آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

حوارات وشخصيات  .  

  •     

الحاج" في حوار حول الدراسات القرآنية والقراءات المعاصرة

عبد الرحمن الحاج


أجرى موقع "الشهاب" حواراً مع رئيس تحرير "الملتقى الفكري للإبداع" عن الدراسات القرآنية الحديثة، والقراءات المعاصرة، ناقش فيها الحاجة إلى أداوت جديدة لفهم القرآن، وأهم الأحداث الفكرية والتاريخية التي ساهمت في بلورة التوجهات الجديدة لتفسير القرآن الكريم، والعلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني، وأسباب الاختلاف في القراءة المعاصرة، والإضافات التي قدمتها هذه القراءات في فهم القرآن.. 
والأستاذ عبد الرحمن الحاج، كاتب وباحث سوري، متخصص في الدراسات القرآنية والفكر الإسلامي المعاصر، رئيس تحرير "الملتقى الفكري للإبداع" (www.almultaka.net) الذي عقد مؤتمراً دولياً بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي (بيروت 11-12 شباط/فيراير 2006) تحت عنوان: "التطورات الحديثة في دراسة القرآن الكريم"، له عدد من الكتب، منها: "خطاب التجديد الإسلامي: الأزمنة والأسئلة" (بالاشتراك 2004) و"الإسلام في عالم متغير: سياسات الإصلاح الإسلامي بعد 11 أيلول" (بالاشتراك 2005)، و"حداثات إسلامية" (بالاشتراك 2006 تحت الطبع)، و"المفردة القرآنية: دراسة أصولية لسانية في نظام المعنى" (2006 تحت الطبع) وله عدد من البحوث والدراسات، منها: "تأسيس أصول التفسير وصلته بمنظور البحث الأصولي" (2005)، "المفردة كأداة لتحليل الخطاب القرآني" (2006)، وله كثير من المقالات في الصحافة العربية.

-----------------
نص الحوار

س: أولا ما أهمية توضيح القرآن من خلال تفسيره أو تحليله أو دراسته مادام كتابا عربيا مبينا، إضافة إلى إحجام الرسول عن إيضاحه؟ ثم ما أهمية تطوّر /أو تطوير وسائل اكتشافه؟ 

علينا هنا أن نلاحظ أمرين: 
أولاً: الحاجة بالنسبة للقرآن ليست في توضيحه وبيانه، بل في تأويله، فالكتاب الكريم (القرآن) فعلاً عربي ومبين لمن يريد قراءته، والمسألة هي أن هذا الكتاب يتضمن رؤية وأحكاماً تجمع طرفي التاريخ: البداية والنهاية، وإذا لم نكن مهتمين بالماضي كثيراً فاهتمامنا بالمستقبل لا مفر منه، القرآن يطرح نفسه رسالة تغطي المستقبل حتى نهاية التاريخ الوجودي للبشر في هذه الدنيا (يوم القيامة)، وهذا يقتضي من المسلم مساءلته دائماً وأبداً عن مستقبله، ويسترشد به في مساره... 

ثانياً: قدرة النص الكريم (وهي قدرة فائقة دون شك) على المعاصرة، أي أن يكون له معنى راهناً يتطلب من العصر ذاته مساءلته وامتحانه باستمرار، لأن العصر ليس إلا المعرفة الجديدة وتجلياتها، بهذا المعنى فإن المعرفة الجديدة هي التي يمكن أن تتحقق من معاصرة القرآن وقدرته على مواجهتها أو التفاعل معها يمكن أن يقدم تصورات جديدة لم نكن قادرين على رؤيتها؛ لأن أفقنا الثقافي والمعرفي كان أقل... وأحيلك هنا إلى نظرية "هانس روبرت ياوس" في "أفق التوقع"، وهي نظرية تستحق كثيراً من الاهتمام بالنسبة لدارسي القرآن، مع اختلاف الثقافة والمعرفة التي تكون خلفية القارئ تتفتح آفاق مختلفة، فيرى كل قارئ أشياء مختلفة، وكلما كان الاختلاف جذرياً في الخلفيات الثقافية والمعرفية سيكون هذا مؤثراً بشدة على ما نراه في النص من احتمالات تأويل. 
باختصار حاجة المعاصرة هي حاجة لاكتشاف تأويلات ومغازي (جمع مغزى) جديدة، تثبِّت موقع القرآن ودوره كرسالة خاتمة، من هنا تأتي أهمية تطور وسائل استكشاف معاني القرآن وتأويلاته التي سألت عنها. 

