كلما جمعتني الأقدار مع العرب والمسلمين في المغترب رأيتهم انهالوا على أنفسهم بسيل من التهم والشتائم "الحضارية" و "المدنية" –دون إشارة إلى الدور الحضاري للمتكلم ولا المستمعين-حتى يخيل للسامع أن الوضع المعاش قدر أبدي محتوم لا مفر منه وكأننا قبائل همجية لم يكن لنا ذات يوم دور في تشكيل الحضارة التي استلم دفتها غيرنا، ولقد انتقلت العدوى لأبنائنا والجيل الجديد بحيث ترى في عين بعضهم نظرة "استعلائية" حتى على آبائهم فكثيراً ما سمعت من هذا البعض قولهم "هؤلاء عرب أو آراب" بصيغ استهزائية ودونية لا يرضى عنها شرع ولا عرف، ولا تربية، ولا حتى منطق التاريخ، ولكن ما يثير استغرابي هو أن نفس الجمهور الذين استهواهم "جلد الذات الحضارية" تراهم يتصدرون المسيرات والمظاهرات في حال قام أي مستشرق أو مستغرب أو صاحب قلم موتور بشتم الأمة وحضارتها ودينها، بشكل محيّر، نحن إذاً أمام "إشكالية التحيز"، تحيز الغرب في تأريخه للعلم الذي لم يفهم أبنائنا دورنا الحضاري، وتحيز أبناء جلدتنا تارةً لانتصارات الحضارة الغربية دون فهم دورهم الحضاري الحقيقي، في نهل المعرفة وتثقيف أبناء أمتهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً وأدبياً وفنياً، ولكنهم اكتفوا بأخذ مواقعهم "المتواضعة" على الخارطة "المالية" للحضارة الغربية باعتبارهم "مشاريع فردية " بحيث أصبح معظمهم "حرفياً" دون رؤية استراتيجية لدوره الحضاري مكتفين بنظرة "استعلائية" على أبناء أمتهم.
لقد أضاع معظمنا "بوصلته الحضارية"، وما يجب التنبيه إليه هو أن مهمتنا وأبنائنا لا تنتهي باستلامنا الجنسية "الغربية" ، لا بل علينا أن نكون صلة وصل حضارية بين عالمنا العربي والإسلامي والغرب الذي تفضل مشكوراً باحتضاننا.
لنقتد بعلماء أوربة الذين استلموا مشعل الحضارة والتقدم العلمي من المسلمين عن طريق إسبانيا وإيطاليا. والحقيقة رغم شغفي بالتاريخ لكنني لا أحب التركيز عليه خشية الاتهام بأنه مجرد وقوف على الأطلال لا يقف عندها إلا الحالمين، لكنني أجدني مضطراً هنا لتذكير الآباء والأبناء بدورنا الحضاري –ولو مرة واحدة- ليس للاستكانة لها بل أملاً في استعادة البوصلة الحضارية، ولعل تنشيط الذاكرة التاريخية تحفز وتستنهض همم أبناء "الأمة النُخبة" في استعادة دورهم الحضاري من جديد.
يستحب التذكير قبل الدخول في موضوع تحيز التأريخ الغربي أن ذكر كلمة العرب تقابل كلمة المسلمين في النصوص التي سترد تباعاً، لأن اللغة العربية هي لغة الحضارة الإسلامية وساهمت فيها جميع الملل والنحل لكن كلهم استخدموا رسم لغة القرآن العربي في التعبير عن منجزات هذه الحضارة.
يصعب على المتأمل والمهتم بالدراسات الحضارية التسليم بتلك القطيعة التاريخية المعرفية (الابستمولوجية) التي يفرضها بعض علماء التاريخ في الغرب – وبعض المستغربين من أبناء جلدتنا – عندما يؤرخون للحضارة الإنسانية، ويدّعون الفهم لحضارات الآخرين بتعال جليّ، وإنكار لـ"الجميل" الحضاري، بروح تجافي العلم، وبالأخص عندما يصلون إلى دراسة حلقة الحضارة العربية والإسلامية، حيث تشوب دراستهم إما تشويه ظاهر، أو إغفال مجحف، أو تهميش للدور الحقيقي الذي أنيط بها في بناء صرح الحضارة الإنسانية.
