تتشكل تاريخية الدراسات الاستشراقية اللاهوتية وفق بعدين متناظرين : أوّلهما التاريخ الحضاري الناشئ عن الخطاب العلمي المتوازن الذي يعد ـ بحسب الأدبيات الاستشراقية ـ الدعامة المحوريّة في ثبت اللوائح المنهجيّة المتّبعة في التعامل مع التراث الشرقي بحثا وتقصّيا واستنتاجا ، وثانيهما التاريخ الطبيعي الناتج عن الخطاب الموازي وهو ما انفكّ يثير شكوكا في مدى التزام الدراسات الاستشراقية بالموضوعيّة المنهجيّة ، أي في مدى مطابقة النظريات والمواقف للأحداث والوقائع .
وانسجاما مع هذا التفريع الثنائي لخطاب الاستشراق يتأسس تفريع محايث يقوم على الفصل بين حصيلة النتائج المعرفيّة التي توصّل إليها المستشرقون في حقبة زمنيّة امتدت على قرون عدّة(1) من جهة وسيرورة الارتباط بين مؤسسة الاستشراق(2) والدوائر السياسية الغربية التي وظفت البحوث الاستشراقية لاتخاذ قرارات(3) كانت مؤثرة في التاريخ الكوني من جهة ثانية (4) .
وزاد إقبال الكثير من الأوروبيين والأمريكيين من الأوساط الشعبية والانتليجنسيا على حدّ سواء على تعرّف الدين الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر (5) من اهتمام المستشرقين اللاهوتيين بالإسلام ، وارتفعت بينهم نبرة التحامل على المسلمين وثوابتهم العقائديّة (6) ، وشاعت في أوساط اللاهوتيين نزعة شوفينيّة وسمت الإسلام بصفات مختلفة تلتقي في إدانته والاستدلال على نزعته الفوضويّة والإرهابيّة ، وهو ما عمّق حالة الشعور بالرّهاب النفسي والذهني لدى فئات اجتماعيّة عديدة ، فتأصّلت دعوى " الإسلاموفوبيا " ، وأصبح المسلم مرادفا لدى الكثيرين للإرهابي والانتحاري والبربري ( 7 ) .
واتخذت حملة اللاهوتيين أشكالا عديدة مستفيدة في ذلك من دعم اليمين في أمريكا الشماليّة وأوروبا واستراليا(8)، فاستخدموا البرامج التعليمية في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية للتشهير بالإسلام والمسلمين ، و استعادت الكنيسة دورها التقليدي في مهاجمة الإسلام (9) ودعّمت حملات التبشير الإنجيلي عبر وسائل الإعلام بطريقة استعراضية لافتة للنظر (10)
ولم يكن الهدف من الزخم الإعلامي الذي وظف للتشهير بالإسلام يقتصر على محاصرته وسدّ سبل انتشاره في العالم الغربي فحسب بل تجاوز ذلك إلى محاولة القضاء على مرتكزاته ومقوّماته بالتشكيك في صحّة القرآن وأخلاقيّات نبيّه وثوابت متبعيه ، و السعي إلى الإجهاز عليه بوصفه حاملا لهويّة كونية ما فتئت تقدّم من صور الممانعة والتحدّي والمواجهة ما أثار دهشة الدوائر الامبرياليّة العالميّة .
في هذا السياق تتنزل كتابات ابن الورّاق الذي اختار محاور ثلاثة لمهاجمة الإسلام والمسلمين ، وهي :
ـ أولا : الإسلام عقيدة وفقها وتاريخا وذلك في ثلاثة كتب : لماذا أنا لست مسلما ، وترك الإسلام ، وخرافة التسامح في الإسلام: كيف تعامل الشريعة الإسلامية غير المسلمين :
ـ ثانيا : الرسالة المحمدية وحيا وسيرة وأخلاقيات : وذلك في كتاب : البحث عن محمد التاريخي .