س: إذا كان نزول القرآن فرَق التاريخ إلى قسمين هما ما قبل وما بعد النزول، فما الذي يفرق بين مرحلتي التفسير التقليدي والقراءات المعاصرة للقرآن الكريم؟ 
أو ما هي أهم الأحداث الفكرية والتاريخية التي ساهمت في بلورة التوجهات الجديدة لتفسير القرآن الكريم؟ 

الحقيقة أن تاريخ التفسير تواريخ وليس تاريخاً واحداً، ورغم أنه من التجاوز وضع التفسير التقليدي كما لو أن له تاريخ واحد، أو كما لو أن مفهوم التقليدي واضح، لكن مع ذلك .. فإن المسار من "التفسير التقليدي" إلى "القراءة المعاصرة" مرَّ عبر مرحلة وسيطة هي "التفسير المعاصر"، وقد شرحت في دراسة سابقة لي بعنوان " أيديولوجيا الحداثة في القراءة المعاصرة للقرآن" مميزات المرحلة الوسيطة هذه، سأعتبر ابتداء أن "التفسير التقليدي" يعتمد على نسق ثقافي ومعرفي ينتمي إلى الحضارة الإسلامية، فهو تفسير لا تدخله أي معارف جديدة، وبالتالي فإن تصوراته للعالم (فيما دون المستوى العقدي) تنتمي إلى عالم آخر، إلى التاريخ بصراعاته وخلافاته، وهذا يفسر استمرار حضور التاريخ الفكري (المذهبي وربما السياسي) في كل ما يمكن وصفه بالتفسير التقليدي بهذا المعنى، إنه التفسير الذي لا يتصل منهجياً بالمعرفة الغربية الحديثة أو المعاصرة. 

"التفسير العصري" ولد بتأثير استعارة من نتائج المعرفة الغربية الحديثة، لكن دون الاستفادة من المسألة المنهجية، وهو يعود تاريخياً إلى المدرسة الإصلاحية (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده)، لكنه ما اكتسب اسم المعاصرة حتى سك "مصفى محمود" (في مصر) تعبيره "التفسير العصري" في السبعينيات من القرن المنصرم، والمتابع للتفسير العصري لا يجد تحولاً على المستوى المنهجي، ما تزال الآلية والأدوات المستخدمة في التحليل والتفسير هي هي، ولكن الذي تغير هو تصور المفسِّر للعالم (Weltanschauung) أو (World View)، ومن الواضح أن الأدوات المنهجية التقليدية لم تساعده على إسقاط رؤيته الجديدة للعالم المتأثرة بقوة بالتصور الأوربي له، لهذا جاءت تأويلاته في كثير من الأحيان متعسفة، ولم يستطع تقديم تفسير متكامل للقرآن، فهو لن يستطيع بأدواته سوى تكرار ما قيل، لكن ما استطاع القيام به هو إجراء تأويلات على تلك الآيات التي تتصل بتصوره الجديد عن العالم. 

أما "القراءة المعاصرة" فهي شيء جديد كلياً، جديد على مستوى الأدوات والمناهج؛ إذ يحيلنا مصطلح "القراءة" إلى اللسانيات الحديثة، واللسانيات هي في المحصلة مناهج ونظريات تمثل بمجموعها أدوات بحث، يضاف إلى هذه الأدوات تصور جديد للعالم ليس هو التصور الذي وجد في "التفسير العصري"، بل هو تصور راهن متأثر بحصيلة التصور الغربي وحداثته للعالم كما انتهى إليه اليوم، تعود بدايات ظهور القراءة المعاصرة إلى الأربعينيات مع "مدرسة الأمناء" في مصر، وقد يكون الفضل للكاتب السوري "محمد شحرور" سك مصطلح "القراءة المعاصرة" نظراً لما أثارته قراءته من ضجيج، وبذلك أصبحت القراءة المعاصرة قادرة على قراء القرآن بشكل كلي، لكن المشكلة ـ كما يبدو لي ـ أن "القراءة المعاصرة" (كنظرية لا كتطبيق) أصبحت غير قادرة على قراءة تامة لكل النص، كما هو الحال في التفسير التقليدي، فمفهوم النص أصبح مختلفاً، وحديث اختلاف "مفهوم النص" حديث طويل. وأعتقد أنني أجبت ضمناً على الشق الثاني من سؤالك. 


