حذرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) مطلع هذا العام من خطورة ظاهرة الأمية التي لا تزال مرتفعة في العالم العربي، حيث يبلغ عدد الأميين نحو 100 مليون نسمة، أي ثلث عدد السكان، إذ وصل معدل الأمية في المنطقة وصل إلى 29.7 بالمئة، كما طالبت الأمم المتحدة بتحقيق التعليم للجميع بحلول عام 2015 في جملة أهداف تنموية تبنتها واعتبرتها جزءا من "أهداف الألفية الجديدة"، وبعد شهر تقريباً من تحذير (الألسكو) من خطر الأمية صدر تقرير عن البنك الدولي حديثاً حول "إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، أكد فيه أن أسلوب التعليم السائد في معظم المدارس ببلدان المنطقة لا يشدد على ضرورة تمتع الطلاب بمهارات حل المشاكل، والاتصال والتواصل، والإلمام باللغات الأجنبية التي يقتضيها عالم اليوم وما يشهده من منافسة شديدة وتغييرات تكنولوجية سريعة، ويضيف، "بالنظر إلى أن التعليم هو المصدر الرئيسي لخلق المعرفة، فإن هذه المهمة واضحة جلية. ولذا، فمن اللازم تغيير أنظمة التعليم حتى يمكنها توفير المهارات والخبرات الجديدة اللازمة للتفوق في بيئة أكثر تنافسيّة".
إن خلاصة ما تصل إليه التقارير أن الدول العربية لا تزال غير مدركة لضرورة العناية الفائقة بقضايا التعليم، وأن ما تحقق لا يزال دون الطموحات، فنسبة القيد الإجمالي فيها أقل من 30%، أي إن معظم الأطفال لا يحظون بفرصة للتعليم، كما لم تفلح الدول العربية في رفع نسبة المقبلين على التعليم أكثر من (11.6%) خلال الفترة (1999 -2005) مع ملاحظة تزايد أعداد السكان، وإن عدد من تم محو أميتهم أقل ممن دخل نادي الأمية في العالم العربي، فبلغت نسبة من يقرأ ويكتب في الدول العربية (قرابة 71%)، والمرأة العربية تتحمل عبء الأمية والجهل أكثر من الذكور، فهناك حوالي 74 متعلمة مقابل 100 رجل متعلم، هذا فضلاً عن ضعف جودة التعليم وضعف بنيته التحتية ومستلزماته، ونقص عدد المعلمين بالنسبة لعدد الطلاب، إذ يتكفل معلم واحد بتعليم أكثر من 40 طالباً في صفه.
إن تحذير (اليونيسف) و(اليونيسكو) و(الألكسو) من استمرار ظاهرة الأمية في البلاد العربية، ينبغي ألا يتعامل معه على أنه مجرد خبر عن الوضع الثقافي تتناوله وسائل الإعلام، - كما حصل - فهو مؤشر خطير حول المستقبل، فتقدير عدد الأميين من العرب بما يزيد عن تسع وتسعين مليون نسمة، أكثريتهم من النساء (46 في المئة)، وممن تزيد أعمارهم على 15 سنة، يعني أن ثلث العالم العربي لا يعرف القراءة والكتابة، ويعني أيضاً ما يتبع ذلك من تخلف شامل لا يقتصر على العلم والاقتصاد والسياسة، بل سيشمل التربية والصحة والبيئة، بل وضعف تعليم الأجيال القادمة أيضاً، ما سيكلف المجتمعات والدول أضعاف ما لو تمت مكافحة الأمية اليوم قبل الغد، ويؤكد حقيقة لا تلتفت إليها الدول وهي أن استمرار الأمية يكلف ثمناً أعلى من تكاليف محوها.
إن بيان (الألكسو) لا ينكر الجهود العديدة التي بذلت على الصعيد العربي، لكنه يلفت النظر إلى أن ملف الأمية لم يرتق إلى مستوى الأهمية التي ينبغي أن ينالها في المنطقة العربية التي تعد 335 مليون ساكن، كما أن المنظمة نفسها كانت وضعت منذ تأسيسها عام 1970، رؤية مستقبلية لمحاربة الأمية ضمت «أول إستراتيجية لمحو الأمية في البلاد العربية العام 1976» كما أنشأت «الصندوق العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار» عام 1980، لكن النتيجة هي ما حذرت منه المنظمة نفسها، وهذا يدعو إلى طرح التساؤل عن دقة التخطيط وآليات التنفيذ، وضرورة إصلاح المنظمات الإقليمية العربية والارتقاء بها إلى مستوى يتجاوز السياسي والمحلي في العمل والتنفيذ، فتلك المنظمة لم يسمع بها الأميون في العالم العربي، بل إنهم لا يعرفون مخاطر أميتهم، في وقت تتكاثر فيه وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة كالفطر، وتنفق عليها أموال طائلة، ويعرفها الأميون ويعرفون عنها أكثر مما يعرفون عن مخاطر أميتهم.