ـ ثالثا : القرآن الكريم نصّا وتفسيرا وتأويلا ، وذلك في ثلاثة كتب : ما يقوله القرآن حقّا ، وأيّ قرآن ، ومصادر القرآن(11) .
ورغم وعينا باسترسال هذه المحاور في العقيدة الإسلامية وتكاملها الجوهريّ ، ارتأينا تفريع الموضوعات التي اهتم بها ابن الوراق باعتبار ذلك ممارسة منهجيّة بحتة تتيح للدارس متابعة أفكار كاتبها ومكاشفة الحجج التي أوردها ومن ثمّة الردّ عليها والاستدلال على حدودها النظرية والإجرائيّة .
1 ـ المقدّمات الفيلولوجيّة : منطلقات التمويه.
يدافع ابن الورّاق في مقدّماته الايبستيميّة عن مصادرة ما فتئت تتردد في مؤلفات المستشرقين اللاهوتيين ، وهي أن المسلمين يرفضون رفضا قاطعا كل عمل نقدي يوجّه إلى القرآن متعللين بأن غير العرب لا يفهمون القرآن لأنهم لا يملكون ناصية اللغة العربية ، فيما أنّ الغالبية الساحقة من المسلمين هم من غير العرب ولا يتكلمون اللغة العربية ، كما يحتجّ ابن الورّاق بمقولة فيلولوجيّة مفادها أنّ القرآن قد " ألّف " ـ كما يقول حرفياّ ـ باللغة العربية الكلاسيكية (12)، وأغلب العرب اليوم لا يجيدون تحدّث العربية الكلاسيكية ولا قراءتها ولا بناء متصوّرات ذهنيّة انطلاقا من دلالاتها .
وسعى ابن الورّاق إلى إثبات هذه الفرضيّة بالاستدلال على الفارق النوعي بين خصائص اللغة العربية الرسميّة التي تدرّس في المؤسسات التعليمية واللهجات العاميّة التي تستعـمل في الفضاءات العامّة والمنازل (13) ويخلص إلى أن لغة القرآن ، أي اللغة العربيّة الكلاسيكية كما يسمّيها قد انحسر استعمالها، وهناك من غير المتعلّمين من العرب من لا يجيدون فهمها ، فلا يتمكّنون بحكم ذلك من فهم المعاني القرآنيّة .
ويحتكم ابن الورّاق إلى مقولة مركزيّة في العلو م اللسانيّة مفادها أنّ اللغة العربيّة قد عرفت تغيّرات بالضرورة في مستوى القيم الاستعماليّة للكلمات وشحناتها الدلاليّة بحكم العاملين التاريخي والجغرافي بعد أن أصبحت مستخدمة في أماكن قصيّة ونائية عن مركز الدعوة المحمّدية في الجزيرة العربيّة (14).
إنّ التعمية الدلاليّة الناشئة عن تعدّد محاور الفهم والتصوّر في اللغة العربيّة نتيجة تشظّيها إلى نماذج خطابيّة متعددة وفوارق مفهوميّة مختلفة بحكم تفريـع الظاهرة اللغويّة حســب المؤسسات المرتبطة بها (15)، تجعل من فهم اللغة العربيّة الصميمة عمليّة في منتهى الصعوبة إن لم تكن مستحيلة في تصوّر ابن الورّاق ، و يفضي به الأمر إلى إصدار حكم يجيز من خلاله لغير المسلمين الذين لا يفهمون اللغة العربيّة نقد القرآن ، أو بالأحرى التهجّم عليه ، والجليّ فيما أورده من حجج أنّه يمارس عمليّة انتقائيّة فيها قدر غير يسير من الخداع المنطقي ، إذ يبني النتائج على مقدّمات واهية ، وذلك لأمور عدّة منها :
ـ أوّلا : إن خاصيّة " الثنائية اللسانيّة " في جهاز اللغة العربيّة ، من حيث تمايز اللغة الرسميّة عن اللهجات المحلّية ليس عاملا مؤثّرا في الحدّ من قدرة المتكلّمين على قراءة النصوص المكتوبة باللغة العربيّة والتحدّث بها وفهم مدلولاتها ، ولعلّ هذه الثنائيّة من أسباب قوّتها وكفاءتها الاستعماليّة التي أتاحت لها الاستمرار والتعايش مع البيئات المحلّية في خصائصها الفيلولوجيّة المرتبطة بعوامل انتروبولوجيّة وسوسيولوجيّة مختلفة .