س: ما هي الإضافات الحقيقة التي قدمتها القراءات المعاصرة سواء من حيث المقاربات المنهجية أو من حيث الكشوفات المعرفية؟ وما مدى العلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني؟ 

أريد أن أميِّز هنا بين "القراءة المعاصرة" كنظرية، و"القراءة المعاصرة" كتطبيق، فما قدمته القراءة المعاصرة كتطبيق أكثره أيديولوجيا وليس معرفة علمية، وغالباً أيديولوجيا ماركسية تاريخانية متزمتة، لهذا فإن بين الكثير الذي كتب تحت عنوان القراءة المعاصرة لا نعثر على محترمة تقدم معرفة جديدة، نعم نعثر على الكثير من القراءة الاستفزازية، وخصوصاً قراءة "محمد شحرور"، مع ذلك فإن الشيء المهم الذي قدمته القراءات المعاصرة للقرآن أنها استنفرت الباحثين والدارسين للقرآن للاطلاع على المناهج اللسانية الحديثة، لتتحول مسألة القراءة المعاصرة إلى مسألة حاجة تاريخية، وليست مرتعاً للأيديولوجيات المريضة. 

أما سؤالك عن العلاقة بين الواقع التاريخي والنص القرآني فهو سؤال عن أخطر القضايا المتعلقة بالقرآن، ولا يتسع المجال هنا لمناقشتها، لقد أدى بي البحث في هذا الموضوع إلى الخلاصة التالية: إننا أمام افتراض إيماني بأن هذا النص إلهي ويحمل رسالة خاتمة، وهذا يقتضي أن تكون أحكامه فوق تاريخية، أي تحكم التاريخ ولا تحتكم إليه، وانطلاقاً من ذلك إذا لم يُحِلْ النص من داخله إلى تاريخية مفاهيم أو أحكام ما فإنه يبقى على الأصل، أي فوق تاريخي، وهذا عموماً متعلق بالأحكام، والصيغ التي ترد فيها الأحكام عموماً لا تشي بأي تاريخية، وفي هذه المسألة بالذات فإن أي تاريخية يمكن أن تقال هي في الواقع من خارج النص، ومادام النص لا يبوح بها، فليس ملزماً بها. 

أركون 
أما ما يرد بشكل واضح وصريح من الأحداث وبعض الأحكام، فهو كما أشار إليه النص، حقائق تاريخية محددة الأشخاص والأزمنة والأمكنة... الغريب أن المسألة معكوسة لدى الحداثيين العرب الذين يزعمون تقديم قراءة معاصرة للقرآن، فهم يجعلون الأحكام تاريخية ويخرجون الأحداث عن سياقها التاريخي تحت مزعم "الرمزانية" و"الأسطرة"! كما لو أنهم يقدمون قراءة مضادة أيديولوجياً، هم مسكونون بدون شك بمواجهة النص الديني وإزاحته عن طريقهم انطلاقاً من رؤية وضعية حداثوية. 

س: الفرق بين التفاسير القديمة مثل تفاسير الطبري /القرطبي/ابن كثير... أو حتى التفاسير المعاصرة مثل الظلال/ صفوة التفاسير/ المنار... وبين القراءات المحدثة مثل قراءات الحاج حمد/أركون/أبو زيد...يكمن في كون القراءات المحدثة تم الاختلاف عليها بشكل كبير جدا إلى حد رفضها بالمجمل عكس التفاسير السابقة لها؛ إذ نجد اتفاق شبه عام حولها على الأقل من حيث المنهج، هذا إضافة إلى كون جل التفاسير المحدثة تفاسير جزئية غير متفرغة تماما لإتمام التفسير وهو ما يعاكس تماما نهج التفاسير القديمة الكاملة للقرآن الكريم، إلى ماذا يرجع الأمر؟ أم أن المعاصرين أصبح عاجزين حقا عن تتبع القرآن كلية؟ 