إن المنصفين من علماء الغرب من أمثال الأستاذ سنجر فهم أن : "الحضارات تكونت معتمدة كل منها على الآخر بصورة ما، وهي في الحقيقة ليست إلا أدواراً حضارية في حركة واحدة في تطور البشرية وأنه ينبغي لنا إذا أردنا أن نفهم الدور الأوربي من أدوار الحضارة أن نرجعه إلى أصوله، وهذا الأمر لا نستطيع تحقيقه إلا من خلال القرون الوسطى فقط"(1) إن هذا القول الحق يؤكده بجلاء الأستاذ غوستاف لوبون، حيث يؤكد على جحود الغرب لإظهار مدى تأثير الحضارة العربية والإسلامية على الحضارة الأوربية، حيث يقول: "إذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة أن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والأدب في الزمن الماضي أدركنا بسهولة سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربا...ويترائى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أوربة النصرانية مدينة لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش، فعار كهذا لايقبل إلا بصعوبة" (2)، بل ويقر بعض العلماء الغربيين بأبعد من ذلك إلى حد القول بأن الحضارة الغربية مدينة بوجودها للحضارة الإسلامية كما يذكر الأستاذ كويلر يونغ أستاذ العلاقات الأجنبية في جامعة برنستون في واشنطن، حيث يقول: "إن كل الشواهد تؤكد أن العلم الغربي مدين بوجوده إلى الثقافة العربية والإسلامية، كما وأن المنهج العلمي الحديث قائم على البحث والملاحظة والتجربة والذي أخذ به علماء أوربا، إنما كان نتيجة اتصال العلماء الأوربيين بالعالم الإسلامي عن طريق دولة العرب في الأندلس"، وقد قال الأستاذ يونج أيضاً في محاضرته التي ألقاها في مؤتمر الثقافة الإسلامية الذي عقد برعاية جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس في واشنطن عام 1953 وتحت عنوان "أثر الإسلام الثقافي على المسيحية":
" وبعد فهذا عرض تاريخي قُصد به التذكير بالدَين الثقافي الذي ندين به للإسلام منذ أن كنا نحن المسيحيين داخل هذه الألف سنة نسافر إلى العواصم الإسلامية وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم العلوم والفنون وفلسفة الحياة الإنسانية، ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدّينا ماعلينا بربحه، ولكنا سنكون مسيحيين حقاً إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا بحب واعتراف بالجميل"(3)
كذلك يؤكد بريفولت أن العلم الغربي مدين للعلم العربي (المقصود به في زمن الحضارة الإسلامية الناطقة باللغة العربية) بوجوده نفسه حين يذكر ذلك في كتابه "بناء الإنسانية": "إن مايدين به علمنا لعلماء العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده نفسه، إنما ندعوه العلم اليوم ظهر في أوربا نتيجة لروح بحث جديدة ولطرق الاستقصاء مستخدمة لطرق التجربة والملاحظة والمقاييس، ولتطور الرياضيات إلى صورة لم يعرفها اليونان، وهذه الروح وتلك المناهج العلمية أدخلها العرب إلى العالم الأوربي"(4) ويقول في مكان آخر في كتابه الآنف الذكر: "إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على معلميه العرب في الأندلس، وليس روجيه بيكون ولالسمّيه الذي جاء بعده الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربة المسيحية، وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة"(5) لذلك ليس مستغرباً قول غوستاف لوبون: "إن الغرب وليد الشرق، ولايزال مفتاح ماضي الحوادث في الشرق، فعلى العلماء أن يبحثوا عن هذا المفتاح فيه" ويضيف قائلاً: "كلما أمعنا في دراسة حضارة العرب وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان مارأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأنهم هم الذين مدّنوا أوربة مادة وعقلاً وأخلاقاً، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ماأنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الإبداع الفني، وتأثير العرب عظيم وهو في الشرق أشد وأقوى"(6)
كما كان للأستاذ مونتغمري واط موقف مشابه في كتابه "أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوربا" حيث قال: "إن الفكر العربي قدم للأوربيين مادة جديدة،وفتح أمامهم فضلاً عن آفاقه الرحبة عالماً كاملاً جديداً من الميتافيزيقيا، وإن المؤلفات المترجمة كانت معروفة لكافة تيارات الفكر الأوربي" (7)، ولما كانت للثقافة الإسلامية هذه المنزلة الرفيعة كإحدى المؤثرات الأساسية والدعائم الرئيسية في بناء الحضارة الإنسانية، كان علينا إبرازها بشكل جليّ، وإيلائها الأهمية التي تستحقها، وهذا هو عين ماطرحه الأستاذ إدوارد بروي أستاذ تاريخ الحضارات في جامعة السوربون في باريس، حيث يقول: "لابد وأن يحتل عالم التاريخ الإسلامي محلاً مرموقاً في ثقافة رجل العصر، كما كان لابد لرجل العصر هذا أن يفهم جيداً أن المدنية لايقتصر مدلولها على شعب أو بلد متميز في الزمان، وعلى رجل العصر أن يعرف جيداً أنه قبل "توما الأكويني" الذي رأى النور في إيطاليا، طلع ابن سينا المولود في إحدى مقاطعات التركستان – وأن مساجد دمشق وبغداد وقرطبة ارتفعت قبابها قبل كاتدرائية نوتردام في باريس بزمان، وعلى رجل العصر ألا ينتقص من شأن العالم العربي والإسلامي، بل علينا اعتبار هذا التاريخ من صميم التاريخ الإنساني المتنوع في الأزمنة والأمكنة والذي لايزال على الرغم من جزئياته وخصائصه تاريخ هذه البشرية جمعاء"(8) لذلك ليس تألياً على الحق وصف "جواهر لآل نهرو" لهم بأنهم "يدعون بجدارة آباء العلم الحديث"(9).
