير الحجم، مركز العبارة، وقد نقل صاحب كشف الظنون أن الإمام الغزالي كان يستصحب كتاب الذريعة دائماً ويستحسنه لنفائسه, والغزالي عموماً متأثر بكتب الراغب وينقل عنها.
وقد ألف الأصفهاني كتابه لبيان مكارم الشريعة التي يستحق بها الإنسان أن يوصف بكونه خليفة الله، وحدَّ المكارم المطلقة بأنها "اسم لما لا يتحاشى من أن يوصف الباري جل ثناؤه بها أو بأكثرها نحو الحكمة والجود والحلم والعفو وإن كان وصفه تعالى بذلك على حد أشرف مما يوصف به البشر" وهي تقابل الأحكام والعبادات والتي لا يصح أشرفها إلا بطهارة الجسم، وكذلك خلافة الله لا تصح إلا بطهارة النفس، فكان كتابه ذريعة إلى مكارم الشريعة، والذي يجيب فيه على السؤال: "كيف يصل الإنسان إلى منزلة العبودية التي جعلها الله تعالى شرفاً للأتقياء، وكيف يترقى عنها إذا وصلها إلى منزلة الخلافة التي جعلها الله تعالى شرفاً للصديقين والشهداء؟ فبالجمع بين أحكام الشرع ومكارمه علماً وإبرازهما عملاً يكتسب العلى ويتم التقى وتبلغ إلى جنة المأوى"، وكأن الأصفهاني سبق الغزالي في التنبه إلى أهمية الأخلاق والعمل والحذر من مغالاة الفقهاء في تنميط وإتقان الأحكام الظاهرة مع الغفلة عما هو أهم من الأحكام وهو الأخلاق أو المكارم كما يسميها، والراغب يركز على ثنائية الإيمان والعمل والأحكام والمكارم في أكثر من مكان من كتبه، نجد ذلك ظاهراً في تفسيره وفي كتابه المفردات.
وينطلق لتأصيل هذه الثنائية بتحديد ماهية الإنسان المركبة من جسم ونفس، وما يتمتع به من قوى مدركة حسية أو روحية، فضل بها على الحيوان، ليصل إلى تحديد الفعل المختص بالإنسان في ثلاثة أفعال ذكرها الله تعالى، وهي:عمارة الأرض المذكورة في قوله:"واستعمركم فيها"، والعبادة المذكورة في قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" والخلافة المذكورة في قوله تعالى: "ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون".
والخلافة إنما تستحق بالسياسة وذلك بتحري مكارم الشريعة، "والسياسة ضربان: أحدهما سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به، والثاني سياسة غيره من دونه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه، ولهذا ذم الله تعالى من ترشح لسياسة غيره فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وهو غير مهذب في نفسه فقال:"أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"..أي هذبوها قبل الترشح لتهذيب غيركم، وبهذا النظر قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا، وتنبيهاً أنكم لا تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه والسياسة العامة ولأن السائس يجري من المسوس مجر ذي الظل من الظل، ومحال أن يعوج ذو الظل ويستقيم ظله، ولاستحالة أن يهتدي المسوس والسائس ضال".
ويحدد المكرمة بأن مبدأها طهارة النفس بالتعلم الذي ينتهي إلى الحكمة، واستعمال العفة التي توصل إلى الجود، واستعمال الصبر الذي يقود إلى الشجاعة والحلم، وباستعمال العدالة تصحح الأفعال، ومن حصل كل ذلك فقد تدرع بالمكرمة المعنية بقوله تعالى:"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وصلح لخلافة الله عز وجل.
والعبادة أعم من المكرمة، فكل مكرمة عبادة وليست كل عبادة مكرمة، فللعبادات فرائض معلومة وحدود مرسومة وتركها ظلم وتعد، والمكارم بخلافها، فتحري العبادات من باب العدالة وتحري المكارم من باب الافضال والنفل، ولا يقبل تنفل من أهمل الفرض، ولا يفضل من ترك العدل، وقد أشار الله بالعدل إلى الأحكام وبالإحسان إلى المكارم، بقوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان".