ـ ثانيا : إنّ وجود عرب من غير المتعلّمين من الذين لا يفهمون اللغة العربيّة الكلاسيكيّة أو ممّن لا يفهمون المعاني القرآنيّة على وجه التحديد ليس ظاهرة ناشئة عن خصائص القرآن اللغويّة ، بنية ودلالة، إنّما هي ظاهرة اجتماعيّة ناتجة عن أوضاع سياسيّة واقتصاديّة مرّ بها الوطن العربيّ كانت من آثارها المقيتة انتشار الأميّة ، فليس موضع المحاكمة في هذا السياق هو القرآن ، إنّما جملة التراكمات السوسيولوجيّة المسؤولة عن شيوع الفقر والأميّة .
ـ ثالثا : إنّ تعلّل المسلمين بأنّ غيرهم لن يفهموا الإسلام في صورته الحقيقيّة ما لم يفهموا القرآن لا يغيّر من حقيقة القرآن السامية شيئا لأنّه كان في منأى عن المزايدات والهرطقات على مرّ التاريخ ، إنّما مردّ الأمر عندهم إلى كون فهم القرآن واستيعاب معانيه يكفل لدارسه الوقوف على معانيه الفعليّة ، أي تحقيق معرفة ملتزمة بالشروط العلميّة الصحيحة ، وهو ما كان محلّ ادّعاء مستديم من قبل المستشرقين اللاهوتيين على وجه التحديد .
ـ رابعا: كثيرا ما مثّلت الظواهر الواقعيّة منطلقا مركزيّا في المقاربات الفيمينولوجيّة لإثبات وجاهة فرضيّة ما ، وتفيد التجربة الموضوعيّة في هذا الصّدد أنّ الكثيرين من غير العرب تمكّنوا من استيعاب قوانين اللغة العربيّة وأتقنوا التحدّث بها وقراءة نصوصها وفهم المعاني القرآنيّة ، فليس التعدّد اللساني بحائل دون التوصّل إلى فهم القرآن متى ما تعلّقت الهمّة بذلك .
ـ خامسا : اعتمد ابن الورّاق المنهج التاريخي في وصف اللغة العربيّة وهو منهج أثبتت اللسانيّات البنيويّة قصوره النظري بحكم أنّه لا يتعامل مع اللغات المدروسة على أساس أنّها ظواهر متأصّلة زمنيّا(16) .
كلّ هذه العوامل مشتركة تؤكّد أنّ المعطى اللغوي في علاقته بالقرآن ليس من المحدّدات المسؤولة عن تمكّن العرب أو غيرهم من استيعاب الدلالات وتمثّل المعاني وفق ما تنصّ عليه قواعد اللغة العربيّة ، وتبقى القضيّة مرتبطة بدرجة كبيرة بالمعايير الذاتيّة التي لا يجوز معها تعميم الظاهرة وتناولها بوصفها حقيقة ثابتة ، فالفهم من القدرات الذاتيّة التي تستتبع كفاءة الإنجاز اللغوي (17) .