لقد تمت عملية الإخصاب بين الفكر العربي البالغ كمال تطوره وبين العقل الأوربي، وقد تلمس طرق يقظته في البداية عبر منطقتين في اسبانيا (711-1492م) وجنوب إيطاليا خصوصاً في عهد ملوك النورمان وأشهرهم روجار الثاني(1157م)، وفريدريك الثاني (1250م) فقد كانت هاتان المنطقتان نقطتي التلاقي بين العقلية الأوربية وبين الثقافة العربية الإسلامية الزاهرة، وبين العقلية الناشئة، لأنها على الحدود بين دار الإسلام وأوربا(10)، والبعض يضيف الشام "سوريا" لهذين المعبرين الذين نهل منهما الغرب خلال الحروب الصليبية ومابعدها (1098-1300م).(11)
تلاقحت الحضارتين الغربية والإسلامية في إسبانيا (سيسلي) حيث تم التبادل المعرفي وخاصة ضمن الأجواء الأخوية بين الأديان التي هيئتها الحضارة الإسلامية في الأندلس ويقرر جون روبيرتس عالم التاريخ في أكسفورد في كتابه "تاريخ أوربا":
" إن حياة المسلمين والمسيحيين واليهود تحت الحكم الإسلامي كان بحق أسهل من أن يحيوا على أرض مسيحية"(12)، ويؤكد روبيرتس على أن اللغة العربية تركت ثروات لغوية كبيرة في كاستلين حيث انتقلت بعض الكلمات العربية إلى اللغات الأوربية. ليس هذا وحسب بل إن الأفكار التي أنتجتها الحضارة الإسلامية في إسبانيا وطورتها كانت على درجة رفيعة من الأهمية لإغناء الثقافة المسيحية، وكانت للترجمة قصب السبق في نقل العلوم إلى أوربا فقد كان لنشاط ترجمة النصوص الأهمية الأولى فالعلوم اليونانية والفارسية والهندية وجدت طريقها من خلال العربية إلى المناطق اللاتينية والمسيحية."(13)
إن من أهم وأقدم الأعمال المؤثرة في الجبر في اللغة العربية كان أبو جعفر الخوارزمي (236ه/850 م)، وكتابه "المختصر في حساب الجبر والمقابلة" لقد أصبح يعرف في أوربا عبر الترجمات اللاتينية مع ملاحظة الترجمات في القرن الثاني عشر من قبل روبرت من كيتون وجيرارج من كريمونا.
كذلك اعتبر يونغ في كتابه أن اسحق الكندي أقدم كتّاب العرب حول الموسيقا الذين وصلت أعمالهم على الغرب فلقد احتوت على علامات موسيقية لتحديد طبقة الصوت، وإن الجزء الموسيقي من كتاب الشفاء لابن سينا قد ترك بصمة لاتنسى، وكذلك فاقت طروحات الفارابي معلومات الغرب حول الموضوع. لقد كان من المساهمات الملاحظة للكتاب العرب في العلوم المتقدمة هي علوم البصريات، فلقد كتب يعقوب بن اسحاق الكندي بحثه في علم الهندسة والفيزياء البصرية التي أثرت في العلماء الأوربيين، لكن أعظم عالم بصريات في الإسلام – والكلام ليونغ- وواحد من العظماء على مر الزمن هو أبو علي الحسن بن الهيثم (1039) كان فلكياً ورياضياً وفيزيائياً ولقد كانت الترجمة اللاتينية لعمله الرئيسي حول البصريات في كتابه "المنظر" أعظم الأثر على علماء الغرب خاصة روجر بيكون وكيبلر.