الاختلاف في المناهج في القراءة المعاصرة يرجع إلى سببين: 
الأول: الاختلاف الهائل في العلوم التي تستند إليها هذه المناهج، فمن يقرأ البحث اللساني والعلوم الاجتماعية المتولدة عنه سيكتشف حجم الاختلاف، ولكن من المفترض أن يؤدي هذا الاختلاف إلى زيادة في الفهم، وليس إلى تناقض محتَّم كما هو حاصل غالباً؛ لأن التعدد المنهجي يفترض تعدد زوايا الرؤية. 
هذا يقودني إلى السبب الثاني، فالأيديولوجيا المستفحلة في القراءة المعاصرة هي السبب الأساسي لتحوُّل التعدد المنهجي إلى تصارع منهجي وتصارع في القراءات ونتائجها. 
لكن أيضاً ـ كما أشرت سابقاً ـ إن تغير مفهوم النص وتعدد الأدوات وطرق البحث في القرآن من أصغر وحداته الدلالية إلى جملة بنيته النصية فالخطابية جعلت قراءة القرآن كله أمر غير ممكن نظرياً ألبته، الممكن الوحيد في القراءة المعاصرة هو كشف وتحليل جزء من الخطاب الكلي، وبالمناسبة الميزة الكبيرة للقراءة المعاصرة هو اتجاهها نحو الخطاب الكلي، وليس المعنى الجزئي، وعبر وسائل لم يكن مفكراً فيها من قبل ألبته. 

حاج حمد 

س: إذا اخترنا دراسات كل من الحاج حمد في العالمية الثانية/والمنهجية المعرفية في القرآن، و أركون في تحليل الخطاب القرآني، نجد أن الأول متهم بالغنوص وادعاء النبوة والثاني متَّهم بمحاولة أنسنة النص القرآني أي معادلته بالنصوص التي يكتبها البشر، ما رأيكم في الاتهامات؟ وكيف ترون إسهامات كل من الرجلين؟ وما هو التصرف الذي ترونه الأمثل حيالها؟ أهو الإقصاء مثلاً؟.. 

هذه الاتهامات فيها بعض الصحة، لكنها تعمم أكثر من اللازم، بالنسبة لأبي القاسم ـ رحمه الله ـ فإن دراسته (العالمية الإسلامية الثانية) موغلة في بعض الأحيان في التصوف، لكن هذا الإيغال على وضوحه لا يشكل جزءاً مهماً من أطروحته، إن أطروحته فريدة دون شك، ومثيرة، لكن المنهجية التي قامت عليها فيها مشكلات عديدة، وهو لم يلتزم بها أصلاً، فنفي الترادف والاشتراك والمجاز على مستوى التحليل الغوي، ثم التأثُّر بالرؤية الماركسية لحركة التاريخ ولكن في إسقاط اجتماعي ديني (الآدمية، العائلية، القومية، العالمية) كل هذا يجعل من الموضوع يحتاج إلى كثير من التريث، على مستوى المنهج المشكلة عميقة وجوهرية، ولو أننا قمنا بمراجعة ما يقوله لوجدنا أخطاء لا تحصى... لكن المسألة الخطيرة التي استطاع أبو القاسم إنجازها هي ابتكار منهج جديد في فهم القرآن أسهم ـ على علاّته ـ بالدفع نحو تطوير الدراسات القرآنية، كما أنه قدم أفكاراً على غاية من الأهمية، ثم إنه كان على طول أطروحته وتطوراتها اللاحقة في الأبحاث الأخرى مدافعاً شرساً عن إطلاقية القرآن ونسبته الإلهية.
لقد كان مؤمناً بشدة بالقرآن، لكنني ما كنت أتوقع أن ينتهي في دراساته نهايات مخيبة للآمال، لم أتوقع أبداً أن يتأثر (في دراساته الأخيرة) بشحرور مثلاً، شحرور أقل عدة بكثير من أن يتأثر به أبو القاسم، وشحرور يقف على خلفية فلسفية ماركسية، لقد كنت أتوقع من أبي القاسم أن يطور منهجه، لكنه بدل أن يتطور تراجع، ورسالته لي في (23/3/2004) كانت في جوهرها تأكيداً لنفس المنهج منذ خمس وعشرين عاماً! 