2 ـ أصول نقد الإسلام في الفكر اللاهوتي وموقف ابن الوراق :
قال البابا بنيديكت السادس عشر في الخطاب الذي ألقاه في جامعة ريسنبورغ في ألمانيا بتاريخ 12 / 09/ 2006 تحت عنوان " الإيمان والعقل والجامعة : ذكريات وتأمّلات " : ... هذه الأمور عادت إلى ذهني حين قرأت مؤخّرا شطرا من كتابات للكاتب تيودور خوري عن حوار دار ربّما عام 1391 في الثكنات الشتويّة قرب أنقرة بين الإمبراطور البيزنطي وواسع العلم مانويل باليولوغوس الثاني وفارسي متعلّم حول مسألة المسيحيّة والإسلام وحقيقة كليهما ، ومن الأرجح أن يكون الإمبراطور خلال حصار القسطنطينيّة بين 1394 و1402 ، قد تناول هذه المسألة ... ما من شكّ أنّ الإمبراطور كان على علم بالآية "ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﰗ ﰘ ﰙ "[ سورة البقرة : 256 ] ، وهي تعود إلى الفترة الأوّليّة حسب الخبراء ( 18)حيث كان النبيّ محمد بدون سلطة ومهدّدا ، وطبعا كان الإمبراطور على علم بالتوجيهات التي نمت لاحقا بشأن الجهاد ... إذ قال ( لمحاوره ) : فقط أرني ما أتى به محمد وجاء جديدا ، عندها ستجد فقط ما هو شرّير و لا إنسانيّ ، كأمره نشره الدّين الذي نادى به بالسّيف " .
إنّ إيراد هذا الشاهد الذي جاء على لسان الحبر الأعظم ـ الذي لا يعرف عن الإسلام أكثر مما يعرف الإمبراطور البيزنطي ـ يكشف أمرين مهمّين : أوّلهما تجذّر نظرة اللاهوتيين إلى الإسلام بوصفه دينا قائما على العنف والإرهاب ، وثانيهما سيرورة هذه النظرة واستمرارها في المرجعيّات المسيحيّة وتبنّيها من قبل الدّوائر الكنسيّة و العلميّة على حدّ سواء مع فارق نوعيّ في طريقة التعبير عنها ، فالطريقة تتغيّر بحسب المرحلة التاريخيّة ، ولكن جوهر هذه النظرة القائمة على الازدراء والإقصاء تبقى ثابتة متأصّلة في جلّ المرجعيّات .
وتحدّدت هذه النظرة تاريخيّا في القرنين السابع والثامن الميلاديين إثر تمكّن المسلمين من فتح مناطق كانت تحت سيطرة الإمبراطوريّة البيزنطيّة ، ولمّا لم يكن اللاهوتيّون مستعدّين للاعتراف بمصداقيّة الرسالة المحمّديّة لجؤوا إلى تعليل سرعة انتشار الإسلام وتفوّقه على الحضارتين البيزنطيّة والفارسيّة باعتماده على القوّة والبطش (19) ، و ترسّخت هذه النظرة في القرون الوسطى عندما كانت أوروبّا تجهّز للحملات الصليبيّة التي اكتست صبغة دينيّة صرفة حيث كانت آمال الكاثوليكية كبيرة في إعادة نشر المسيحيّة في الضفّة الشرقيّة للبحر المتوسّط (20).
إنّ هذه الخلفيّة التاريخية التي تثبت شعور العداء الذي يكنّه اللاهوت للإسلام تفسّر طبيعة الأفكار التي تبنّاها عدد كبير من المستشرقين حيث يوجد " ميل عند الغربيين إلى اختزال الإسلام وكلّ ما هو إسلامي إلى فزّاعة مخيفة " (21) ، فابن الورّق اللاهوتي فكرا ومنهجا لم يخرج عن هذه الدائرة ، إذ بنى تصوّراته انطلاقا من هذه النظرة ، ,وأقام مقارنة عجيبة بين ما اعتبرها نزعة العنف في الإسلام والامبرياليّة الغربيّة ، وذهب إلى أنّ فرض خمس صلوات يتوجّه فيها المسلم إلى القبلة أوضح دليل على " امبرياليّة " الإسلام ، ورأى أنّ الامبرياليّة الغربيّة رغم ما قامت به من فضاعات في حقّ الشعوب والأمم ، تبقى أسمى من الإسلام ، إذ حرصت على احترام حقوق الإنسان (22) .