يذكر برنارد لويس في كتابه "العرب في التاريخ" (14) إن عمليات الترجمة كانت فردية ومبعثرة في العصر الأموي، أما في العصر العباسي فإن عمليات الترجمة كانت منظمة مدعومة رسمياً.
إن أعظم عصور الترجمة بعد القرن التاسع هي زمن الخليفة المأمون (811-833م) الذي أسس مدرسة للترجمة في بغداد مع مكتبة وموظفين نظاميين، وكان أحد كبارالمترجمين حنين بن اسحاق (809-877م) الطبيب المسيحي لجند ياشابور والذي مالبث أن خرج جيل من الكتاب المسلمين الأصل خاصة فارسيين من ضمنهم أعلام في الطب مثل الرازي (805-925م) والفيلسوف والطبيب ابن سينا (980-1037م) وكذلك ابن البيروني (973-1048م) الطبيب، الفلكي، الرياضي، والكيميائي والجغرافي وكذلك المؤرخ الذي كان أعظم من أعظم المفكريين في العصور الوسطى الإسلامية.
في مجال الطب أضاف العرب والمسلمون على العلوم اليونانية وأغنوها بملاحظاتهم العلمية وخبرتهم الطيبة. كما كانت مساهمة المسلمين في مجال الرياضيات والفيزياء والكيمياء لاتنسى فقد ذكر برنارد لويس أن مساهمة العرب والمسلمين كانت عظيمة وأكثر أصالة، فاستخدام الصفر ومايقال عن الأرقام العربية – وهي ليس اختراعاً عربياً – كانت أول دخولها عالم النظرية الرياضية عن طريق العرب والمسلمين وبعدها تحولت إلى الهند وأوربا، ويعزي برنارد لويس التطور الكبير لعلمي الجبر والهندسة إلى العرب. ولشدة أثر العرب في سيسلي وأثرهم على المجتمع الأسباني فقد عرف روجرز الثاني (1130-1154م) باسم الوثني لأنه كان يفضل المسلمين فقد استخدم جنود ومهندسي الحصار في حملته في جنوب إيطاليا واستخدم مهندسي العرب المعماريين في البناء.
كان هناك مؤشرات في بداية القرن العاشر على ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية حيث أنفق سلفستر الثاني (999-1003) قبل وصوله إلى عرش البابوية ثلاث سنين (967-970) وهو في رهبانية ربول في كاتولينيا حيث درس الرياضيات والفلك والتي كانت في الغالب كتب عربية أو لاتينية مترجمة عن العربية، وكانت توليدو مركز ترجمة على الرغم من أنه كان هناك العديد من المراكز الأخرى في الأجزاء من شمال البلاد. لقد ترجم جيرارد من كريمونا (1187) بضع وسبعون عمل من العربية إلى اللاتينية وهناك رايموند لول (1232-1315) الذي أوجد عام 1276 مدارس الاستشراق في توليدو ودفعت برامج مماثلة في سالامانكا وروم وبولوكنا وباريس وأكسفورد. يذكر أنورجين أنه مع قدوم القرن الثالث عشر كانت مجموعة أعمال العرب في الرياضيات والفلك والطب والفلسفة متوفرة باللاتينية وقد اقتبس منها كثير من الغربيين من أمثال سانت توماس (1272) وألبير ماغنس وألفونس الخامس (1288) وروجر بيكون (1294).
يقول سانديرز في كتابه في كتابه "تاريخ الإسلام في العصر الوسيط"(16) :
"لقد ترعرعت على مدى أربعة قرون واحدة مابين 800 و1200على الرقعة التي فتحها العرب واحدة من أبدع الحضارات في تاريخ البشرية" وتسائل باستغراب بدون كبت إعجابه بالحضارة الإسلامية: "لماذا تبع احتلال الألمان لأوربا الغربية في القرن الخامس عهود طويلة من الظلمة والبربرية والجهل بينما تبع الاحتلال العربي في القرن السابع ارتفاع عام بالمستوى الثقافي للشعوب المحتلة؟"
لقد قام فيليب الثاني (1556-1598) وأعوانه إثر تدمير قوة المسلمين في إسبانيا بجمع 2000 مجلد عربي جمعت من قبلهم والتي شكلت نواة المكتبة إيسكرايل التي تقع في مرمى غير بعيد من مدريد.