إن المجتمعات العربية إذ تستقطبها طبقية حادة في الغنى والفقر سيتبعها طبقية أشد في الثقافة، إذ إن ثلث العالم العربي الأمي إذا لم يعالج أمره (وهو في عمر ما بين 15 سنة و45 سنة) سيزيد عدده في المستقبل، لأن الأسرة تؤثر في مستقبل أبنائها، فأسرة أمية لن تحرص على محو أمية أبنائها، بل إن نسبة المتسربين في المسجلين في المدارس ليست بالقليلة، فضلا عن الذين لم يذهبوا إلى المدرسة أصلاً وهم غير محسوبين ضمن الإحصائية.
هذا عن الأمية القرائية أما الأمية التي لا تقل أهمية والتي بدأت تشغل هموم العالم المتقدم تكنولوجياً فإن لها في عالمنا العربي مؤسسات تخرج أميين من نوع جديد، فالتعليم النظامي بالكاد يمحو أمية القراءة والكتابة، أما التعليم الذي يسهم في نمو المجتمع وتطويره فهو مشروع آخر، فحتى الجامعات أصبحت تخرج طوابير من العاطلين عن العمل، في الوقت الذي تحتاج فيها المؤسسات العامة والخاصة إلى كوادر لشغل وظائفها فلا تجد أهلاً لذلك، فتلجأ إلى انتقاء نخبة النخبة وإعادة تدريبها وتعليمها من جديد، حتى الجامعات نفسها وقد تجاوز عمرها عقوداً من السنين ما تزال تحتاج إلى خبراء من غير أبنائها لمعالجة مشكلاتها!!. فما حذر منه تقرير البك الدولي هو وصف دقيق لواقع الحال.
إن الفجوة الزمنية التي تفصل العالم العربي عن العالم المتقدم تكنولوجياً والتي يقدرها الباحثون بقرن من الزمان هي بازدياد ما لم يلتزم العالم العربي بحلول إسعافية ووقائية للمستقبل، وهي حلول يمكن أن تكون سحرية لو صدقت الإرادة وحسن التخطيط والتنفيذ.
فمشكلة الأمية والتعليم ينبغي أن تتجاوز اختصاص وزارات التربية والتعليم لتصبح مشكلات وطنية ومن الدرجة الأولى، ولو بلغت مشكلة الأمية هذا المستوى من الوعي بمخاطرها، فإن المبادرات الأهلية في الوطن العربي يمكنها أن تقدم حلولاً تساعد الدول في تجاوز هذه المشكلات، فالمال العربي ينفق بسخاء في كل شيء، بل إنه يهدر في أشياء كثيرة مفسدة، ولا يجد طريقه إلى بناء العقول العربية، ويمكن للقليل مما يُبَذَّر أن ينفق في محو الأمية وتطوير التعليم لو وجِّه بطريقة أمينة، وأن يسهم بشكل فعال في معالجة الأمية وتشغيل أعداد هائلة من خريجي الجامعات من العاطلين عن العمل في معالجة هذه المشكلة.
لقد كان حرياً بعواصم الثقافة العربية في مواعيدها أن تقترن احتفالاتها ببرنامج خاص لمعالجة هذه المشكلة، وأن يكون من أهم انجازات احتفالاتها عدد الأميين الذين تسهم في محو أميتهم، فمعالجة الأمية ينبغي ألا يقل الإنفاق الخاص عليها مما ينفق على الفن الذي يستر ما تخفيه تلك المجتمعات من آلاف الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة فضلاً عن الثقافة.
فما أنفق على الاحتفال الشعبي بانطلاق فعاليات دمشق عاصمة للثقافة العربية (40 مليون ل.س تقريباً) يكفي مبلغ مثله لتشغيل 300 مدرس من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل ولمدة عام بأجر لا يقل عن 200 دولار شهرياً (تعادل راتب المعلم المعين في وزارة التربية) وكل واحد يمكن أن يسهم في محو أمية مئة شخص على الأقل خلال عام من العمل، أي أن كلفة الاحتفال بليلة انطلاق دمشق عاصمة للثقافة العربية كافية لمحو أمية ثلاثين ألفاً، أما البنية التحتية لذلك فهي متوفرة في كل قرية في العالم العربي، هي المساجد موطن التعليم الأول، يمكن استخدامها في أفضل عبادة (التعليم والتعلم).
إن المشكلات الكبيرة ينبغي البحث لها عن حلول من بيئتها، وينبغي تعزيز دور المبادرات الأهلية في حلها، والحلول الرسمية هي جزء من الواجب، وينبغي ألا تتحول خطط الحلول إلى عُقد أكثر في مشكلات يمكن حلها بمبادرات بسيطة.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.