ويصف الإسلام بالشموليّة البغيضة وعدم التسامح مع متبعي الديانات الأخرى وذلك من خلال فرض ضريبة الجزية التي تبيّن حسب اعتقاده نزعة العنصريّة في الإسلام (23) ،ولمّا كان حريصا على إثارة خوف الغربيين من الإسلام أشار إلى طبيعة هذا الدين بوصفه عقيدة " ترغب في الهيمنة على جميع أنحاء العالم ، فهو بمثابة إيديولوجيا توتاليتاريّة " (24) ، وفي معرض تحليله للأوضاع الحضاريّة والثقافيّة في المجتمعات الإسلاميّة خلص إلى أنّ الإسلام هو الذي يحول دون تحقيق نهضة فعليّة ، بما أنّه لا يعترف بحقوق الإنسان (25).
إنّ هذه الأفكار ولئن كانت خالية من أيّة قيمة فعليّة بالمعايير العلميّة الحقيقيّة فإنّها تكشف عن حدّة الحملة التي ما فتئت تشنّها الدوائر اللاهوتيّة المدعومة من الأوساط السياسية التي تدين بالتعاليم الإنجيلية اليمينيّة المتطرّفة وسعيها المتواصل للنيل من الإسلام عقيدة وتاريخا باختلاق أنساق متكاملة من الأباطيل التي تنمّ عن هجمة منظمة وصفها مكسيم رودنسون بالمؤامرة الجماعيّة ( 26) .
3 : التشكيك في مصداقيّة القرآن : محاكاة تيودور نولدكه
أشاد العقل العلمي ـ وهو يفحص المسائل التيولوجيّة ـ بأدواته العقليّة ، واعتبرها وسائل ضروريّة لا غنى عنها في التعامل مع النصوص الدينيّة إلاّ أنّ هذا العقل الدّعائي سرعان ما يتخلّى عن آليّاته وهو يبحث في خصائص القرآن نصّا ودلالة .
وتتجلّى وطأة التحيّز والتشكيك في أوضح صورها في الخطاب الاستشراقي الذي دأب منذ أحقاب على التهجّم على القرآن الكريم ، ويعتبر المستشرق تيودور نولدكه صاحب كتاب " تاريخ القرآن"(27) أحد أكثر المستشرقين تهجّما على القرآن ، فقد سعى إلى بيان أثر المصادر اليهوديّة والمسيحيّة في النص القرآني ، وقد اتصل هذا التأثير في اعتقاده بمستويين :
ـ المستوى الأوّل : يتعلّق بمضمون بعض القصص القرآنيّة ،إذ يرجعها إلى الأساطير القديمة التي كانت شائعة في الشرق ، وأغلبها ورد ذكرها في التوراة ، ويعتبر أنّ " نبيّ الإسلام " ـ بعبارته ـ أوردها في القرآن دون الإشارة إلى المصدر الذي استمدّ منه ، يقول في بيان زعمه " نسمح لأنفسنا بأن نذهب إلى أبعد من ذلك ، فنتوقّع أنّ النبيّ لم يبتكر تلك السّور تماما بل قام بتعديل نموذج متناقل مانحا إيّاه معنى إسلاميّا " ( 28 ) . ، فالأمر عنده لا يتجاوز أسلمة النماذج القديمة وتنزيلها في بيئة معرفيّة تجد قبولا لدى الأوساط الفكريّة التي كانت سائدة في الجزيرة العربيّة .