يقول حتي لقد خسر العرب والغرب بوفاة ابن الخطيب في غرناطة أحد أكبر فلاسفتها وشعرائها وجغرافيها وأطبائها وقد نجا ثلث أعماله من التدمير من أصل ستين عملاً. ولقد ترك ابن خلدون ونظرياته في التنمية التاريخية بصمة ظاهرة في تاريخ العرب وأثره على الغرب ويقول فيليب حتي "لم يكن هناك لأمة العرب في أوربا كاتب قد نظر إلى التاريخ ككل رؤية شاملة وفلسفية مثل ابن خلدون (توفي 1406م) وبإجماع آراء كل النقاد فقد كان ابن خلدون أعظم مؤرخ وفيلسوف أنتجه الإسلام وواحد من العظام على مر الزمان (حتي ص182) لقد ترجمت الأعمال الفلكية الإسلامية إلى اللاتينية في إسبانيا وجداول ألفونس التي جمعها ألفونسو في القرن الثالث عشر والتي لم تكن إلا تطوير لعلوم العرب الفلكية.
من دراسات العرب حول النجوم أعطانا الكتاب العرب الفصول الأولى حول الكروية وعلم المثلثات المستوية كالجبر والتحليل الهندسي...ومن أهم الرموز الرياضية التي استعارها العالم من العرب هي الصفر رغم أن العرب لم يخترعوا الصفر لكنهم قدموا الصفر مع الترقيم العربي إلى أوربا وعلم الغرب كيفية توظيفه مما سهل تطبيقه الرياضي في الحياة اليومية (حتي ص183) لقد أغنى المسلمون الغربيون العالم بأبحاثهم وصححوا المفاهيم حول الخلافات الجنسية بين المزروعات كالنخيل والقنب وصنفوا المزروعات كالنخيل والقنب وصنفوا المزروعات التي تنمو بالجذور، والتي تنمو بشكل عفوي تلقائي. لقد كان البحث الذي أجراه ابن العوام في سيفل حتى أواخر القرن الثاني عشر ليس فقط من أهم الأعمال الإسلامية بل من أبرز أعمال القرون الوسطى حول هذا الموضوع. لقد عالج ابن العوام 585 نوعاً من أنواع المزروعات وشرح كيفية حصاد خمسين نوعاً من أنواع الفواكه. كذلك تعد مساهمات البيطار الذي توفى في دمشق 1248 والذي يعد من أشهر علماء النبات والصيدلة في إسبانيا مساهمات هامة للغاية فقد ترك أبحاث في العصر الوسيط عن العلاجات الأولية كما كانت مساهمات ابن الخطيب الذي شغل منصباً وزارياً كمؤرخ وطبيب ومصمم أزياء مساهمات معتبرة، ولقد تدفقت الثقافة الشرقية على أعلى المستويات إلى الأندلس. ويذكر فيليب حتي (حتي ص185) أن علماء سافانتس في إسبانيا رحلوا في طلب العلم إلى مصر وسوريا والعراق وفارس والصين وقد انتقل الطب العربي إلى أوربا وشمال غرب أفريقيا وإسبانيا خاصة توليدو.
لقد لعب العرب أقوى دور في سلسلة نقل العلوم الفلسفية اليونانية حيث انتقلت هذه الفلسفة بواسطة العرب ورجال الدين الشرقيين وإلى غرب اللاتين مضيفين عليها مساهماتهم خاصة فيما يختص بالتوفيق مابين الدين والسبب، والدين والعلم، وإنه بالنسبة للمسلمين فإن أرسطو كان محقاً وأفلاطون كذلك والقرآن حق لكن الحقيقة يجب أن تكون واحدة.