والخلافة هي الاقتداء به تعالى على الطاقة البشرية في تحري أفعاله الإلهية، لذلك لا يصلح للخلافة من لم يكن طاهر النفس، فطهارة النفس شرط لطهارة القول والفعل، فلا يصلح لخلافة الله ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس، وقد أزيل رجسها ونجسها، وقد أشير إلى الطهارتين بقوله تعالى:" وثيابك فطهر والرجز فاهجر" وكنى بالثياب عن البدن .
أما مطهرات ما في النفس فيحددها في العلم والعبادة، وما يحتاج إلى التطهير هو القوى الثلاث: قوة الفكر بتهذيبها حتى تحصل الحكمة والعلم، وقوة الشهوة حتى تحصل العفة والجود، وقوة الحمية حتى تحصل الشجاعة والحلم، ويتولد من اجتماع ذلك العدل، فجميع الرذائل تنبعث من فساد هذه القوى الثلاث.
بناء على هذه الأسس يبني الراغب الأصفهاني كتابه مبيناً طرق تحصيل مكارم الشريعة وصلتها بأحوال الإنسان وقواه، فيفصل الكلام عن العقل والعلم والنطق وما يتعلق بها وما يضادها، وكذلك ما يتصل بقوى الإنسان الشهوية والغضبية، ويفصل الكلام عن العدالة والظلم والمحبة والبغض، وما يتعلق بالصناعات والمكاسب والإنفاق والجود والبخل، وأنواع الأفعال وما يستحق منها الدح أو الذم.
إن هذه الأسس تكشف عن غاية الأخلاق عند الراغب الأصفهاني فهي اقتداء بالخالق سبحانه بقدر الوسع البشري، وبالتي فلا سقف لها من حيث السمو والارتقاء، وهي ضمان السعادة الدنيوية إذ بها تنتظم عمارة الأرض وبها ينال الإنسان شرف الخلافة.
ويتضح من كتابه أنه يميز بوضوح بين الخلق وبين غيره من صفات الإنسان : كالسجية ، والإنسانية ، والعادة ، والمروءة ، والظرف ، والفتوة، ويعتبر أن الإنسان في صراع مع الهوى غالب أو مغلوب أو مغالب، والمكارم والفضائل يمكن تحصيلها بتحريها، كما يطيل الحديث عن قوى الإنسان وما يرجع إليها من فضائل أو رذائل وكيف يمكن أن يتخذ الإنسان سبيله فيها.
هذا ولا يخفى على القارئ حضور النص القرآني والشواهد النبوية -التي يرويها بالمعنى أو يتساهل في التدقيق في نصوصها وأسانيدها -كمرجع وشاهد في تنظيره وتأصيله لمكارم الشريعة، كما نلمح حضوراً لشواهد من الكتب السابقة وأخبار الفلاسفة والحكماء، كما أن الكتاب يكشف عن علمه بالفلسفة وبمذاهب المتكلمين، لكنه كان لا يخوض في المسائل الكلامية ويكتفي بعرض الخلاف فيها، بينما يتعمق في تأصيل المسائل قرآنية، وبالأخص تلك التي تستند إلى دلالة مفردات الألفاظ التي تميز بها.
ألف الأصفهاني كتابه لبيان مكارم الشريعة التي يستحق بها الإنسان أن يوصف بكونه خليفة الله، وهي تقابل الأحكام والعبادات، وكأن الأصفهاني سبق الغزالي في التنبه إلى أهمية الأخلاق والعمل والحذر من مغالاة الفقهاء في تنميط وإتقان الأحكام الظاهرة مع الغفلة عما هو أهم من الأحكام وهو الأخلاق أو المكارم كما يسميها،
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.