ـ المستوى الثاني : يتّصل بمحاولة اجتثاث القداسة عن القرآن الكريم واعتباره نصّا بشريّا مثلما هو شأن التوراة والإنجيل ، فينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم تأليف سور ، فقد " أعلن عن سور أعدّها بتفكير واع ، وبواسطة استخدام قصص من مصادر غريبة مثبتة وكأنّها وحي حقيقيّ من الله شأنها في ذلك شأن البواكير التي صدرت عن وجدانه الملتهب انفعالا " ( 29 ) ويضيف في موضع آخر " إنّ المصدر الرئيس للوحي الذي نزّل على النبيّ حرفيّا ، بحسب إيمان المسلمين البسيط وبحسب اعتقاد القرون الوسطى وبعض المعاصرين ، هو بدون شكّ ما تحمله الكتابات اليهوديّة ، وتعاليم محمّد في جلّها تنطوي في أقدم السور على ما يشير بلا لبس إلى مصدرها " (30) .
هذه المغالطات التي تعبّر بشكل جليّ عن ذهنيّة انتقاميّة حاقدة تفتقر إلى أدنى درجات المصداقيّة المعرفيّة والأخلاقيّة ولا ترقى إلى مستوى التحليل العلمي الرّصين التقطها ابن الورّاق ودافع عنها في مؤلّفاته دون أن يدخل عليها تغييرا منهجيّا أو مضمونيّا ، فقد سعى في مصادرة أوّليّة إلى بيان أوجه التشابه بين القرآن والتوراة والإنجيل مدّعيا أنّ الرسول استمدّ أفكاره ورؤاه من العهدين القديم والجديد(31) .
ولم يفت ابن الورّاق أن يستعيد قضيّة تدوين القرآن ، فأشار إلى ما طرأ على عمليّات التدوين من حذف لبعض الآيات متّخذا بعض الإشارات الواردة في كتاب " الإتقان في علوم القرآن " للسيوطي منطلقا لطرح هذه القضايا دون تمحيص وإعمال نظر ، إذ اكتفى بنقل ما جاء في الإتقان من أخبار تفتقد إلى المشروعيّة التاريخيّة والدينيّة .
إنّ سعي ابن الورّاق إلى تدليس بعض المعطيات التي اقتنصها من النصوص الاستشراقيّة السابقة له، وحرصه المتهاوي على تبرير زيفها وبطلانها بإلباسها لبوس العلم والمنطق لا يسعفانه بتأسيس مقاربة قادرة على المسّ من قدسيّة القرآن الكريم الذي أثبت على مرّ التاريخ أنّه نصّ مفارق ، إلهي المصدر ، خارق البنية ، منفتح الدلالة ، نزل رحمة للعالمين ، ولن تفتّ هرطقة ابن الورّاق من سماحة هذا التنزيل وتجلّيه البياني دلالة راسخة على صدق الرسالة المحمّديّة .
الهوامش :
_________________
*ابن الوراق: اسم مستعار لكاتب هندي يقيم حاليّا في الولايات المتحدة، وكان قد ولد في 1946 في راجكوت في الهند، ودرس في جامعة أدنبرة في بريطانيا علي المستشرق مونتغومري واط،وما فتئ يدّعي أنّه يهتمّ في كتاباته ببيان مظاهر القمع في الفكر الإسلامي .
1 ) ينفي المفكر رضوان السيد أن تكون بداية الاستشراق في القرن الثاني عشر ، ويفصل بين الجهود التبشيرية المحضة والجهود الاستشراقية : انظر مقالته :" نشوء الاستشراق الألماني وتطوّراته المبكّرة : جريدة الشرق الأوسط ، 20 أكتوبر 2004 ، العدد9458.
2 ) اعتبر ادوارد سعيد في كتابه :" Orientalism : Western Conceptions of the Orient, Penguin, août 2003." الاستشراق مؤسسة ، وتجاوز التقسيم الجغرافي للاستشراق الذي كان يفصل بين المدرسة الألمانية والفرنسية والبريطانية والإيطالية ..