أما محمد أركون فليس يخفي رغبته بأنسنة النص، وإحالته إلى التاريخ، أركون مؤمن بالعلمانية بالمعنى المادي العقدي، الرجل ينظر إلى النص على أنه من إنتاج محمد (صلى الله عليه وسلم) حسب كلامه فإنه يريد "أرخنة الخطاب القرآني ذاته" و"تأصيل وتجذير للإسلام في أرض المعرفة الوضعية" من أجل "أن نعيد القرآن بشكل علمي إلى قاعدته البيؤية والعرقية ـ اللغوية والاجتماعية والسياسية ـ الخاصة بحياة القبائل في مكة والمدينة في بداية القرن السابع الميلادي" (حسب تعبيره حرفياً) هذه الأهداف يصرح بها في أكثر من موقع في مختلف كتبه، وخصوصاً كتبه الأخيرة منذ عام 1998 (أي منذ كتاب: "قضايا في نقد العقل الإسلامي: كيف نفهم الإسلام اليوم"). 

وحتى لو كان أركون يسعى نحو التاريخية، فإن ذلك لا يمنع أن دراسات أركون التي تقوم على تعدد منهجي تقدم إسهاماً رائعاً في فهم القرآن فيما لو حذفنا شقها الأيديولوجي، فمثلاً دراسته لمفهوم الوحي كتابه "القرآن"... أركون عالم كبير، لكنه أيديولوجي مثله مثلَ كثيرين غيره، ومسألة أرخنة القرآن جوهر عمله في سياق رغبته الإصلاحية بـ "تحديث الإسلام"، أي إدخال العالم الإسلامي في نسق الحداثة الغربية ذاتها، تماماً كما حصل مع المسيحية. 

أنا لا أنصح أبداً أن يقصي الباحث أي دراسة عنه مادامت جادَّة، لكن لا يعني هذا أن تدرَّس في جامعتنا التي اعتادت على التلقي، على الأقل في المراحل الجامعية الأولى، فمن المبكر أن يحصل هذا، يجب إصلاح التعليم أولاً، وليس ثم ما يمنع بعد ذلك من تدريس أي شيء من ذلك، أنا من حيث المبدأ ضد القيود، ليس هناك تطور للمعرفة دون حرية، الحَجْرُ يضر بالبحث العلمي، ولا يملك أحد الوصاية على الآخرين. 


س: اقترب مالك بن نبي من إنجاز دراسة قرآنية في كتاب "الظاهرة القرآنية" قدم فيها تحديدات أساسية للتعامل فكريا مع القرآن في ضوء علاقة المثقف المسلم وتأثره بالفكر الغربي، لكنه لم يفعل كون إشكاليته الأساسية تختص بعلاقة النبي (ص) بالوحي (القرآن)، لكن ألا ترى أن النتائج التي توصل إليها كانت ستكون المنطلق الأفضل للتقدم بمسيرة التفاعل مع القرآن في حين نجد أن أغلب المفكرين التالين له و الذين خاضوا في مكاشفة القرآن معنى ومنهجا بصورة تنطبق كثيرا على انتقادات بن نبي للمثقفين الذين بهرتهم وضعية الغرب وواقعيته إلى حد أنهم تجرؤا على أنسنة القرآن وأرخنته؟ 

لم أفهم سؤالك جيداً، لكن ... ما قدمه بن نبي مهم جداً على بساطته، وهو بداية مهمة لاكتشاف الشخص الثالث في الخطاب القرآني (أعني (الله) تعالى)، ما قدمه بن نبي يستحق المتابعة، وللأسف لم تتابع، واعتمد بن نبي أدوات تحليل بدائية نسبة إلى ما هو موجود اليوم، ونحن مدعون لمتابعة هذا النوع من الدراسات المقارنة مع الكتب السماوية الأخرى (الإنجيل والتوراة)، ونحن في هذا المجال ما زلنا في البداية وعلى الرغم من أن لدينا ما نقوله، لكن الدراسات القرآنية مشغولة بعد بمسائل تقليدية.... أغتنم هذه الفرصة لأدعو الباحثين للتقدم باتجاه دراسات تحليل الخطاب المقارنة بين القرآن والكتب الأخرى، واعتقادي أن دراسات عميقة من هذا النوع مفيدة في مواجهة التاريخانية التي يتعبد بها الاستشراق التقليدي. 
أشير في هذا السياق إلى الدراسة المهمة التي قام بها الدكتور مصطفى بوهندي (نشرتها "دار الطليعة" في بيروت 2004) وهي دراسة مميزة، يمكن أن يبنى عليها ويتابع الجهد الكبير المبذول فيها. 