لقد كان هناك العديد من الفلاسفة العظام في إسبانيا المسلمة مثل ابن طفيل الذي توفي 1185 والذي اعتبر كتابه حي بن يقظان من أعظم ما أنتجته العصور الوسطى وترجمة اللاتين أول مرة إدوارد بوكوك 1671 وبعدها إلى معظم اللغات الأوربية كالألمان 1672 والروسية 1920 والإسبانية 1934 وأعتقد البعض أن قصة روبنسون كروزو مأخوذة عن ابن رشد الذي ولد في كورنوما 1126 وكان من أكبر المساهمين في الطب، لقد كان أثره كبيراً على المسيحيين والعلماء في أوربا وفي القرون الوسطى لأثره الكبير على المسيحيين والعلماء في أوربا وفي القرون الوسطى ولما أثاره من شروحات على فكر أرسطو ولقب بالشارح كومينتيتر على غرار مالقب به أرسطو المعلم، ويشير فيليب حتي (حتي ص188) أنه منذ نهاية القرن الثاني عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر بقيت الرشدية هي المدرسة الفكرية السائدة رغم معارضة المتشددين المسلمين في إسبانيا وكذلك بين التلموديين ورجال الكهنوت المسيحيين. لقد ظل الفكر الرشدي يدرس في جامعات باريس وأوربا حتى بداية العلم التجريبي المعاصر.
كما ظلت العلوم العربية الإسلامية والفلسفية تنتقل لأوربا حتى القرن الثالث عشر، ومن أهم الطرق التي انتقلت عبرها الثقافة الإسلامية كانت عبر مداخل توليدو إلى جبال ألبيرنيه إلى لورين وألمانيا ووسط أوربا وعبر القناة إلى إنكلترا، لقد كانت مرسيليا تولوس ناربوبرون ومنتبلير كلها مراكزفرنسية للفكر العربي والإسلامي، كما كانت كنائس كلني في فرنسا التي تستقبل الرهبان الإسبان مركزاً لتعليم اللغة العربية.
لقد كان رئيس الرهبان بيتر المبجل هو الذي تبنى أول ترجمة لاتينية للقرآن 1141م إضافة للكتابات المختلفة التي وجهت ضد الإسلام، ولقد دخلت العلوم العربية إلى لورين في القرن العاشر مماجعلها تشكل مركز الثقل العلمي على مدى قرنين.
إن ماأوردناه كم قليل من الشواهد على الحضور الحضاري للإسلام بلسانه العربي المبين في التاريخ وباعتراف علماء الغرب ومؤرخيهم بحيث لا يترك مجالاً للتغاضي عن هذه الحلقة الحضارية الهامة من سلسلة التاريخ الحضاري للأمم، اللهم إلا أن تكون ابتعاد عن الموضوعية بقصد أو بجهل وكلاهما مذموم في عالم المعرفة.
--------------------------------------------------------
(1) مظهر، جلال (1967) أثر الحضارة العربية في الحضارة الأوربية:نهاية عصور الظلام وتأسيس الحضارة الحديثة. الطبعة الأولى_ دار الرائد_ بيروت ص 7.
(2) لوبون، غوستاف (نقله إلى العربية عادل زعيتر) حضارة العرب.الطبعة الرابعة. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. ص 578.
(3) الملا، أحمد علي العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية- بيروت- دار الفكر.
(4) إقبال، محمد.1955. تجديد الفكر الديني، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. ص190.
(5) المصدر السابق ص 190.
(6) لوبون، غوستاف، مصدر سبق ذكره. ص26.
(7) واط، مونتغمري (ترجمة جابر ابي جابر) (1981) أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوربة. منشورات وزارة الثقافة-دمشق. ص 141.
(8) الملا، أحمد علي، مصدر سبق ذكره، ص 131.
(9) آل نهرو، جواهر. (1975) لمحات من تاريخ العالم (نقله إلى العربية لجنة من الأساتذة الجامعيين) الطبعة الأولى. المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، ص 35.
(10) بدوي، عبد الرحمن. (1965) دور العرب في تكوين الفكر الأوربي. الطبعة الأولى، منشورات دار الآداب. بيروت ص5.
(11) الملا، أحمد، مصدر سبق ذكره، ص 119.
(12) Roberts, J.M. 1997 “A History of Europe” Allen Lane P.159.
(13) Young, M.J.L, Lathman & R.B. Serjeant. 1990 “Religion, and Science in the Abbasid Period” Cambridge University Press, New York. P.255.
(14) Lewis, Bernard (1958) “The Arab in the History”, Harper Torch Books, NY. P137.
(15) Semaan, Khalil ed., (1980) “Islam and the Medieval West” Chejne, Anwar Auth, “the role of Andalus in the movement of ideas between Islam and the West”, State University of New York Press, Albany, NY, P.118.
(16) Saunders, JJ (1965) “A History of Medival Islam” Routledge and Kegan Paul, NY. P.187.
(17) Hiti, Philip. (1970) “The Arabs: A short History” Regnery Gateway, Washington DC.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.