3) يشير فرانسيسكو غابرييلي في معرض دفاعه عن الاستشراق إلى الاتهامات التي توجّه إلى المستشرقين بقوله " [إنّ] الاستشراق كان الأداة ( أو المساعد والحليف على الأقلّ ) للتغلغل الاستعماري الأوروبي في أرض الإسلام ، فالمستشرق بحسب وجهة النظر هذه كان دائما إمّا المستكشف الطليعي الذي يسبق الاستعمار ويمهّد له الطريق ، وإمّا الحليف والمستشار التقني للتاجر أو السياسي الأوروبي أو للمستغلّ الغربي :Apologie de l orientalisme, diogene, n 50 , 1965الترجمة لهاشم صالح )
4) من المؤسف أن تبقى الردود على المستشرقين محصورة في العملين الجادّين : لكل من أنور عبد الملك :
- l orientalisme en crise, diogene, 44, 1963
وادوارد سعيد :
- Orientalism : Western Conceptions of the Orient, Penguin, août 2003.
وهو ما يبيّن حجم افتقارنا لمؤسسات البحث المتكاملة القادرة على تأسيس معرفية صميميّة .
5) خوسيه كازانوفا : الأديان العامة في العالم الحديث ، ص 15 ، ترجمة قسم اللغات الحيّة والترجمة في جامعة البلمند ، مركز دراسات الوحدة العربيّة ، الطبعة الأولى ـ بيروت / مايو 2005 .
6 ) إنّ اتساع دائرة تحامل اللاهوتيين على الإسلام والمسلمين لا تعني مطلقا تعميم الظاهرة لذا وجب التنويه لذلك .
7 ) يعتبر ابن الورّاق أحد أبرز رموز هذه الحملة ، وقد يعترض معترض بالقول إنّه ليس مستشرقا لأنه ليس غربيّا ، ولكن الاستشراق في تقديرنا لا يرتبط بالانتماء إلى منطقة جغرافية ولكنّه مجموعة من الآليّات والأدوات المنهجية التي تحكمها غايات يلتبس فيها المعرفي بالبراغماتي ، وهذا ما يدعونا إلى اعتبار العديد من المفكرين المشرقيين مستشرقين بمقتضى التحليل الانطولوجي لمنطلقاتهم وتصوّراتهم .
8 ) كتاب هيتنغتون : صراع الحضارات فيه ربط جلي بين المقاربات اللاهوتية الكلاسيكية والاتجاه السياسي المتطرف للمحافظين الجدد فهو لا يختلف من حيث الجوهر عن الأدبيات اللاهوتية الاستشراقية التي نهض بها الكنسيون .
9 ) يقول هاشم صالح في كتاب الاستشراق بين دعاته ومعارضيه في الهامش الخامس في صفحة 17 :" [إنّ] المسيحيّة كانت متعصّبة جدّا في أوروبا عندما كانت المجتمعات الأوروبيّة لا تزال زراعيّة ، ريفية ، إقطاعيّة مغلقة ، فالتدين مرتبط بحالة المجتمع وبتلوّن ألوانه ، وكلّ ما نعاني منه الآن كانت قد عانت منه المجتمعات الأوروبيّ في الماضي قبل أن تقلب بنيتها الاجتماعية والاقتصاديّة وقبل أن تخترقها أفكار الحداثة والتنوير والعقل العلمي " انتهى كلام الكاتب ، نعم قد تكون المسيحيّة قد تغيّرت في مجالها الجغرافي الحيوي وفي أوروبا تحديدا ، لكن خارجيا بقيت المسيحية الأوروبية على عصبيّتها وانتهازيّتها وعنصريّتها فالحركة الامبريالية العالمية كانت مدعومة بقوّة من الأوساط الكنسية وأغلب الحروب الاستعمارية حصلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أي عندما كانت أوروبا مشبعة بالتنوير والحداثة والعقل العلمي حدّ التخمة ، ثمّ إنّ المسيحية اليوم ليست أكثر اعتدالا من مسيحية القرون الوسطى وحصرا في تعاملها مع الإسلام ، وخير دليل على ذلك خطاب البابا بنديكت السادس عشر في جامعة ريسنبورغ بألمانيا .