س: نجد أن المنطق الذي يحكم تعامل الفكر الإسلامي في كل أحقابه يتمحور أساسا إما إلى دعوة دوغمائية للعمل بالقرآن الكريم وإما تعامل شبه معرفي يعتمد الإنشاء والتزويق في الكلام عن الخطاب القرآني؛ ما هو السبيل الأقوم لاستخراج المكنون القرآني وتحقيق حضوره الفعلي في التاريخ عبر تنزل قيمه إلى الواقع وتفعيلها فيه؟ هل من آليات إجرائية؟ أم أن التفكير البراغماتي الموصول بالقيم مازال غضًّا في الفكر الإسلامي علينا انتظار نتائجه مستقبلا...؟ 

سؤال تنزيل القرآن على الواقع سؤال كبير جداً، ولا أعرف بالضبط حتى الآن كيف يمكن تحقيق ذلك على نحو مثالي، لكن أعرف أننا ما زلنا في البداية، ليس بالإمكان أن نفعل ذلك دون أن نحقق معاصرتنا، أعني فهمنا المعاصر للقرآن، والفهم المعاصر لا يعني بالضرورة نفياً للفهم التقليدي، نحتاج أن يكون القرآن سبيل لمراجعة شاملة للتراث الفكري الديني، وبدون هذه المراجعة النقدية الشاملة، والقراءة المعاصرة للقرآن، ليس بإمكاننا أن نحقق هذا التنزيل على الواقع، وأي تفكير بالتنزيل بالمعنى الحرفي للكلمة على أرض الواقع دون إحداث هاتين العمليتين سيكون تفكير تبسيطي للقضية. 


س: يعتبر غارودي أن المسلمين أخلطوا كثيرا بين "الفقه" و"الشريعة" ويرى أن أساس تحرير الإنسان المسلم هو التمييز بين المفهومين كون الفقه تقنين قرآني لا يقارن من حيث الكم بما ورد في النص القرآني من تشريع كان الأساس في كل الرسالات السماوية وسبب نهوض الجيل الأول من حملة الإسلام، لذلك علينا نحن المسلمين إذا شئنا النهضة أن نعطي الأولوية للشريعة قبل الفقه، ما مدى موافقتكم لهذا الرأي؟ وكيف يجب أن نتعاطى مع المضمون القرآني الرحب للوصول إلى القضايا الأساسية للنهضة؟ 

نعم هناك فرق بين الفقه والشريعة، كما هناك فرق بين الدين وفهم الدين، والنص وفهم النص، لكن غارودي يذهب بعيداً عندما يعمم التاريخانية على أكثر أحكام الشريعة وليس فقط الفقه الإسلامي، أتفق مع غارودي أن علينا أن نعطي الأولوية للشريعة، نعم أتفق معه، ولكن لست معه في المنحى التاريخاني الذي ذهب إليه، ولا في تحديده لما هي حدود الشريعة في نصوص القرآن الكريم.... لماذا لأنه لا يوجد نص دون فهم له، ليس هناك نصوص دينية عذراء، النصوص ليست معلقة في الهواء، لا توجد شريعة دون فقه لها، الدين لا يتجلى إلا من خلال فهم ما له، والتاريخانية تظل أبداً تطارد هذا الفهم، وتبقى على تخوم النص القرآني، وفي غيره تطاله دوماً. 

سؤال النهضة هذا شبيه بسؤالك السابق عن التنزيل، لكن باختصار أي تفكير بالنهضة يمر عبر القرآن، عبر إعادة قراءته، ونحن ما زلنا نحلم بإعادة قراءته، الآن نحن في طور تطوير الأدوات والمنهاج، في بداية توجه نحو ابتكار طريق ومناهج جديدة للتعامل مع القرآن الكريم، مازلنا في البداية، وعندما يصبح لدينا علم واضح لأصول التفسير يستثمر كل ما أبدعته المعرفة الإنسانية إلى اليوم، عندها يمكن القول إننا نتقدم، وأننا على مشارف صناعة خطاب إسلامي جديد يمكن الثقة به. 

وباعتقادي أن الفكر ليس وحده يصنع التغيير، لكن بدونه لا يمكن أن يحدث تغيير حقيقي، إلا إذا كان التغيير مجرد التحاق بالآخرين، وأنا أرفض القبول بذلك.
 



تاريخ النشر : 09-09-2006

6629 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com