10 ) خوسيه كازانوفا : المصدر نفسه ، الصفحة نفسها .
11 ) عناوين الكتب باللغة الأنقليزيّة :
- why I am not a Muslim: Prometheus book ,1995.
-Leaving Islam : Prometheus book,2003.
- Myth of Islamic tolerance : how Islamic low treats non –Muslims: Prometheus book,1996.
- quest for the historical Muhammad: Prometheus book,2000.
- what the Koran really says : language test and commentary :Prometheus book , 2002.
- Which Koran ? variants manuscripts and the influence of pre Islamic: Prometheus book ,2004.
- Origins of the Koran : classic essays on Islamic s holy book: Prometheus book ,2004.
12 ) يدافع ابن الوراق عن فرضية أن القرآن قد ألف تأليفا مثل التوراة والإنجيل .
13) انظر في هذا الصّدد :
- Charles Ferguson : diglossa word .vol.15.n 2:pp325-340.
- William Marcais : la diglossie arabe l enseignement public _ revue pedagogique tome 104 .n 12 .pp 401 – 409 .
14 ) انظر في هذا الصّدد :
- B.Lewis : Islam and the west oxford oxford university press 1993 p. 65.
15 ) نعتبر أنماط اللغة العربية المستخدمة بحسب أنواعها المتنوّعة مؤسسات لها معاييرها الاستعمالية المترسّخة التي تتمايز بها فيما بينها ، كما أن لكل مؤسسة منها آليّات في التراكيب والمعجم والدلالة ، انظر في هذا الصدد :
-P.Larcher, La Linguistique Arabe d’Hier a Demain : Tendances Nouvelles de la Recherche, Arabica, tome XLV, 1998, pp.409-429.
16) انظر في هذا الصدد:
-f. De Saussure : Cours de linguistique générale , publié par Charles Bally , Albert Sechehave, avec la collaboration d’Albert Ried linger , Payot , Paris , 1984 .
17) انظر في هذا الصدد:
-N.Chomsky : Le langage et la pensé, traduit par Louis-jean Calvet, Paris, S . D
-N. Chomsky : Aspects de la théorie syntaxique traduit par Milner, Seuil, Paris, 1965
ـ مارك ريشيل ، اكتساب اللغة ترجمة كمال بكداش ، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر والتوزيع بيروت ،1984 .
18) لا نعلم من أين استقى البابا هذه المعلومة .
19) انظر في هذا الصدد :
- Ricaut : Histoire de l etat present de l empire Ottoman, Paris, 1670 .
20 ) خوسيه كازانوفا : المصدر نفسه ، ص 143 .
21 ) أورده هاشم صالح ، المصدر نفسه ، ص 115 .
22 ) انظر في هذا الصدد :
-Ibn Warraq; Pourquoi je ne suis pas musulman , weekly standard _ janvier 1996 adaptation francaise par : Alain _ Mariet .
23 ) دافع عن هذه الرؤية في كتابه :
- Myth of Islamic tolerance : how Islamic low treats non –Muslims
24) ابن الورّاق : حوار مع ديرك شونليبيه ، مجلة التبادل الثقافي ، ترجمة عارف حجاج ، موقع قنطرة 2007 .
- Ibn Warraq: loc .cit .25 )
26 ) أورد هاشم صالح : المصدر نفسه ، ص 117 .
27) تيودور نولدكه: تاريخ القرآن ، ترجمة جورج تامر ، الطبعة الأولى ، 2004 .
28) تيودور نولدكه : المصدر نفسه ، ص 98.
29) المصدر نفسه ، ص 6 .
30) المصدر نفسه ، ص 7.
31)
- Origins of the Koran : classic essays on Islamic s holy book :p2
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.